المعيار العضوي لتحديد طبيعة صفقة المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري
المقصود بالعقد الإداري حسب هذا المعيار، هو ذلك العقد الذي تبرمه الأشخاص المعنوية العامة الخاضعة للقانون العام، مع أشخاص قانونية أخرى، بغض النظر عن موضوع العقد ذاته، فقد يكون صفقة عمومية حسب التعريف الوارد في المرسوم الرئاسي 02-250، أو أي عقد آخر، تكون الدولة أو الولاية أو البلدية أو المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري طرفا فيه، فالعبرة إذن بأطراف العقد وليس بموضوعه أو مبلغ الإلتزامات التي يحتويها.
بالرجوع إلى أحكام المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية نلاحظ أن المشرع كرس هذا المعيار، كمعيار أساسي ووحيد، وفي ذلك يرى الأستاذ أحمد محيو بعد التذكير بالنتائج المستخلصة من دراسة النظرية الكلاسيكية حول عقد، وبأنها لا تسمح بتفسير الحالة السائدة في الجزائر خاصة ما يتعلق بالإختصاص القضائي، مؤكدا أن “الواقع لأنه حول ما يمس هذه النقطة، يعتبر المجلس القضائي الفاصل في المواد الإدارية، مختصا على الدوام في حالة نزاع، بمجرد كون أحد أطراف النزاع شخصا عاما، دون أخذ الصفة العامة أو الخاصة للعقد بعين الإعتبار. وهذه نتيجة منطقية للمادة السابعة من قانون الإجراءات المدنية، المؤيدة من جهة أخرى بقانون صفقات الدولة الذي يعتمد بدوره المعيار العضوي في وصف الصفقات العامة” [1].
وعليه بمفهوم المخالفة، لما جاء به الأستاذ أحمد محيو، فإذا طرح على القضاء الإداري نزاع يتعلق بعقد لا يكون أحد أطرافه شخصا عاما، فعليه أن يصرح بعدم اختصاصه في النظر في مثل هذا النزاع.
هذا ويضيف الأستاذ أنه فيما يتعلق بالإستثناء الوارد بالمادة 7 مكرر من قانون الإجراءات المدنية، فيمكن تفسيرها عن طريق الإشارة إلى توزيع الإختصاص السابق وإلى الجدل الذي دار حول معيار المرفق العام، الذي أصبح صناعيا وتجاريا، نجمت عنه مصاعب تمس أولا موضوع التكييف القانوني للمرفق العام الصناعي والتجاري.
ويخلص إلى أن الإستثناءات الواردة في المادة 7 مكرر من قانون الإجراءات المدنية تكون قد وضعت حدا للصعوبات التي نتجت عن ظهور المرافق العامة الصناعية والتجارية، وبسطت مهمة المتقاضي الذي لم يعد يتعين عليه التساؤل حول القاضي المختص، ذلك أن هذه الإستثناءات تجعل القاضي العادي هو المختص [2].
هذا الرأي يسانده الأستاذ محمد قطان الذي أكد أن القاعدة الواردة في المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية من النظام العام ولا يمكن مخالفتها، ذلك أن الغرف الإدارية لا تكون مختصة إلا إذا كان هناك شخص عمومي معني [3]، وتبنى الدكتور عمار بوضياف نفس الموقف [4].
وهو نفس ما يراه الأستاذ بن ناجي شريف، الذي يعتبر أن القضاء العادي هو المختص في نظر هذا النوع من النزاعات، على اعتبار أن طرف النزاع هو مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري، وأنه منذ 1982 فقد مالت الصفقات العمومية في الجزائر نحو عقود القانون الخاص [5].
هذا الإتجاه قد كرسه قضاء مجلس الدولة عندما قضى أن: “القاضي الإداري غير مختص للبت في النزاع القائم بخصوص إبرام صفقة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري صفقة عمومية ” [6].
كما اتخذ نفس الموقف عندما صرح في قضية أخرى أن: “الوكالات المحلية للتسيير والتنظيم العقاري الحضري هي مؤسسات ذات طابع صناعي وتجاري وبالتالي لا تكون نزاعاتها القائمة مع متقاضين خاضعين للقانون الخاص من اختصاص الجهة القضائية الإدارية ” [7].
الملاحظ أن قضاة الغرفة المدنية بمجلس قضاء قالمة متمسكون باختصاصهم بنظر النزاعات المتعلقة بالصفقات العمومية التي تبرمها المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري، كما هو الحال في القضية بين ديوان الترقية والتسيير العقاري بقالمة ضد مقاولة أشغال البناء، الذين يعتبرون أن الإختصاص ينعقد للقضاء العادي ولو تعلق الموضوع بصفقة عمومية [8].
وهو ما كرسه قضاة الغرفة الإدارية بذات المجلس الذين قضوا بعدم الإختصاص النوعي في قضية تتعلق بصفقة عمومية رفعت من طرف مقاول ضد ديوان الترقية والتسيير العقاري وولاية قالمة، فبعدما ثبت لقضاة الغرفة الإدارية أن الولاية غير معنية بالنزاع، قضوا بإخراجها من الخصومة وصرحوا بعدم الإختصاص النوعي متمسكين بصراحة المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية [9].
وهو ما كرسه قضاة القسم التجاري لمحكمة قالمة، بفصلهم في القضايا المتعلقة بالصفقات العمومية التي يكون أحد أطرافها مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري، مثل القضايا التي تخص ديوان الترقية والتسيير العقاري بقالمة ضد المقاولين المتعاقدين معه [10].
لذا وبناء على ما سبق يعتبر هذا الإتجاه هو الأصح والذي ينبغي التمسك به، لأسباب قانونية هامة تتمثل فيما يلي:
– أن نظرية المرفق العام، التي تعبر عن المعيار المادي، ليست لها في الجزائر نفس المكانة التي عرفتها في النظام القانوني الفرنسي [11].
– أن نظرية المرفق العام قد عرفت أزمة حادة أدت بالقضاء الفرنسي إلى التراجع عنها.
– أنه لا يجب القياس في تحديد طبيعة الصفقة العمومية التي تبرمها المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري على تعريف القرار الإداري بناء على المعيار المادي، ذلك أن دعوى الإلغاء دعوى موضوعية تنازع القرار في حد ذاته وليس مصدر القرار، ولذا على القاضي الإداري التمسك باختصاصه كلما لاحظ وجود عمل قانوني تتوفر فيه خصائص القرار الإداري، بينما المنازعات المتعلقة بالعقود لا تتوفر فيها هذه الخاصية، ذلك أن المنازعة تقوم بين المتعاقدين، وليس بين المتعاقد ضد العقد.
– أن المشرع الجزائري متمسك بالمعيار العضوي بنص المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية.
– أن المعيار العضوي بسيط يسهل على المتقاضين تحديد الجهة القضائية المختصة بنظر النزاع.
وفي هذا الإطار يرى الأستاذ بوسماح أن “انهيار المفهوم القانوني للمرفق العام في ميدان المنازعات ليس إلحادا علميا، وهو ليس سيء في حد ذاته من الناحية التقنية، لكونه يتفادى وجود نظام منازعات جد متطور، وبالتالي معقد مبني على المعيار المادي.
وبفضل وضوحه وسهولة استعماله، يبسط المعيار العضوي إجراءات المنازعات الإدارية، وهو يرضي كل واحد المتقاضي الممارس والقاضي، وبإشارته إلى فكرة السلطة العامة وإثارتها بقوة فإن المعيار العضوي يحدد هكذا مجال القانون الإداري” [12].
ويضيف الأستاذ بوسماح أنه لا ينبغي للقاضي الجزائري أن يحذو حذو القاضي الفرنسي في المسعى الذي ذهب إليه عندما طور نظرية المرفق العام، مؤسسا موقفه على حجتين قانونيتين قويتين، يستمد الأولى من الدستور، ذلك أن القاضي لا يخضع إلا للقانون، حسب الحكم المقرر بالمادة 147 منه، وأن هذا القانون يأمره بالخضوع إلى المعيار العضوي.
أما الحجة الثانية فيستمدها من المادة 116 من قانون العقوبات التي تجرم تدخل السلطة القضائية في صلاحيات السلطة التشريعية [13].
هذا ولابد من التأكيد من أن انعقاد الإختصاص للقاضي العادي لا يعني تمسكه بتطبيق البنود الواردة في الصفقة باعتبارها شريعة المتعاقدين، وأحكام القانون الخاص أي القانون المدني والقانون التجاري فقط، وإنما عليه تطبيق كل القواعد المتعلقة بنظام الصفقات العمومية ولو كانت قواعد القانون العام، فعليه الإلمام بالأحكام الواردة في قانون الصفقات العمومية، ومختلف دفاتر الشروط، لاسيما دفتر الشروط العامة للبنود الإدارية العامة، لأن الصفقات ذاتها عادة ما تنص عليها كقواعد قانونية تطبق على الصفقة ذاتها.
وفي ذلك يعبر الأستاذ قطان صراحة قائلا أنه: “حسب رأينا الخاص الأمر يتعلق بالعقود الإدارية الخاضعة لتنظيم الصفقات العمومية بينما النزاع الناتج عنها يخرج من اختصاص القاضي الإداري لكي يبقى من ضمن اختصاص القاضي العادي. هناك تناقض خطير بالفعل فهذا الأخير خلاف القاضي الإداري لم يتعود على القضايا الإدارية” [14].
وهنا تكمن المفارقة التي يعبر عنها الأستاذ بن ناجي شريف بقوله بأننا أمام فئة جديدة من العقود التي يسميها العقود ذات الشكل الإداري [15].
[1] د/أحمد محيو، المرجع السابق، ص 107.
[2] أحمد محيو، المرجع السابق، ص112 و113.
[3] د/ محمد قطان، محاضرة حول قانون الصفقات العمومية، ملتقى قضاة الغرف الإدارية 22- 23- 24 ديسمبر 1990، الديوان الوطني للأشغال التربوية، 1992، ص167.
[4] د/ عمار بوضياف، الوجيز في القانون الإداري، دار ريحانة، الجزائر، ص 168 و 188.
[5] د/ بن ناجي شريف، محاضرات في الصفقات العمومية ألقيت على طلبة الدفعة 14 بالمدرسة العليا للقضاء، السنة الأكاديمية 2004-2005.
[6] مجلس الدولة قضية ز.ش ضد المدير العام لمؤسسة التسيير السياحي للشرق ـ قسنطينة، ملف رقم 003889 الصادر في 05 نوفمبر 2002، مجلة مجلس الدولة رقم 3، لسنة 2003.
[7] مجلس الدولة قضية الوكالة المحلية للتنظيم والتسيير العقاري الحضري ضد أ ح، ملف رقم 004841 الصادر في 15 أفريل 2003، مجلة مجلس الدولة رقم 4، لسنة 2003.
[8] مجلس قضاء قالمة، الغرفة المدنية، قضية بين ديوان الترقية والتسيير العقاري بقالمة و مقاولة أشغال البناء، قرار في 21 ماي 2002 ، رقم 484/2002،
[9] مجلس قضاء قالمة، الغرفة الإدارية، قضية بين قروي عبد الماليك ضد ولاية قالمة و ديوان الترقية والتسيير العقاري بقالمة ، قرار في 07 أكتوبر 2002، رقم 400/2002.
[10] مجلس قضاء قالمة، محكمة قالمة، القسم التجاري ، قضية بين شنينة محسن ضد ديوان الترقية والتسيير العقاري بقالمة ، حكم في 23 جانفي 2001، رقم 33/2001.
[11] راجع في ذلك محاضرات الأستاذ بوسماح محمد الأمين، التي ألقيت على طلبة الماجستير، فرع الدولة والمؤسسات العمومية، كلية الحقوق بن عكنون، السنة الدراسية 2002-2003.
[12] أ/ محمد الأمين بوسماح، المرجع السابق.
[13] أ/ محمد الأمين بوسماح، المرجع السابق.
[14] د/ محمد قطان، المرجع السابق، ص 168
[15] د/ بن ناجي شريف، محاضرات في الصفقات العمومية ألقيت على طلبة الدفعة 14 بالمدرسة العليا للقضاء، السنة الأكاديمية 2004-2005.
اترك تعليقاً