الإكراه البدني
المطلب الأول :التنظيم القانوني للإكراه البدني في التشريع المغربي ؟
لم يعرف المشرع المغربي الإكراه البدني وقد تصدى بعض الفقه لعملية التعريف هذه فعرفه ذ حسن الرملي كالتالي : ” هو نظام يقصد به حسب المحكوم عليه مدة معينة يحددها الحكم الصادر به طبق لمقتضيات القانون المنظم لهذا الإجراء القهري لإجباره على أداء ما التزم أو الزم به قضاء ” .
و الإكراه البدني بشكل عام هو حبس المدين حتى يضطر إلى الوفاء بدينه، و يعتبر من بقايا العهود القديمة حيث كان المدين يلتزم في شخصه لا في ماله، ويحق لدائنه أن يحبسه إذا لم يف بالتزامه .
و يفضل بعض الفقه الآخر اعتباره إجراء تهديديا يستهدف الضغط على المدين القادر على الوفاء عن طريق حبسه لإجباره على تنفيذ التزامه ، وهو تعريف جديد يقترب من التصور الذي ورد في المادة 77 من مدونة تحصيل الديون العمومية و المتعلقة بتنظيم مسطرة الإكراه البدني .
إلا أنه و بعد أن تبنت التشريعات الوضعية الحديثة مبدأ تطبيق الإكراه البدني تراجعت جلها عنه رغم فعاليته لما له من مساس بحرية الشخص المدين، معتبرة أن ذلك يخالف المبادئ المدنية الحديثة التي تقضي بان المدين يلتزم في ماله لا في شخصه، وأن جزاء الإخلال بالالتزام هو تعويض لا عقوبة .
و هكذا ألغى التشريع الفرنسي الإكراه البدني في الميدان التعاقدي فيما يخص الديون التجارية والمدنية بموجب القانون الصادر بتاريخ 22/7/1867، إلا أنه أبقى على هذا النظام كإجراء قهري بالنسبة للغرامات المالية والمصاريف القضائية وكذا التعويضات المدنية لفائدة الدولة والمطالب بالحق المدني مادام مصدرها الفعل الجرمي .
و يعود تنظيم المشرع المغربي لنظام الإكراه البدني لظهير 21/8/1935 المتعلق بسن نظام المتابعات في ميدان الضرائب المباشرة و الأداءات المماثلة وغيرها التي يحصلها أعوان الخزينة، و كذا قانون المسطرة الجنائية الذي ينص في الفصل 675 على أنه ” يمكن أن تنفذ عن طريق الإكراه البدني بقطع النظر عن المتابعات التي يقع إجراؤها على الأموال حسب الفصل 673 الأحكام الصادرة بالغرامة، ورد ما يلزم رده والتعويضات وا لمصاريف .
و … الإكراه البدني عن طريق الزج بالغريم في السجن ولا يمكن أن يسقط الإكراه البدني بحال من الأحوال الالتزام الذي يمكن أن تجري في شأنه بعد ذلك متابعات بطرق التنفيذ العادية .
إلا أن أهم ظهير في هذا الباب هو ا لظهير رقم 305-60-1 الصادر بتاريخ 20/2/1961 بشأن استعمال الإكراه البدني في القضايا المدنية؛ لكن هل ما زالت مسطرة الإكراه البدني لازمة التطبيق في كافة الحالات ؟
أم أن المشرع المغربي قد نحى منحى التشريعات الحديثة في الحد من هذا التدبير السالب للحرية ؟ فما هي المستجدات في هذا الباب ؟
يجدر في البداية أن نشير إلى موقف الشريعة الإسلامية في هذا الباب :
أ – الإكراه البدني في الفقه الإسلامي :
لقد أقر فقهاء الإسلام مبدأ حبس المدين الذي يمتنع عن الوفاء بديونه رغم قدرته ويسره، حيث اعتبروا الحبس في حالة المماطلة المتعمدة جزاء لظلم المدين دائنه لقوله ص ” مطل الغني ظلم، فلا يجوز حبس المدين المعسر الذي لا مال له لأداء الدين و إنما ينظر إلى حين يسره ” لقوله تعالى ” وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون “، وعليه فالمبدأ في الفقه الإسلامي بقول ” يسر المدين شرط حبسه ” .
ب- الإكراه البدني في المواثيق الدولية :
لقد بادر المغرب إلى المصادقة في مارس 1979 على اتفاقية نيويورك الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخة في 16/12/1966، والتي نصت في فصلها الحادي عشر على أنه : ” لا يجوز سجن إنسان فقط على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي” ورغم الخلاف الذي رصد في تعامل المحاكم المغربية مع هذا النص حيث رفضت العديد من الأحكام تطبيق الاتفاقية الدولية ، فإن المجلس الأعلى قد تراجع عن ذلك في قرار حديث طبق المادة 11 ورفض تطبيق الإكراه البدني على المدين المعسر بالرغم مما يقضي به القانون الوطني وهو ما اعتبره السيد الرئيس الأول للمجلس الأعلى في كلمته بمناسبة افتتاح السنة القضائية 2001 اتجاها إنسانيا يميز بين الموسر والمعسر حيث يكره الأول و ليس الثاني كما تقضي بذلك مبادئ الفقه الإسلامي .
ج- مستجدات الإكراه البدني من خلال مدونة تحصيل الديون العمومية :
كرس المشرع المغربي من خلال مدونة تحصيل الديون العمومية مبدأ اللجوء إلى الإكراه البدني لحمل المدين على الوفاء بما هو ملزم به، إلا أنه أحاط ذلك بعدة ضمانات .
فالمسطرة كانت مجحفة بشكل كبير حيث إنه بعد توجيه الإنذار إلى المعني بالأمر وفق ما تقتضيه أحكام ظهير 21/8/1995 تحرك الإدارة مسطرة الإكراه بمجرد عدم الاستجابة، و ذلك بتوجيه طلب مباشر إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية المختصة استنادا إلى قاعدة الأداء أولا .
و بصدور مدونة تحصيل الديون بالظهير الشريف رقم 177-00-1 القاضي بتنفيذ القانون رقم 97-15 ، نظمت الفصول 76 إلى 83 مسطرة الإكراه البدني كوسيلة لتحصيل الديون العمومية حيث نصت المادة 76 على ضرورة اللجوء أولا إلى الطرق الأخرى للتنفيذ الجبري وخاصة الحجز على أموال المدين، وبعد فشل تلك الطرق يتم سلوك مسطرة الإكراه البدني، وحصر الفصلان 77 و 78 نطاق المسطرة في المدين المعروف بيسره واستثنت المدين الذي ثبت عسره وفق الشروط المقررة في المادة 57 وذلك إما بإنجاز محضر بعدم وجود ما يحجز، وإما بشهادة الصور المسلمة من طرف السلطة الإدارية المحلية كما تم استثناء بعض المدينين من الخضوع للإكراه البدني في حالات عددتها المادة 77 سواء ما تعلق منها بمبلغ الديون المستحقة إذ أعفت الديون التي تقل عن 8000 درهم، كما راعت بعض الحالات الاجتماعية كحالة المرأة الحامل والمرضعة وكذا سن المدين فأعفت المدين الذي يقل عمره عن 20 سنة أو يفوق 60 سنة، ونصت على عدم تطبيق المسطرة ضد الزوجين في آن واحد ولو من أجل ديون مختلفة، و أدخلت المادة 79 مددا زمنية للإكراه البدني بالنسبة للضرائب المباشرة والرسوم المماثلة وديون الدولة الأخرى بخلاف مدة الإكراه بالنسبة للمصاريف القضائية والغرامات الواردة في الفصل 678 من ق.م.ج .
و ألزمت أخيرا المادة المذكورة الإدارة ( المحاسب المكلف بالتحصيل ) بتقديم طلب الإكراه البدني إلى قاضي المستعجلات بالمحكمة الابتدائية المختصة ليبت فيه بمقتضى أمر داخل أجل لا يتجاوز ثلاثين يوما يحدد فيه الحبس، ويعمل وكيل الملك على تنفيذ ه بمجرد توصله به .
د- الإكراه البدني في قانون المسطرة الجنائية الجديد :
ينص الفصل 675 من قانون المسطرة الجنائية القديم ( ظهير 1959 ) على ما يلي : ” يمكن أن تنفذ عن طريق الإكراه البدني بقطع النظر عن المتابعات التي يقع إجراؤها على الأموال حسب الفصل 673 الأحكام الصادرة بالغرامة ورد ما يلزم رده و التعويضات و المصاريف “.
و ينجز الإكراه البدني عن طريق الزج بالغريم في السجن و لا يمكن أن يسقط الإكراه البدني بحال من الأحوال الالتزام الذي يمكن أن تجري في شأنه بعد ذلك متابعات بطرق التنفيذ العادية ” .
أما الفصل 635 من قانون المسطرة الجنائية الجديد نقد أضاف فقرة ثالثة نص فيها على ما يلي : “غير أنه لا يمكن تنفيذ الإكراه البدني على المحكوم عليه الذي يدلي لإثبات عسره بشهادة عوز يسلمها له الوالي أو العامل أو من ينوب عنه و بشهادة عدم الخضوع للضريبة تسلمها مصلحة الضرائب بموطن المحكوم عليه ” .
و قضت المادة 637 من المسطرة الجنائية الجديدة بمنع تنفيذ الإكراه البدني في آن واحد على الزوج و الزوجة ولو من أجل ديون مختلفة ولا على امرأة حامل ولا على امرأة مرضع في حدود سنتين من تاريخ الولادة .
كما عمد الفصل 638 إلى تحديد مدد الإكراه البدني فتم تقليصها بحسب المبالغ المستحقة .
أما عن المسطرة فقد نظمها الفصل 639 الذي قضى بتقديم طلب الإكراه البدني لوكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية المختصة، ويرفق بنسخة من المقرر القابل للتنفيذ بالإضافة إلى الوثائق المشار إليها في المادة 640 .
و يلاحظ من خلال هذا التنظيم أنه راعى ضرورة الانسجام مع أحكام الفقه الإسلامي و كذا الاتفاقية الدولية، و مدونة تحصيل الديون العمومية، وذلك تأسيسا على مبدأ ” إعفاء الملزم في حالة إثبات عسره ” .
المطلب الثاني: صلاحيات قاضي تنفيذ العقوبة في مجال الإكراه البدني
نصت المادة 640 من قانون المسطرة الجنائية الجديد على أنه: ” لا يمكن تطبيق الإكراه البدني، في جميع الأحوال، ولو نص عليه مقرر قضائي إلا بعد موافقة قاضي تطبيق العقوبات الذي يتحقق من توفر الشروط الآتية بعد توصله بالملف من وكيل الملك :
1- توجيه إنذار من طرف طالب الإكراه إلى الشخص المطلوب تطبيق الإكراه البدني في حقه، دون نتيجة بعد مرور أكثر من شهر واحد من تاريخ التوصل به
2- تقديم طلب كتابي من المطالب بالإكراه البدني يرمي إلى الإيداع في السجن
3- الإدلاء بما يثبت عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين إذ لا يأمر وكيل الملك أعوان القوة العمومية بإلقاء القبض على الشخص المطلوب تطبيق الإكراه البدني في حقه إلا بعد صدور قرار بالموافقة على ذلك عن قاضي تطبيق العقوبات مع مراعاة مقتضيات المادة 641 بعده .
وهكذا يبدو أن المشرع حاول إحاطة نظام الإكراه البدني بسياج عتيد، وحذر شديد بما استلزمه من شروط نصت عليها أيضا المادة 639، كما حاول الانسجام مع باقي الأنظمة القانونية المغربية المنظمة له، وذلك في انتظار إيجاد بديل للنظام .
إن محاولة مشرع قانون المسطرة الجنائية الجديد تبني مبادئ حقوق الإنسان والحريات الشخصية بادية للعيان من خلال ما تقدم، كما أنها كرست مبدأ سبقها إليه الفقه الإسلامي والقانون الدولي ومدونة تحصيل الديون العمومية، وع ذلك فقد أصبحت مقتضيات القانون الجديد ذات أهمية كبيرة في مادة الإكراه البدني، وذلك بجعل قاضي تطبيق العقوبات حارسا أمينا للمواد المنظمة لها بما وفرت له من حق الموافقة أو الرفض على تطبيقها على المدين
اترك تعليقاً