القضاء السعودي بين الأحكام الشرعية والقواعد الإجرائية
جاءت الشريعة الإسلامية لتخرج الناس من ظلمات الجهل وكهوف الحضارات المتخلفة إلى نور وأفاق الحضارة بمعناها الحقيقي جاعله في مقدمة أهدافها إنصاف الإنسان وتحريره من الظلم الواقع عليه واضعة في ذلك الكثير من القواعد الشرعية والفقهية مثل قاعدة : لا ضرر ولا ضرار ، وقاعدة : درء المفاسد أولى من جلب المنافع ،
وقاعدة : ما بني على باطل فهو باطل ، وغيرها من القواعد الفقيه التي وضعت في الأساس لحماية حقوق الإنسان وإقرار مبدأ العدالة والمساواة بين الناس ، وقد جاءت قواعد المرافعات الشرعية والإجراءات الجزائية مدافعة عن هذا المبدأ وهو مبدأ تحقيق العدالة والمساواة بين المتقاضين دون الخروج عن قواعد الشريعة الإسلامية ، وهى تهدف أيضاً لضمان حق المتهم في محاكمة عادلة وحماية حياته الخاصة وهذه أيضاً من المقاصد الشرعية التي تهدف الشريعة الإسلامية للمحافظة عليها وهذه القواعد تمثل نوع من التنسيق بين مصلحة المجتمع في القصاص من المخالفين و مرتكبي الجرائم وبين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساسية في الحرية والطمأنينة وحرية المسكن وهذا يعني انه إذا كانت مصلحة المجتمع تقتضي معاقبة مرتكب الجريمة وشركاءه فأنها في الوقت نفسه تقتضي الحفاظ على حريات الناس وحقوقهم وكذلك تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه ووفقا لهذا فان المساس بهذه الحريات والحقوق دون مبرر كاف يشكل اعتداءا صارخا على هذه الحقوق
أن القضاء السعودي في بعض الأحيان قد لا يلتفت إلى هذه القواعد الإجرائية التي وضعت في الأساس لحماية المتقاضين والمحافظة على حقوقهم وتنظيم عملية التقاضي واضعاً نصب عينه موضوع وصلب الدعوى دون النظر لغير ذلك ونجد أنه لا يوجد إعمال صريح لقواعد نظام المرافعات الشرعية والإجراءات الجزائية المتمثلة في ضرورة الإعلان الصحيح أو حضور الخصوم أو صحة محضر الاستدلال أو التحقيق الإبتدائى ومحاضر المعاينة والتأكد من صدور أوامر القبض والتفتيش بشكل نظامي و أن ما يشغل اهتمامه فقط هو النظر في موضوع الدعوى مهملا القواعد الإجرائية ؟
إن ما يفرزه الواقع العملي داخل أروقة المحاكم السعودية يظهر لنا إهمال الجانب الإجرائي والنظر فقط في موضوع الدعوي بغض النظر عما شابها من قصور في مراحلها الإجرائية فهو يبحث فقط عن الفعل أو عدمه و ينتج عن ذلك إهدار للقيمة النظامية والشرعية للقواعد الإجرائية والتي تهدف في مضمونها لغرض واضح وهو الوصول للحقيقة إما بإدانة المتهم ومعاقبته أو إثبات براءته ولذلك فإن أي إغفال لهذه القواعد أو مخالفتها يؤدى لبطلانها لأن مشروعية الإجراء شرط لصحته ( ما بني على باطل فهو باطل) وتطبيق آثاره وما وضعت هذه القواعد إلا لضمان عدم تعرض الفرد المتهم لأعمال كيدية من غيره وفى تاريخنا الإسلامي كانت هناك جرائم ترتكب ولكنها غير ظاهرة وكشفها كان بطريق غير مشروع وهو التجسس أو الدخول بغير إذن فلم يعاقب عليها لأن اكتشافها تم بإجراء باطل . نذكر هنا قصة سيدنا عمر بن الخطاب عندما كان يسير في المدينة فسمع صوت رجل يغني فتسور عليه فوجد عنده خمر وإمراة فقال له يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته : فقال له الرجل لا تعجل يا أمير المؤمنين فإن كنت عصيت الله في واحد فقد عصيته أنت في ثلاث وذكر له قول الله تعالي : ( ولا تجسسوا ) وقال له و قد تجسست يا أمير المؤمنين وذكر قول الله تعالي : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) وقال له و قد تصورت يا أمير المؤمنين وذكر قوله تعالي ( لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام يا أمير المؤمنين فقال له عمر رضي الله عنه . هل عندك خير إن عفوت عنك فقال له لئن عفوت عنى لا أعود لمثلها. فعفا عنه وخرج ، ولكننا مثلا في الواقع العملي لا نكاد نجد قضية انتهى الحكم فيها برفض الدعوى لبطلان في الإجراءات كبطلان محضر الاستدلال أو بطلان القبض أو لعدم وجود إذن بالتفتيش أو لبطلان الاعتراف بسبب الإكراه المادي أو المعنوي الذي تعرض له المتهم .
قد يذهب البعض للقول بأنه يمكن تمييز الحكم الذي يشوبه أيا من هذه العيوب ولو صح ذلك لهذا السبب هل سيحكم القاضي ببراءة المتهم بسبب عيب في الإجراءات التي لا يمكن تصحيحها وأصابها البطلان الإجابة ستكون بالنفي : و لو حدث ذلك فإن ما يقوم به القاضي هو تصحيح الإجراء الباطل وإعادة إصدار الحكم ولن يستطيع المتهم الاستفادة من هذا البطلان وإن كان الأمر كذلك فما هي الغاية من وضع قواعد إجرائية لن تؤثر مخالفتها أو بطلانها في حكم القاضي ؟؟
إن القاعدة الإجرائية المنظمة لسير الدعوى لا تقل أهمية عن القاعدة الشرعية التي يستند إليه القاضي في إصدار حكمه بناءاً عليها ولكن ما يحدث يخالف ما يجب أن يكون عليه الحال و هذا ما نراه في الواقع العملي وهذا ما نأمل أن يتغير في المستقبل القريب …
اترك تعليقاً