بحث قانوني في دلالة الاقتضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة العلوم الإسلاميه العالميه
كلية الدراسات العليــــــــــــــــــا
قسم الشريعة والقانــــــــــــــون
دلالة الاقتضاء
ورقه بحثيه في مادة أصول الدلالات
مقدمه من الطالبه: بسمه عبد المعطي الحوراني
إلى حضرة الدكتور: عماد الدين الرشيد
تمهيـــــــد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله أجمين وبعد…
فإن علم أصول الفقه عظيم القدر جزيل الفائدة، غزير العلم، به يستنبط الفقيه الإحكام الشرعية من الكتاب والسنة، أسسه علماء الشريعة وبالأخص فقهاء الأمة من السلف وهو العلم الذي يُعمل العقل ويستنبط من النص ما ينفع البشرية في كل زمان ومكان؛ لأن العقل لا يتصرف بمعزل عن الشرع.
ولأن العرب لهم استعمالات وعادات وتصرف في اللغة فكان من الضروري لطالب الشريعة من المعرفة الكافية به.
خصوصاً وقد تقرر عند الأصوليين وفي مقدمتهم الإمام الشافعي في رسالته من الأهمية بلسان العرب لأنه الركن الأساسي لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة.
ولا شك أن الدراسات الأصولية تتسم بالبحث العميق، ولهذا فلطالب العلم البحث في القضايا الأصولية أن يبذل قصارى جهده في توضيح بحثه، وجمع شتات موضوعه، لأن من أهم مواضيع علم الأصول هي مباحث الدلالات، وخاصة موضوع دلالة الاقتضاء والذي عليه دار كثير من الجوانب الاستنباطية، والذي يبني عليه كذلك الكثير من الخلافات الفقهية والذي إذا ما ألم به إلماماً جيداً يستطاع من خلاله أن يميز أسباب الخلاف الفقهي وأبعاده وخلفياته.
إن دلالة الاقتضاء موضوع ذو أهمية في الأصول، وهي مهمة اللغة للمجتهد والفقيه .
من خلال التقسيم التالي سندرس دلالة واحده متفرعه عن هذا التقسيم وهي دلالة الإقتضاء ولكن جاء هذا التقسيم من أجل الزيادة في التوضيح ولنعرف من أين اتينا بهذه الدلاله التي ستكون في صميم حديثنا لهذا اليوم إن شاء الله .
أنواع دلالة المنطوق
اقتضـاء
المطابقه ـــ التضمن ــ الإلتزام ــــ إشــاره
الإيمـاء
سيكون حديثنا في البدايه عن تعريف دلالة الإقتضاء لغة واصطلاحا ثم بعد ذلك سنتحدث عن اقسام الإقتضاء عن الأصولين مع الأمثله، وسنتحدث ايضا عن دلالة الإقتضاء بين الجمهور والحنفيه، ومقارنة دلالة الإقتضاء بين المدرستين.
أولا : المعنى اللغوي لدلالة الإقتضــــاء
ثانياً: المعنى الإصطلاحي لدلالة الإقتضــاء
ثالثاً: العمل على تفسير المقتضــــــى
رابعاً : دلالة الإقتضاء بين الجمهور والحنفيه
خامساً: مقارنة دلالة الإقتضاء بين المدرستين
أولًا المعنى اللغوي لدلالة الإقتضاء
1 ـ الدلالة فى اللغة: مصدر الفعل دلَّ، وهو من مادة (دلل) التى تدل فيما تدل على الإرشاد إلى الشئ والتعريف به ومن ذلك “دله على الطريق، أى سدده إليه”، ” وفى التهذيب دللت بهذا الطريق، دلاله: عرفته، ثم إن المراد بالتسديد: إراءه الطريق”( ) ومن المجاز”الدالّ على الخير كفاعله” ، “ودله على الصراط المستقيم”( ) . الدلالة بفتح الدال وكسرها وضمها مصدر سماعي من الفعل الثلاثي دلل أو يدل دلالة ودلالة ودلوله والفتح أعلى بمعنى أرشد وسدد وهدى . يقال دله على الطريق إذا سدده وأرشده إليه . ومنه قوله تعالى على لسان أخت موسى عليه السلام: هل أدلكم على من يكفله)( ) وقوله تعالـى : يا أيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ( ). ودل فلان إذا هداه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:” إن الدال على الخير كفاعله ( ) فهي إرشاديه وهداية وتسديد . وتأتي بمعنى إبانه الشيء بامارة تتعلمهــا يقولون : دل فلان فلانا على السبيل أي بينه له ومن هذا المعنى جاء قولهــم : لفظ بيّن الدلالة ، أو نص بيّن الدلالة .
والدلالة : ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه والجمع دلائل ودلالات . ودليل : المرشد والكاشف عن الشيء وما يستدل به وما يقوم به الإرشاد والبرهان . والجمع أدلة وأدلاء ( ) أما الإقتضاء فمأخوذ من قضى يقضي قضياً وقضاءً بمعنى حكم وفصل وأمر وأدى وبين . يقال قضى بين الخصمين أي : فصل وحكم ، وقضى الله أمر . ومنه قوله تعالــــى : وقضى ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسنا ( ) وقضى الدين : اداه . والإقتضاء : الطلب والإستدعاء والإستلزام من الفعل اقتضى . وقولهم اقتضى الدين أي طلبه ( ) ودلالة الاقتضاء تعتبر نوعاً من أنواع الدلالة الإلتزاميه .
وبناء على ما سبق من تحليل وتعريف لدلالة الاقتضاء نستطيع أن نعرف المقصود اللغوي بدلالة الاقتضاء هو : ما يتوصل به إلى معرفة ما يتطلبه النص ويستلزمه الكلام لتبينه وتوضيحه ومعرفة المراد منه بدليل يدل عليه ويرشد إليه ، أو بعبارة أخرى سبيل الوصول إلى معرفة المراد منه بدليل يدل عليه ويرشد إليه ، أو بعبارة أخرى سبيل الوصول إلى معرفة ما يستدعيه النص لإستيضاحة المراد منه.
ثانياً: المعنى الإصطلاحي
دلالة الإقتضاء وهي دلالة اللفظ على لازم المعنى المقصود يتوقف عليه صدق الكلام او صحته عقلاً أو شرعاً ( ) وتعرف بأنها دلالة اللفظ على معنى لازم للموضوع له ومتقدم عليه ، يتوقف على تقديره صدق الكلام او صحته عقلاً أو شرعاً ( ) .
والاقتضاء في استعمال الفقهاء بمعناه اللّغويّ . ويستعمله الأصوليّون بمعنى الدّلالة . يقولون : الأمر يقتضي الوجوب أي يدلّ عليه ، ويستعملونه أيضاً بمعنى الطّلب .( )
وكيف تكون دلالة الاقتضاء من ضرورة اللفظ يا ترى؟ يوضح ذلك الغزالي بقوله: “أما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقاً إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعاً إلا به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلاً إلا به”.( )
بالنسبة لتفسيرالمقتضى ـ هو المعنى او اللازم العقلي المقدر ضرورة تصحيح الكلام شرعاً ـ عند التصريح به بلفظ يبقى الكلام على حاله الأصلي من حيث الهيئة أو البنية والإعراب دون تغيير كما لو كان قبل التقدير . فإذا قال شخص لأخر:” أوقف دارك عني بألف ” فإن العبارة تقتضي لصحتها شرعاً تقدير التمليك حتى يصح الوقف بأن يقال : بعني دارك بألف ثم اوقفها عني . فهذا التقدير لم يترتب عليه تغيير في بنية الكلام الأصلي ولا في إعرابه فهو من باب المقتضى .
بخلاف المحذوف فإنه لفظ حذف أوأسقط اختصاراً من الكلام بحيث لو قدر بالتعبير عنه بشكل ظاهر وصريح ، فإن ذلك يؤدي إلى تغيير في هيئة الكلام وصورته الأولى قبل التقدير وإعرابها . فقوله تعالى حكاية عن أخوه يوسف لأبيهم : وأسأل القرية التي كنا فيها ( ) فإن السؤال في الآية مضاف إلى القرية فإذا صرح بلفظ ” الأهل ” وهو المقدر المحذوف انقطع السؤال عن القرية ووقع على هذا المقدر ، فتغير إسناد اللفظ من جهة ، وتغير إعراب القرية من النصب إلى الجر من جهة أخرى ، إذا يصبح تقدير الآية : وأسال أهل القرية ( ).
فإذا تعارضت دلالة الإقتضاء مع غيرها من الدلالات ، قدمت هذه الدلالات على دلالة الإقتضاء أخذاً بالأقوى دون الأضعف عند التعارض ( ) وكان طبيعياً أن يتقرر تقديم الدلالات على دلالة الإقتضاء ، نتيجة للتفاوت ، حيث يتأخر الأضعف عن الأقوى( ).
ولكن من الناحية العملية : قرر صاحب ” كشف الأسرار” أنه لم يجد لمعارضة المقتضى للأقسام التي تقدمته نظيراً ( ) ثم ساق مثالاً عده تمحلاً من بعض الشارحين، ورده بإنعدام المعارضة وبنى عليها المثال :-
والمثال المشار إليه هو : ( ما إذا باع رجل من آخر عبداً بألفي درهم ، ثم قال البائع للمشتري قبل نقد الثمن : اعتق عبدك عني هذا بألف درهم فأعتقه ، فلا يجوز البيع ؛ لأن دلالة النص في شأن ما ورد في حق زيد ابن ارقم بفساد شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن توجب أن لا يجوز ؛ والإقتضاء يدل على الجواز ، فترجح الدلالة على الإقتضاء ( )
وفي كتاب الفقه الإسلامي تعرف دلالة الإقتضاء قد يتوقف صدق الكلام أو صحته العقلية أو الشرعية على معني خارج عن اللفظ فإذا كان كذلك سميت الدلالة على هذا المعنى المقدر ” دلالة الإقتضاء ” لأن استقامة الكلام تقتضي هذا المعنى وتستدعيه .
وسمي الحامل على التقدير والزيادة ” المقتضى ” بالشي وسمي الشيء المزيد ” المقتضى ” بالفتح وسمي ما ثبت به من ( )الأحكام حكم المقتضى .( )
فدلالة الإقتضاء : هي دلالة الكلام على معنى يتوقف تقديره صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً .
والمقتضى عند عامة الأصوليين ثلاثة أقسام : ( )
أ- مقتضى يجب تقديره لصدق الكلام :
مثـل قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وحدثنا محمد بن المصفى الحمصي ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عطاء عن بن عابس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ( ) وحدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي ثنا أيوب بن سويد ثنا أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ( ).
هذا الحديث يدل على رفع خطأ أو نسياناً أو إكراهاً ( )أي حكم ذلك أو المؤاخذة ، لأن عين الخطأ والنسيان موجود ( ) والفعل بعد حدوثه لا يمكن رفعه ، لهذا يجب تقدير محذوف يتوقف عليه صدق الكلام ، وهذا المحذوف هو ” حكم أو أثم ” ، وهو المقصود بـ الرفع في الحديث الشريف ، وهذا التقدير يكون عن طريق دلالة الإقتضاء، فيكون معنى الحديث إن الله تجاوز عن أمتي إثم الفعل الواقع خطأ او نسياناً أو تحت الإكراه .
فلو أخذنا بظاهر الحديث لوجدنا :
1- اما أن يدل على رفع الخطأ والنسيان والاكراه ؛ وكل ذلك لم يرفع بدليل وقوع الأمة فيه .
2- أو يدل على رفع الفعل الذي وقع خطأ أو نسيانا بعد وقوعه ؛ ورفع العمل بعد وقوعه محال .
3- أو لابد أن نقدر لفظ محذوف يتم به فهم الكلام وهو ( اثم ) أو ( حكم ) وكل منهما ليس مذكورا في الحديث غير أن صدق الكلام توقف على تقدير أحدهما لأن صدق الكلام اقتضى ذلك وتطلبه .
مثل قوله صلى الله عليه وسلم من لم يجمع الصيام قبل الفجرفلا صيــام له ( ) الحديث الشريف ينفي ” الصوم ، والصوم لا ينتفى بصورته ، فمعناه لا صيام صحيح أو كامل ، فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه ، ” والحكم ” غير منطوق به لكن لا بد منه لتحقق صدق الكلام ( )
ب- مقتضى يجب تقديره لصحة الكلام عقلا :
وأما لإستحالة المنطوق به عقلاً ، كقوله تعالى : وأسأل القرية سورة يوسف /82) فإن العقل يستحيل سؤال الجدران، فالتقدير : أهل القرية ( ) فانه لابد من اضمار وتقدير- أهل – حتى يصح اللفظ عقلا لأن القريـة هي الأبنية والجدران وهذان لايصح سؤالهما عقلا .وقال الشيخ جلال المحلي :” أي أهلها ،إذ القرية هي الأبنية المجتمعة لا يصح سؤالها عقلاً) ( ) وعلق الشيخ العطار على قوله :” أي أهلها ” أن ” الصحة لا تتوقف على إضمار الأهل بل على أن السؤال لهم ، وذلك يتحقق بالإضمار ويجعل القرية مستعملة فيهم مجازاً من إطلاق المحل على الحال “( ) وعقب على قوله : ” لا يصح سؤالها عقلاً ” ، بقوله : ” جرياً على العادة فلا بد من هذا القيد إذ يجوز سؤال الجدران ونطقها بالجواب خرقاً للعادة “( ) أما من الناحية العقلية فالقرية هي الأبنية المحسوسة التي لا تسأل ، وبالتالي لا بد من تقدير ” أهلها ” ليصبح الكلام من جهة العقل ، فيصبح التقدير وأسأل أهل القرية التي كنا فيها .
ومثل ذلك قوله تعالى :” والعير التي اقبلنا فيها وإنا لصادقون ( سورة يوسف 82) فإن هذا الكلام لا يصح عقلاً الا بتقدير : واسأل أهل القرية لأن السؤال للتبين وإذا كان كذلك يجب أن يكون فالمسؤول يجب أن يكون من أهل البيان فاقتضى الكلام تقدير (الأهل) ليصح ويستقيم( )
ومثل ذلك قوله تعالى :” فليدع ناديه (سورة العلق أيه 17 ) فإن النادي ـ وهو مجتمع القوم ومتحدثهم لا يصح دعاؤه ، فكان لا بد من تقدير لفظ يستقيم به الكلام ، وهو لفظ” أهل ” ويكون تقدير الآية فليدع أهل ناديه ، وبذلك يصح الكلام ويستقيم .( )
ج- مقتضى يجب تقديره لصحة الكلام شرعا :
كالأمر بتحرير رقبه في قوله تعالى : فتحرير رقبة ( ) فهذا ” الأمر مقتض للملك ، لأن تحرير الحر لا يتصور ، وكذلك تحرير ملك الغير عن نفسه ، فملك الرقبة ثابت بالنص اقتضاء فصار التقدير ” فتحرير رقبة مملوكة “( ) .
ومن ذلك قول الإنسان لمن يملك عبداً : ” أعتق عبدك عني بألف … ” مثلاً فإن هذا يدل اقتضاءً على شراء عبده منه ؛ لأنه لا ينوب عنه في عتقه إلا بعد أن يتملكه منه بشرائه ، فالشراء ثابت بنص هذه الصيغة اقتضاءً.( )
وذلك كقوله تعالى : في بيان موجب القتل العمد اذا عفي عن القصاص إلى الديه : ” فمن عفي له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداء اليه بإحسان ” فإنه يدل علي أن العفو كان مال هو الديه، فالمعني فمن عفي عنه أخوه فلم يقتص منه علي أن يدفع له الديه بإحسان ، وهذا المعنى يلزم تقديره لصحة الكلام شرعاً ، لأنه إن يتبع انسان انساناً فيطالبه دون أن يكون عليه مال .( ) .
ومن امثلته ايضا الأيات التي تفيد بظاهرها تعلق الحرمة بالذوات نحو قول الله تعالى : حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم حيث يجب تقدير معنى يتوقف عليه صحة الكلام شرعاً وهو كلمة ” زواج” ومن ثم يستقيم المعنى ويؤول إلى حرم علي الشخص الزواج بالمذكورات في الآية ، لما تقرر أن الذات لا تتعلق بها الحرمة ، لأن متعلق الأحكام أفعال المكلفـين لا الذوات والأعيان ، ولذا قيل في تعريف الحكم : خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين .( )
ومن الأمثلة الأخرى مثال : اذا أمر شخص ما بالصلاة فان ذلك يتضمن الأمر بالطهارة لامحالة.
فاللفظ المتوقف صدقه أو صحته منطوق صريح ؛ والمضمر الذي لابد للصدق أو للصحة منه منطوق غير صريح وهو من ضرورة المنطوق الصريح .
وهذه الأنواع الثلاثه المذكورة تدخل في دلالة الإقتضاء عند عامة الأصوليين من متقدمي الحنفية وأصحاب الشافعي ومن تابعهم ، ويسمى المقدر فيها مقتضى بوزن اسم المفعول ؛ لأن صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً أقتضاه. فهم جعلوا المحذوف من باب المقتضى ، ولم يفصلوا بينهما.( ).
دلالة الإقتضاء بين الجمهور والأحناف
دلالة الإقتضاء من الدلالات التي وقع الإتفاق عليها بين المدرستين معنى ومبنى ، مع اختلاف منهجي مؤاده أن المتكلمين يدرجونها ضمن دلالات المنطوق غير الصريح ، أما الحنفية .فجعلوها دلالة مستقلة بذاتها كدلالة الإشارة ودلالة الدلالة ودلالة العبارة .
يعرفها الغزالي بقوله ” ما يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يكون المتكلم صادقاً إلا به ، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعاً إلا به ، أو من حيث يمتنع ثبوته عقلاً إلا به ( ) فالإمام الشيرازي يعرفها بأنها ” الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به ( ) ويعرفها الإمام ابن رشد بأنهــــا ( ما كان المدلول فيه مضمراً إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به ( ) عقلاً أو شرعاً ، وهو ما اعتمده الآمدي في الأحكام ( ) وهو ما ذكره الشوكاني في الإرشاد( )
ومن خلال كل هذه التعاريف الأصوليه المختلفة لفظا وعباره والمتفقة معنى ومضموناً نستطيع أن نعرف المفهوم الحقيقي لدلالة الإقتضاء عند جمهور الأصولين وأنها :” دلالة اللفظ على معنى مضمر لازم للمعنى الذي وضع له اللفظ ، متقدم عليه ، مقصود للمتكلم ، وجب تقديره ضرورة لتوقف صدق الكلام أو صحته العقلية أو الشرعية عليه “( ).
وتعريف دلالة الإقتضاء عند متأخري الحنفيه عرفها الإمام البزدوي بقوله :” ما ثبت زيادة على النص كشرط لصحة المنصوص عليه شرعاً “( ) عرف السرخسي دلالة الإقتضاء بأنها : ” عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم ، وبدونـه لا
يمكن إعمال المنظوم ( )، فقوله ” زيادة على المنصوص عليه ” ، هو ” المقتضى ” الذي يجب تقديره ليصبح المنظوم مفيدا لإعمال الكلام ، فإذا لم نقدر هذا المقتضى كان الكلام كاذباً أو غير صحيح شرعاً أو غير مقبول عقلاً ، والشارع الحكيم لا يصدر عنه كلام كاذب ولا باطل شرعاً ولا غير معقول .
يقول البخاري ” فالحامل على الزيادة وهي صيانة الكلام هو المقتضى ـ بالكسرـ ودلالة الشرع على أن هذا الكلام لا يصح إلا بالزيادة هو الإقتضاء والمزيد هو المقتضى ـ بالفتح ـ وما ثبت به هو حكم المقتضى ( ) لهذا فإن الذي يفرض تقدير المقتضى ؛ هو ” صدق الكلام ” أو ” صحته عقلاً” أو” صحته شرعاً .
مقارنة دلالة الإقتضاء بين المدرستين
تتطابق نظرة المتكلمين مع رؤيه متقدمي الحنفية حول دلالة الإقتضاء ، لأن الفريقين متفقان حولها من حيث الإصطلاح ومن حيث الأقسام ، وفي هذا يقــول عبد العزيز البخاري : ” اعلم أن عامة الأصوليين من أصحابنا المتقدمين وأصحاب الشافعي وغيرهم جعلوا المحذوف من باب المقتضى ولم يفصلو بينهما “( ).
ورغم هذا التطابق بين المدرستين نجد المتكلمين يدرجون دلالة الإقتضاء ضمن دلالات المنطوق غير الصريح ، والذي يضم كذلك دلالة الإيماء والإشارة . أما عند الأحناف فدلالة الإقتضاء عندهم قائمة بنفسها .
وعلى القول بإتفاق المدرستين حول أقسام دلالة الإقتضاء ، فإنه يجب التنبيه إلى أن ” متأخري الحنفية قد ميزوا بين ما أضمر لصحة الكلام شرعاً فاعتبروه من باب دلالة الإقتضاء ، وبين ما أضمر لصدق الكلام أو صحته العقلية فأعتبروه من باب المضمر والمحذوف ” ( ) ودلالة الإقتضاء عند الحنفية هي أضعف الدلالات وآخرها في سلم الترتيب ، بدليل أن ( المقتضى عندهم لم يثبت لا من طريق صيغة اللفظ ولا من طريق معناه اللغوي وانما استدعته الضرورة ( ) وقد جعل المتكلمون دلالة الإقتضاء في طليعة ( اقسام المنطوق غير الصريح … وذلك لأن المقتضى معنى ملحوظ ومقصود، والملحوظ كالملفوظ ، كما أن المقصود أولى بالتقديم من غير المقصود)( )
الخاتمــــة
بعد انتهائي من هذا البحث الذي أرجو من الله أن أكون قد وفقت فيه على ما عندي من قلة البضاعة في العلم وعلى ما فطر الله البشر من النقص باستيلاء النفس على الإنسان الذي خلق ضعيفاً فإن أملي في الله كبير أن لا يحرمني الأجر من كل ما بذلت من جهد وخير كما أسأله سبحانه أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم غير قالصٍٍ، فإنه الهادي إلى سواء السبيل.
ومن خلال بحثي المتواضع والنظر في آراء الأصوليين فقد خرجت بالنتائج التالية:
1- أن القول بأن دلالة الاقتضاء لغة هي الاستلزام والطلب يطابق آراء وتعريف الأصوليين.
2- أن هذه الدلالة لا تصح إلا عند الضرورة وذلك لأن خلاف الأصوليين يأبى أن تؤخذ هذه الدلالة إلا عند الضرورة.
3- عند تعارض الدلالات لا بد من الأخذ بالأقوى لا بالأضعف ودلالة الاقتضاء إذ تبين من خلال البحث أنها أضعف الدلالات.
قائمة المراجع
ـ سورة الإسراء :(23)
ـ سورة الصف (10)
ـ سورة المجادلة : الأية 4
ـ سورة طه (40)
ـ سورة يوسف : (82)
ـ سورة يوسف : (82)
. احمد فراج حسين ، عبد الودود محمد السريتي ، الاصول الفقه الإسلامي ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، 1990م ، ص 344
ابن رشد ، القاضي أبو الوليد بن أحمد بن محمد بن احمد ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، تحقيق علي محمد معوض، ط1، 1996م، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان .
أبو حامد الغزالي ،المستصفى من علم الأصول دار الأرقم بن ابي الأرقم ، بيروت ، بلا تاريخ : ، ج2 ، ص 186
أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق ، باب طلاق المكره والناسي
أخرجه ابو داود في كتاب الصوم باب المنعه في الصوم .
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ، كتاب الإماره ، باب فضل إعانه الغازي في سبيل الله بلفظ :” من دل على خير فله مثل أجر فاعله ” ، رقم (1893)، (3/ 1506)
أنظر ابن منظور ،ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري لسان العرب ، دار صادر ، بيروت ، باب اللام فصل الــدال ،(1/ 1003)
أنظر البخاري ، محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن بردزيه ، كشف الأسرار ، مكتبة الإيمان ، 1998، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد (2/351)
أنظر البزدوي ، اصول البزدوي (2/373)،
أنظرعلي بن عبد الكافي السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج، دار الكتب العلمية بيروت 1404 هـ 1984م
الخطاب الشرعي : ص 230 عن فتح الغفار : ج 2، ص 48
الزبيدى، تاج العروس، طبعة الكويت، ج 28 ص 497 ـ 498 .
الزركشي،( بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي ، البحر المحيط،في أصول الفقـه ( 2/156، 161)
الزمخشرى ، محمود بن عمر الزمخشري ،أساس البلاغة، دار المعرفة للطباعة والنشر، ترجمة، تحقيق: عبد الرحيم محمود ،ص 134.
السرخسي ، اصول السرخسي ، (1/255)
الشيرازي ، ابو اسحق ابراهيم بن علي ، شرح اللمع في اصول الفقه (2/120) ط1 ، 1987م ، مكتبة التوبه الرياض
الفيروز ابادي ، محمد بن يعقوب ، القاموس المحيط ، ط2 ، المطبعة الحسينية ، مصر ، باب اللام ، فصل الدال، ،(3/ 377)
المحلي على جمع الجوامع ” حاشية العطار “: ج1 ، ص 316
محمد بن علي الشوكاني ، ارشاد الفحول ، مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة 6 سنة 1995م ،(2/519)
المناهج الأصوليه، فتحي الأدريني ، بدون تاريخ نشر ، ص278
رفع الحاجب عن مختصر بن الحاجب (3/486)
الآمدي ، علي بن محمد الآمدي أبو الحسن، الإحكام في أصول الأحكام ، دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الأولى ، 1404، تحقيق : د. سيد الجميلي (3/61)
محمد اديب صالح ، تفسير النصوص : في الفقه الإسلامي ، دراسة مقارنة لمناهج العلماء في استنباط ا”لأحكام من نصوص الكتاب والسنه ج 1، المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة 1993م ص 550
اترك تعليقاً