بحث قانوني يوضح جزء من رساله ماجستير عن نشأة العقود الادارية
نشأة فكرة العقود الإدارية
جزء من رساله ماجستير لـلواء دكتور / فؤاد جمال عبد القادر
مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء.( جمهوريه مصر العربيه )
بادئ ذى بدء تجدر الإشارة إلى أن فكرة العقود الإدارية أو بمعنى أدق نظرية العقود الإدارية، لم تنشأ فى فرنسا إلا فى تاريخ متأخر، لا يكاد يتجاوز مطلع القرن الماضي، وذلك رغم قدم نشأة مجلس الدولة الفرنسي، ولقد كان المعيار المتبع لتوزيع الاختصاصات بين جهتي القضاء يقوم على فكرة السيادة أو السلطة، فالمنازعات التى تتعلق بأعمال السيادة أو السلطة هى وحدها من اختصاص القضاء الإداري، وما عداها من تصرفات عادية تبرمها الدولة أو أحد أجهزتها تكون من اختصاص القضاء العادي، وذلك حتى بدايات مطلع القرن الماضي، إذ بدأ مجلس الدولة الفرنسي فى ولوج سبيل توسيع اختصاصاتها بعقود تبرمها الدولة أو أحد أجهزتها، كان ينظر إليها حينذاك أنها من العقود ذات التصرفات العادية.
وأما عن الوضع فى مصر، فإنه فى ظل اختصاص القضاء العادي بنظر منازعات العقود التي تبرمها الدولة, قبل نشأة مجلس الدولة المصري, يمكن القول أن المحاكم الأهلية والمختلطة لم تعرف القواعد القانونية الإدارية التي شادها ونظمها مجلس الدولة الفرنسي, وتلك التي أرساها مجلس الدولة المصري بعد إنشائه, إذ في ظل هذه الحقبة الزمنية كانت المحاكم الأهلية والمختلطة تطبق القانون المدني والتشريعات الخاصة علي العقود الإدارية, ولعل حكم محكمة النقض المصرية الصادر في 14/1/1932 في شان قضية الشعير المشهورة, يبرز لنا ويؤكد هذا النظر إذا ذهبت في حكمها إلي أن: ” ومن حيث انه وان كانت نظرية الظروف الطارئة تقوم علي أساس من العدل والعفو والإحسان, إلا انه لا يصح لهذه المحكمة أن تستبق الشارع إلي ابتداعها, فيكون عليها هي وضعها وتبيان الظروف الواجب تطبيقها فيها…..”
وتعليقاً على هذا الحكم المتقدم يقول أستاذنا الدكتور/ سليمان الطماوي : ” وحكم النقض السابق يبرز الفارق الجوهري بين القضاء العادي التطبيقي والقضاء الإداري ذي الطبعة البريتورية ”
وانه ولئن كان ما تقدم هو السائد حينذاك, إلا انه بعد نشأة مجلس الدولة في مصر أخذت فكرة أو نظرية العقد الإداري تتبلور لتظهر في صورتها الحقيقية, كما انه ولئن كان القانون الأول الصادر عام 1946 بإنشاء المجلس قد خلا تماماً من أية إشارة إلي اختصاص هذا المجلس بمنازعات العقود الإدارية, إلا أن الحال لم يستمر طويلاً, إذ صدر القانون رقم 9 لسنة 1949 ليحل محل القانون 112 لسنة 1946, وقد تضمن في مادته الخامسة علي اختصاص المجلس بالفصل في المنازعات الخاصة بعقود محددة عل سبيل الحصر ألا وهي : عقود الالتزام والأشغال العامة وعقود التوريد الإدارية, ولقد بررت لجنة الشئون التشريعية بمجلس النواب – حينذاك, هذا الاختصاص الجديد لمجلس الدولة بأنه: ” …. يتيح الفصل فيما ينشأ من المنازعات حول هذه العقود, ودون التقيد بالنصوص المدنية البحتة ويفسح المجال للأخذ في شأنها بنظريات قد لا تتسع لها نصوص القانون المدني, كنظرية الظروف الطارئة التي وضع القضاء الإداري أساسها ولم تأخذ بها المحاكم العادية بعد تأثرها بنظرية القوة القاهرة كما يعرفها القانون المدني”.
ورغم أن هذا الاختصاص لمجلس الدولة الذي أتي به القانون 9 لسنة 1949 بشان العقود الإدارية كان محدوداً واقصراً على عقودٍ محددة، إلا أن محكمة القضاء الإداري قد وسعت اختصاصها في مجال العقود الإدارية كما فعل مجلس الدولة الفرنسي من قبل, فمدت اختصاصها لعقود لم ترد في القانون9 لسنة 1949 استناداً علي اتصالها بأي عقد من العقود الثلاثة السابقة.
كما أن القضاء الإداري لم ينتظر كثيراً حتى وأن قام بإرساء فكرة أو نظرية العقود الإدارية محدداً ماهيتها ومقرراً القواعد العادلة لتنفيذ العقود الإدارية, في ضوء التوازن الذي ارسي مبادئه من ذي قبل بين المصلحة العامة للدولة أو للإدارة وبين مصلحة الفرد المتعاقد معها, ولا ريب في إن هذه العملية تعد غاية في الصعوبة عند الترجيح في المنازعة الواحدة, وان الأصعب منها وضع معيار واحد يقيم هذا التوازن بين طرفين متفاوتين في القوة, وبين مصلحتين تعلو أحداهما علي الأخر هما المصلحة العامة والمصلحة الخاصة, ويكفي أن نشير في هذا المقام إلي أحد أحكام محكمة القضاء الإداري في ظل أحكام القانون9 لسنة 1949, لنبين منه كيف أقام القضاء المصري التوازن العادل بين مصلحة الجهة الإدارية ” الطرف القوى” وبين مصلحة الفرد ” الطرف الضعيف” في أحد المنازعات العقدية, ففي هذه المنازعة قامت جهة الإدارة بإنهاء العقد قبل انتهاء مدته بناء علي نص في العقد يجيز لها ذلك الإنهاء المبتسر, فتضرر من ذلك المتعاقد معها, ولجأ للقضاء الإداري بالطعن رقم 670 لسنة 5ق, فأرست هذه محكمة القضاء الإداري – حيث كانت حينذاك تعتلي قمة قضاء مجلس الدولة المصري– مبدأ من أهم المبادئ القضائية, إذ قضت في حكمها الصادر بجلسة 23/6/1953 بالآتي:
” إنه إذا تقرر في العقد حق للجهة الإدارية في إلغائه أو إنهائه قبل انتهاء مدته وفي أي وقت تشاء, فإن ذلك منوط بوجود مصلحة عامة تقتضيه كما ينبغي أن يكون للأسباب التي يستند إليها أساس في الأوراق.”
ومن هذا الحكم المتقدم يتضح أن القضاء الإداري في مصر لم يشأ أن يجعل سلطة الإدارة طليقة من أي قيد وهي بصدد تنفيذها للعقد الإداري, وحتى مع وجود النص العقدي الذي يجيز لها إنهاء العقد في أي وقت تشاء,يجب عليها أن تبرر وجه المصلحة العامة التي دفعها إلي استخدام هذا الخيار, وذلك حتى لا تكون مصلحة الفرد المتعاقد معها في مهب الريح, تخضع لأهواء القائمين علي جهة الإدارة، فاستلزمت على الإدارة أن تبرز السبب الذي دفعها إلى هذا السلوك بإنهاء العقد قبل انتهاء مدته، ولم تقف عند هذا الحد بل أوجبت أن يكون النهو المبكر للعقد يرجع إلى تحقيق مصلحة عامة، وإلا كان مسلكها هذا معيباً يجب تقوميه بما يتفق وقواعد العدالة.
وبسبب هذا المسلك المتقدم للقضاء الإداري، لمس المشرع دور هذا القضاء في إرساء فكرة أو نظرية العقد الإداري، لذا حينما صدر قانون مجلس الدولة 165 لسنة 1955 نصت مادته العاشرة على أن: ” يفصل مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري دون غيره فى المنازعات الخاصة بعقود الالتزام والأشغال العامة والتوريد أو أى عقد إداري آخر ”
وبناءً على هذا النص ـ الذى انتقل كما هو إلى القانون الحالي رقم 47 لسنة 1972 ـ توحدت جهة الاختصاص فى موضوع العقود الإدارية، وبالتالي توحدت القواعد الموضوعية التى تحكم المنازعات المتعلقة بها، ولقد كان لهذا التغير أثره المباشر ليس فحسب على أحكام القسم القضائي بمجلس الدولة بل وعلى الفتاوى التى يصدرها قسم الفتوى أو إدارات الفتوى وكذا على لجان هذه الإدارات وعلى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع. كما أنه قد صاحب ما تقدم، أن ظهرت الحاجة إلى وجود معيار يفرق بين العقود الإدارية التى يختص بنظرها مجلس الدولة قضاءً وإفتاءً، وبين العقود الخاصة التى يختص بها القضاء العادي، لاسيما وأن هناك بعض العقود تكون الدولة أو أحد أجهزتها طرفاً فيها، وتتعامل من خلالها كما يتعامل الأفراد فيما بينهما، وبالتالى لا تعد من قبل العقود الإدارية. وهذا ما نبينه فى موضعه.
اترك تعليقاً