القانون الدولي.. بين ازدواجية المعايير ومبادئ الإسلام
لقد كان من أهم نتائج الحروب والصراعات الساخنة التي اجتاحت العالم بأسره في العصر الحديث, على الرغم من المعاهدات والاتفاقيات الموقعة والتوصيات التي أصدرتها العديد من المنظمات العالمية والدراسات القانونية الكثيرة, التي تدعو إلى السلام وإنهاء النزاعات المسلحة بالطرق السلمية, أن تفتق ذهن القوى الكبرى عن تقنين ما أطلق عليه فيما بعد بالقانون الدولي الذي يعود فضل ابتداع اصطلاحه إلى المفكر الإنجليزي بنتام في مؤلفه الشهير “مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع” المنشور في عام 1780, وهو الكتاب الذي تبعه عدة اجتهادات أخرى استحثت العالم على وضع قواعد عامة لتحكم العلاقة فيما بين الدول سلمًا أو حربًا بعد تلك المشاهد المأساوية والخسائر الضخمة الناتجة عن هذه الحروب والصراعات التي سجل بعضها المواطن السويسري هنري دونان في كتاب له سماه “تذكار سلفرينو” وأصدره عام 1862؛ حيث سرد خلاله مشاهداته للدمار الذي وقع على أرض “سلفرينو” ومقاطعة “لومبادريا” بإيطاليا عام 1859؛ حيث كانت ساحة حرب فيما بين القوات النمساوية من جانب وقوات فرنسا وسردينا من جانب آخر أسفرت عن وقوع فظائع وخسائر بشرية كبيرة, وهلكت بسببها أعداد كثيرة من الجرحى لقصور الخدمات والرعاية الطبية التي كانوا يحتاجون إليها, حتى وصل عددهم إلى ما يقرب من أربعين ألف جريح وقتيل, فضلاً عن عدد مساوٍ لذلك ماتوا بسبب الأوبئة.
وكان من أهم ما اقترحه دونان في نهاية كتابه هذا هو ضرورة تكوين وإعداد أفراد إغاثة طبية في زمن السلم وتحقيق حيادهم في زمن الحرب, حتى يتم معالجة القصور الملحوظ في الخدمات الطبية في الجيوش المتحاربة وتقديم الحد الأدنى من تلك الرعاية للمقاتلين والجرحى, وهو ما كان له أثره في تكوين لجنة خماسية سميت “اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى”؛ إذ استطاعت هذه اللجنة حمل الحكومة السويسرية على عقد مؤتمر في سنة 1864 حضرته ست عشرة دولة, وانتهى إلى إقرار اتفاقية دولية من عشرة مواد تتضمن تحسين حالة العسكريين في الجيوش الميدانية وتقديم الإسعافات الأولية والرعاية الطبية للمحاربين الجرحى والمرضى دون أي تمييز, مهما يكن المعسكر الذي ينتمون إليه, فيما يتمتع أفراد الخدمات الطبية والمنشآت والمهمات العلاجية بحماية خاصة.
وأصبح يعرف القانون الدولي من وقتها بأنه “مجموعة القواعد القانونية التي تحكم الدول في علاقاتها المتبادلة, أو التي تحدد حقوق كل منها وواجباتها”, أو أنه “مجموعة القواعد القانونية الوضعية التي تحكم العلاقات بين أشخاص المجتمع الدولي أو الجماعة الدولية”, وهو القانون الذي جاء استجابة لواقع الاعتماد المتبادل فيما بين الدول بعضها ببعض أو تقنينًا لطبيعة النزاعات الناشئة لأسباب مختلفة, كما امتد ليشمل أيضًا تنظيم العلاقات فيما بين كافة أشخاص المجتمع الدولي ومنها المنظمات الدولية العالمية أو الإقليمية أو الأفراد أو الأشخاص الآخرون الذين يمكن أن يكتسبوا الشخصية القانونية الدولية كحركات التحرر الوطني.
وعلى الرغم من الاهتمام الدولي بقواعد هذا القانون الذي خصصت لدراسته العديد من الكراسي العلمية في الجامعات والمعاهد المتخصصة في شتى أنحاء العالم, إلا أنه لم يضع حدًا لتلك الجرائم, فما زالت لغة القوة هي الباغية تسيطر على النزاعات المسلحة, وما زالت الأهواء السياسية تحول دون تطبيق ما قرره هذا القانون الدولي الذي يشهد العالم كل يوم انتهاكًا جديدًا لبنوده, بل ومحاولات فاضحة من قبل القوى الكبرى لتبرير هذه الانتهاكات مادامت تحقيقًا لمصالحها أو انحيازًا لحلفائها.
نرى ذلك ونسمعه في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي صدر بحقها العشرات من القرارات الدولية فيما يخص الانسحاب الصهيوني إلى ما قبل يونيو 1967 أو فيما يخص عودة اللاجئين الفلسطينيين أو فيما يخص الأسرى الفلسطينيين أو فيما يخص وقف بناء الجدار العنصري وغيرها الكثير, دون أن يتحرك أحد أو أن يوقع على “إسرائيل” أي عقاب.
نراه كذلك في العراق التي أصبحت بين يوم وليلة تحت قبضة قوات الاحتلال الأمريكي ومن عاونها من الحلفاء بذريعة مزاعم ودعاوى أكدت أجهزة استخبارات العدو نفسه عدم صدقها, وأنها لم تكن سوى الحجة والمبرر لتحقيق الطموح الغربي في السيطرة على مصدر الثروة في المنطقة العربية والإسلامية, وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد, بل امتد هذا العدوان لتشهد العراق المئات بل الآلاف من عمليات التقتيل والدمار اليومي الذي حول العراق – أغنى الدول العربية – إلى ساحة للدم والدموع.
والأمر ذاته في أفغانستان وكشمير والشيشان وغيرها من البقاع التي يعيش بها المسلمون والتي تشهد مآسي حقيقة تعطل عندها القانون الدولي, أو أن قراراته قد أصيبت بالشلل التام لتكشف عن الازدواجية في المعايير لدى ما يسمى بالمجتمع الدولي الحديث وكيله بمكيالين وفقًا لما تلميه عليه مصالح القوى الكبرى ضاربًا عرض الحائط بكل هذه القوانين أو الحقوق الإنسانية.
في المقابل فقد سبق الإسلام بتشريعاته ومبادئه ما شرعه المشرعون وقننه القانونيون من بنود القانون الدولي التي تحدد طبيعة العلاقات الدولية, فالقرآن الكريم يقرر أن الناس جميعًا أمة واحدة, فأصلهم واحد ومصيرهم واحد؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1], في حين أشار القرآن إلى أن التفاوت بين الناس في الألسن والألوان مظهر من مظاهر قدرة الله في خلق الإنسان؛ حيث قال: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22], ومؤكدًا في ذات الوقت أن اختلاف الناس شعوبًا وقبائل ليس سبيلاً للتقاتل أو التخاصم ولكن للتعارف والتعاون؛ إذ قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
ويعلق الشيخ الدكتور محمد أبو زهرة على هذه الآية بقوله: فالإنسان أينما كان هو أخ لغيره من الناس في كل مكان وتفرقهم شعوبًا وقبائل لا ليتنامروا ويتنازعوا ويتباغضوا, ولكن ليتعارفوا, وهذا التعارف يتيح لكل فريق أن ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان, فلا يتفرد فريق بخير إقليمه ويحرم منه غيره, فإذا كانت الأرض طوعًا لعوامل المناخ والتربة والمياه مختلفة فيما تنتجه, فالإنتاج كله تستفيد منه الإنسانية جميعها, ولا سبيل لذلك إلا بالتعاون والتعارف الإنساني.
وهنا يتحتم على المسلمين أن يؤمنوا إيمانًا صادقًا بالوحدة الإنسانية؛ فهي السبيل الأمثل لإنقاذ البشرية من كل ما تعاني منه من عصبية دينية أو عرقية أو جنسية جلبت على المجتمع الإنساني قديمًا وحديثًا أفدح الأخطار والأضرار, وما زالت حتى الآن تهيمن على عقول بعض القادة وبعض المفكرين نظريات تذهب إلى تفوق بعض الأجناس, وينبغي أن تكون لها الكلمة العليا المسيطرة, وهذا مناط ما تتعرض له بعض الشعوب في العصر الحاضر من امتهان لحقوقها وكرامتها.
اترك تعليقاً