التعديلات الدستورية والشريعة
لم تشمل قائمة التعديلات الدستورية الأخيرة التي تم إقرارها في مصر، المادتين الأولى والثانية التي كان العلمانيون يحرصون علي إلغائها من الدستور ومنها النص علي أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. لكن ذلك لا يعني استبعاد هاتين المادتين من قائمة التعديل أو حتى الإلغاء، بل علي العكس تشير الدلائل إلي أن هاتين المادتين مازالتا مطروحتين للتفكير في ضمهما إلي قائمة التعديل والإلغاء والتبديل، الذي ربما يحدث لاحقًا، وأوضح الأمثلة علي ذلك أن المحافل العلمانية تواصل طرح المادتين للنقاش والمطالبة بالتعديل في الندوات التي تعقدها وفي الصحف الموصوفة بالمعارضة والمستقلة، وكأن المادتين بالفعل موضوعتان علي قائمة التعديل.
وعلي قوة هذه المنابر الإعلامية والمحافل العلمانية وصلتها بجهات خارجية وحتى داخليه ذات نفوذ قوي في صنع القرار، فلا يستبعد بل يرجح كثيرا، أن تدرج فجأة المادتان علي قائمة التعديل. ومن المرجح كذلك وعلي ضوء ممارسات وخبرات سابقه أن يكون مصير المادتين معلقا بعملية تفاوض ومقايضة سياسية، أو بالأصح مشاجرة ومساومة مع قوي كبري يعرض عليها تعديل المادتين وتفريغهما من مضمونهما للمساعدة والموافقة علي سيناريو معين يشغل بال أهل السلطة ويلحون علي إتمامه بأي ثمن.
ولأن إدخال التغريب علي الحياة العامة المصرية من أوسع الأبواب وأكثرها عمومية ورسمية؛ هو مطلب القوي القوى العليا، فإن تحقيق هذا المطلب ومن خلال تعديل المادتين المشار إليهما سوف يكون ثمنا مغريا يدفع لقاء الحصول علي الدعم الضروري والتأييد الحيوي من الخارج للمشروع الداخلي المعني (التوريث).
وقد سبق في سنوات ماضية أن عدمت، أو بالأصح شوهت، قوانين الأحوال الشخصية كضريبة لجهات دولية علمانية لقاء الحصول علي المساندة والدعم من تلك الجهات لخطط وسيناريوهات واستمرارية داخلية.
وفي الآونة الأخيرة كذلك فوجئ الرأي العام بإعلان مفاجئ حول تعديل مقررات الدراسة للعلوم الشرعية في جامعة الأزهر ، واقترن هذا الإعلان المفاجئ من جانب رئيس الجامعة بحدة شديدة في الخطاب، حيث أكد أنه لن يسمح لأحد بالاعتراض على تلك التغييرات التي لم يكشف هو أو غيره عن مضمونها ومداها أمام الرأي العام، وكأنها من الأسرار الحربية وليس من الأمور العامة، التي يمكن بل يجب على الجميع مناقشتها والتعرض لها للنقد والتفنيد والتحليل والاعتراض إذا كانت تستحق ذلك.
ومن المعروف كذلك أن مطلب تغيير مقررات الدراسات الدينية الإسلامية كان من المطالب الغربية والعلمانية منذ مدة بعيدة إلا أنه لم يوضع محل التنفيذ خشية ردود الأفعال المحلية، وكذلك كرغبة فيما يبدوا لاستغلاله كورقة مساومة مع القوى الغربية والعلمانية لتقديم الدعم والتأييد لنفس السيناريوهات والخطط التي تنفذ الآن وفي المرحلة القادمة، والتي سوف توضع المادتان الأولى والثانية من الدستور في إطارها، وتكون بذلك مرشحة للتغيير والتعديل في الاتجاه التغريبي والعلماني.
وفي حالة تغيير المقررات بالجامعة الأزهرية فقد اتخذت لذلك حجة واهية وبعيدة الصلة عن الموضوع وهي قيام بعض طلاب الجامعة بالتظاهر احتجاجا على ممارسات أمنية ضدهم.
وبالمثل، فمن الممكن أن تتخذ حجج ومبررات واهية وضعيفة (مثل العلمانية في الداخل ومطالبات بعض الأصوات القبطية بالإلغاء ) ذريعة لإقحام هاتين المادتين في خطط التعديلات الدستورية يكون الهدف الحقيقي كما أسلفنا هو إدخال العلمنة والتغريب كاتجاهات يؤسس لها في الدستور الذي يسمى بأبي القوانين.
ومن الأدلة المهمة في هذا السياق أن أحد كبار الأثرياء من رجال الأعمال الأقباط كتب يدعو إلى تغييرات معينة علي المادتين ليس على سبيل الإلغاء، ولكن على سبيل أن يتقيد النص بوضوح على “حقوق” وليس “واجبات” غير المسلمين في ألا يخضعوا لأية قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية.
ومن الواضح أن مثل هذا الطرح لا يهدف فعلا إلى إدخال تلك النصوص المقيدة، بقدر ما يهدف إلى هز المادتين، مما ييسر فيما بعد إلغاءهما، وهو بالفعل ما ذهبت إليه أصوات علمانية في تعقيبها على مقولة رجل الأعمال صاحب النفوذ القوي.
ومن الحجج الرئيسية التي يطرحها العلمانيون للمطالبة بإلغاء النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي في مصر، وعلى أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في المادتين الأولى والثانية من الدستور، أن تلك الوثيقة العليا لا يجب أن تتضمن نصوصا وتفصيلات مقيدة لحركة المجتمع، بما قد يعيقه عن الحركة، وبالذات في وسط عالمي سريع التغير.
والواقع أن هذه الحجة الرئيسية تكذبها عملية إدخال تفصيلات دقيقة للغاية على الدستور في ميادين تتعلق بنظام الانتخابات الرئاسية والنيابية والنظام الحزبي ( يحجر على أصحاب الفكر الديني وعلى المستقلين عن الأحزاب السياسية ) وغير ذلك، وإذا كان المجال الطبيعي لأمثال هذه التفاصيل هو القوانين واللوائح التنفيذية والمذكرات الإيضاحية للقوانين، فإن الإصرار على وضعها في الدستور بما يشوهه ويدخل عليه عدم الانتظام والتناسق ( وفق رأي الخبراء الدستورين ) هو مما يستغرب، ولا يستقيم مع رفض النص على الإسلام والشريعة الإسلامية في الدستور بحجة أنها أمور تفصيلية أو مقيدة للحركة أو عائقة للتغير والتطور.
والواقع أن النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وعلى أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، هو من الأمور العامة المحددة للهوية العامة للمجتمع المصري والمستندة إلى التاريخ. ووجود هذه الأمور في الدستور ليس من قبيل إقحام التفاصيل أو وضع القيود بل هو من المبادئ العامة في الدستور، وهي من الأمور المتصلة بالكيان والتعريف بالهوية والماهية.
وإسقاط هذه النصوص في الدستور لن يوجد حرية أو انفتاحًا، أو يسهل التغيير، بل على العكس تماما، فإنه سوف يمهد الطريق فقط لإحلال مبادئ ومفاهيم وتصورات عليا أخرى حول الهوية والتعريف بالماهية.
وسوف تكون هذه المبادئ هي التصورات العلمانية المتغربة، ليس فقط في أحوالها العامة، بل في أشد صورها تفصيلا وتقييدا، من حيث ارتباطها وتجسيدها لنظام تاريخي تابع للنمط الحضاري الغربي، وهو النمط المعاصر الذي تمثله مرحلة العولمة وهيمنة القطب الأمريكي. وقد لا ينص على هذا النمط صراحة وبوضوح، كما هي الحال بالنسبة للإسلام كدين رسمي والشريعة كمصدر تشريعي أساسي، لكن مع ذلك سوف توضع هذه المبادئ بشكل تفصيلي ومباشر في شتى جوانب الدستور ليضفي عليه تحديدا أو قيودا حقيقية ليست موجودة في حالة المادتين الأولى والثانية.
ولن يقتصر الأمر هنا على مادتين في الدستور، بل سيمتد ليشمل كل الجوانب وسيغطي النواحي العامة والتفصيلية.
إذن إسقاط الإسلام والشريعة من مادتين فقط من مواد الدستور لن ينطوي على تحرر وفتح للطريق أمام اختيار النظام الذي يلائم حاجات المجتمع ( هذه على أي حال ليست وظيفة الدستور على عكس الزعم الراجح ) وإنما سوف ينطوي فقط على إحلال مبادئ عليا أخرى محل الإسلام والشريعة، مع فوارق مهمة . ففي حالة إحلال العلمانية والتغريب لن يحل هؤلاء على المستوى العام المجرد والمتحرر من التفاصيل الجزئية والدقيقة والمقيدة للحرية والانفتاح . كما الحال مع الإسلام والشريعة، وإنما سوف يحل العلمانية والتغريب على كل المستويات ولاسيما التفصيلية والجزئية.
والفارق الثاني هو أن إحلال مبادئ العلمانية والتغريب لن يتم بالسبيل المباشر وإنما على سبيل الخداع، وذلك على الأقل في المرحلة الأولى، لكي لا يقال إن الإسلام والشريعة ألغيا لتحل العلمانية والتغريب محلهما، تحت ضغط التدخل الأجنبي.
والواقع أن الذي سيلغي، لن تكون القوى العلمانية المحلية، وإنما القوى الخارجية التي لا تزال تضع الديمقراطية في الاعتبار الأول.
أما الفارق الثالث والأهم، فهو أن الإسلام والشريعة المنصوص عليهما في الدستور لم يكونا أبدا قيدا على حرية الاختيار بين الأنظمة السياسية والاقتصادية، ولم يكونا أبدا قيدا على حريات وحقوق وأوضاع غير المسلمين. ولكن المبادئ العلمانية التغريبية التي يراد لها أن تحكم الدستور، فإنها بحكم التعريف، “إقصائية” و”موجهة” بشكل عدواني، وبالتحديد ضد الوجود الإسلامي، كما يدل على ذلك النص الذي يراد الآن وبوضوح إدخاله لمنع قيام أحزاب على أساس الفكر الإسلامي .
اترك تعليقاً