تأثير الإعلام على القرارات القضائية
تشكل منظومة الإعلام في العصر الحديث أساسا مهما من أسس ثقافة الإنسان، إذ تعمل من أجل إيصال الخبر والمعلومة إليه بكافة الطرق المقروءة والمسموعة والمرئية، وزاد التطور التكنولوجي من أهمية دور الإعلام في أن تضع هذه المنظومة إمكاناتها الهائلة أمام المتلقي دون عناء كبير، حيث توفرت السبل والوسائل التقنية التي تمكنها أن تفرض نفسها لتصبح جزءاً مهماً من مصادر ثقافته، وأن تدخل إلى بيته و تفاصيل حياته اليومية دون استئذان، وأن يعتمد عليها اعتمادا كبيرا في ثقافته ومصادر معلوماته، ولذا فأن أهميتها اليوم تكمن إزاء علاقتها الوثيقة والماسة بحياة الناس، بحيث أصبحت زادا مهما لا يستغنى عنه في كل الأحوال.
كما يعتبر الإعلام المرآة الحقيقية التي تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، ويلعب الإعلام دورا تنويريا في دعم الثقافة الإنسانية ونشر الوعي وتبسيط مفاهيم المواطنة والوطنية والحث على احترام حقوق الإنسان واحترام الرأي الآخر.
وأمام سعة المساحة التي تعمل بها تلك المنظومة يتوزع دورها وتأثيرها سلبا أو إيجابا من خلال انسجامها أو مصداقيتها، فهي تشكل تأثيرا واضحا على المتلقي، وهذا التأثير يمكن توجيهه بوسائل متعددة، مثلما يمكن تشويه الحقيقة أو تحريفها في جانبه السلبي، مما ينعكس على المستمع أو القارئ أو المشاهد المتلقي، يتحدد ذلك بالقصد أو الهدف الذي تعمل في إطاره تلك المنظومة الإعلامية، على اعتبار أن مهمة الإعلام من المهمات الإنسانية التي تدخل ضمن هيكل الثقافة الإنسانية، فهي بكل تأكيد تعمل وفق تلك المناهج الإنسانية التي تسعى لخدمة الإنسان، وفي سبيل إيصال الثقافة الإنسانية إلى المتلقي بجميع الطرق والوسائل الممكنة، وهذه المهمة تكون في توفير المعلومة الصادقة والتحليل الصائب والدقيق والخبر الواضح البعيد عن التشويه والدس والقصد السلبي المبيت، لأنها في الحال الأخير تتحول إلى ثقافة مشوهة وتحريف وقصد مبيت تسعى له لتحقيق غاية أو غرض معين على حساب الحقيقة.
وتنعكس تلك الحالات على ما ينقله الإعلام عن القضاء، وخصوصاً ما يتعلق بعملية التحقيق والقرارات القضائية، مع أن الإعلام يستطيع أداء الدور الايجابي المهم في رصد العملية القضائية والإشارة إلى مواقع الخلل والزلل التي ربما تعتري سير العملية القضائية، غير أن التقاط ما يتسرب من إجراءات يتم اتخاذها في سير التحقيق، يضر ضررا بليغا ليس فقط بالقضاء أنما بالعدالة بشكل عام، حيث أن العديد من أنظمة القضاء في العالم إن لم تكن كلها أجمعت على عدم جواز إطلاع احد غير إطراف القضية أو وكلائهم من المحامين على الأوراق التحقيقية، مع إن الإعلام يستطيع رصد ما يقع من خرق في الأدوات الشرعية الدستورية أو في ضمانات المتهم التي رسمها الدستور ونص عليها قانون أصول المحاكمات الجزائية أو التطبيق العملي لمبادئ وإعلانات حقوق الإنسان في هذا المجال، فتكون مهمته النقدية وفي الإشارة إلى الخلل والخرق نقدا ايجابيا بقصد المساهمة في الإصلاح بعيدا عن التشويه والإثارة والتحريض والإساءة المتعمدة.
ووفقا لهذا يتعين على الإعلام التقيد بالمبادئ والقيم التي تفرضها أخلاق المهنة ومعايير السلوك المهني، مثلما عليه أن يعرف أن القضاء مقيد بنصوص قانونية واجبة التنفيذ والتطبيق، حيث تنحصر مصادر التجريم والعقوبة ضمن النصوص الواردة في قانون العقوبات والقوانين العقابية الأخرى، موضوعياً أو شكليا ضمن القوانين التي تنظم أصول التحقيق أو المحاكمات أو سير الدعوى المدنية.
وفي الدول التي تعتمد نظرية فصل السلطات نجد أن السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان أو مجلس النواب هي التي تصدر القوانين، وأن هذه القوانين تقرر الحماية الاجتماعية حسب مفهوم السلطة التشريعية ، بينما تأخذ السلطة التنفيذية على عاتقها مهمة تطبيق وتنفيذ تلك القوانين ، أما مهمة السلطة القضائية فهي السلطة التي تحمي الحقوق والحريات وتتكفل بإضفاء الحماية على مصالح المجتمع من خلال تطبيق النصوص القانونية تطبيقا مجرداً وحيادياً تطبيقاً أميناً وسليماً، أي أن القضاء يصنع من تلك النصوص الجامدة قرارات قضائية ملموسة وواجبة التنفيذ ـ أي أنها تتحول إلى واقع ـ إضافة إلى مهمة كبيرة تتلخص في السهر على تطبيق القانون، ولهذا جعلها الدستور سلطة مستقلة لا سلطان عليها لغير القانون، هذه الآلية في توزيع الأدوار والاعمال جعلت الشراكة والتخصص في المهام رابطاً منسجماً تحرص على أدائه كل سلطة من هذه السلطات وبالتالي فان الدور الإعلامي الايجابي يكمن في تعميم ونشر هذه الثقافة القانونية والدستورية في مهماتها الإعلامية، لأن خلق حالة من الضبابية والتشويش على ذهن المتلقي يدخلها في جانب الأعمال السيئة المقصودة لتحقيق نتائج تعارض العدالة وتخالف الحقيقة.
ونلاحظ انه في جميع القضايا التي تعرض على القضاء هناك أطراف ثلاث في كل قضية، أولها الادعاء العام باعتباره ممثلا عن المجتمع في دعاوى الحق العام، وثانيا المشتكي أو المتضرر من الفعل، وأخيراً المتهم بارتكاب الفعل المعاقب عليه قانونا، ففي الوقت الذي يلتزم القضاء بحياديته واستقلاله، فانه يسعى إلى تحقيق العدالة دون تغليب أي طرف من هذه الأطراف على الأخرى، معتمدا في ذلك على ما يتوفر أمامه من أدلة وأسانيد في القضية، ولا يمكن للقضاء أن يعتمد الأدلة التي يعرضها الإعلام أو يعتقدها صحيحة، كما لا يمكن اعتماد وجهات النظر والآراء التي يقوم الإعلام بالتركيز عليها واعتمادها لأنها تعتبر خارج نطاق القضية التي تتحدد بأدلتها دون اعتماد حتى المعلومات التي توفرت للقاضي بعلمه الشخصي.
لذا فلا مجال للإعلام في تبرير أو خلق صورة متناقضة أو متعارضة مع النص العقابي والدفع باتجاه تشكيل رأي أو تحشيد باتجاه مخالف لهذه المصادر وبالتالي الإساءة إلى القضاء بالنتيجة دون وجود منطق أو تبرير معقول، لأن العديد من هذه المواقف ما يشوش عمل القضاء ويربك عمل المحاكم، كما أنه يؤثر نفسيا وعمليا على حسن أداء القضاء لمهمته النبيلة، وبالتالي يساهم الإعلام وفقا لهذا عن قصد أو حتى دون قصد في حرف العملية القضائية عن مسارها وبالتالي الإضرار بقضية العدالة.
إن اغلب القوانين عاقبت الجهة التي تنشر أمورا من شأنها التأثير في القضاة الذين أنيط بهم الفصل في دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء، كما عاقبت القوانين كل من نشر بإحدى طرق العلانية إخبارا بشان محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها أو تحقيقا قائما في جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق التحقيق أو إخبارا بشان التحقيقات أو الإجراءات الجارية، وما يجري في الجلسات العلنية للمحاكم بسوء قصد ونية وبغير أمانة ومخالفة قرار المحكمة سرية ما يجري من تحقيقات في القضية المنظورة أمام المحكمة.
أن معرفة الإعلام باختصاصات المحاكم ضرورة في توجيه المواطن بدلاً من المساهمة في نشر الخطأ، فالقانون يقيد المواطن إقامة دعواه أمام المحاكم المدنية إذا كان بقصد المطالبة بحق مدني عيني أو شخصي، وهو مقيد أيضا أن يقيم الشكوى الجزائية أمام المحاكم الجزائية، وبهذا الإلزام لا يمكن مخالفة الاختصاص مع وجود ترابط بين تلك الاختصاصات، غير أن عدم معرفة هذا الاختصاص والخلط في عمل المحاكم يخلق أثره السلبي تجاه المواطن فيدفعه للاعتقاد بصحة الخطأ.
وتقع على عاتق الإعلام الالتزام بالمهنية وتجنب الخوض في تفاصيل القضايا المطروحة أمام القضاء تجنبا للإرباك والتأثير في مسار العملية القضائية، ومن هنا يتعين حجب المعلومات عن الإعلام تجنبا لتلك النتائج التي تؤثر ليس على مسار القضية المطروحة، إنما على القاضي بشكل غير مباشر وعلى العدالة بشكل مباشر.
ووفق ذلك يتعين أن تكون المعلومات المتوفرة أمام القضاء بعيدة عن الإعلام، وهذا الحجب من واقع الاستقلالية التي يتمتع بها القضاء، وهو أمر واجب التقدير والاحترام والالتزام به من الجميع، ومن المؤكد أن التحليلات والاستنتاجات التي ينشرها الإعلام في تناول قضية معينة لم تزل معروضة أمام القضاء ستؤثر بالتأكيد في مسار هذه القضية.
وبعيداً عن التحليلات والاستنتاجات التي تطرحها الكتابات والتصريحات يكون القرار القضائي محايداً ومنصفاً محققاً العدالة بقدر الإمكان، وبالإمكان تفعيل دور القضاء بشكل إيجابي بعد صدور القرار واعتباره باتا مكتسبا للدرجة القطعية، حيث يمكن التحليل والتدقيق وتوجيه الرأي العام لما فيه الدفاع عن الحقيقة والعدالة، إضافة إلى الفائدة الكبيرة التي يحققها القضاة من تلك التحليلات ووجهات النظر المختلفة.
ويدرك الإعلام الاعتبارات والضمانات التي وفرها القانون للمتهم في سرية التحقيق، وهذه السرية توفر الحماية للمتهم من كل تشهير يقع عليه، باعتبار أن هذا الدور ينتهي بقرار أما بالإفراج عن المتهم أو ثبوت براءته أو بتوفر الأدلة التي تكفي لإحالته على المحكمة المختصة، وبالتالي فأن أي تشهير أو كشف يعتبر من قبيل الإضرار بمبدأ السرية وحقوق المتهم، وبالتالي الإضرار بعملية التحقيق بشكل عام.
فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته بالإضافة إلى إرباك عمل المحقق ونشر معلومات قد تضر بمصلحة طرف من الأطراف فيساهم الإعلام بالدور السلبي بالتأثر على القرار القضائي، ولهذا جعل القانون جلسات التحقيق سرية بينما جعل جلسات المحاكمة علنية، بعد أن استقرت الأدلة وأدلى أصحاب العلاقة بأقوالهم وقدموا أدلتهم، مع أنه في حالات محددة قانونا قد تعقد المحكمة جلساتها بشكل سري خلافا لمبدأ العلنية، والعلنية هنا بقصد أن يثق الجمهور بحسن سير وأداء القضاء في تحقيق العدالة والتطبيق السليم للقانون فيحقق بالتالي سياسة الردع العام.
وبعد كل هذا فإن القضاء ملزم بالتمسك بالاستقلالية والحياد كمبدأ ثابت من الثوابت القضائية، يمارس مهامه بتجرد، ملزم بحسم القضية المعروضة أمامه بأدلتها، دون أن يصير تحت قيود وضغوط الإعلام، وإذا ما شعر القاضي انه تحت تأثير وضغط الإعلام فبالإمكان حرصا منه على تحقيق العدالة أن يتنحى عن النظر في القضية المعروضة لهذه الأسباب.
ويبرز بشكل خطير دور الإعلام وتأثيره على القرارات القضائية من خلال زرع البلبلة والتشكيك في نزاهة القضاء، والإصرار على ترديد معلومات ومفردات تساهم في بث الفرقة وزيادة الشقاق بين المتخاصمين فتزيد الفتنة اشتعالا والعداء قوة وتزيد الكراهية والحساسية اتساعا، وبالتالي فهي تؤثر سلباً في مجريات القرار القضائي بشكل غير مباشر، وكما تساهم أيضا في التدخل للمساهمة بمنع الناس من الإدلاء بمعلوماتهم أو شهاداتهم في القضايا المطروحة أمام القضاء ، مثلما يبرز دور الإعلام الايجابي في التمسك بنشر الوعي والثقافة الوطنية ورصد الفساد والجرائم الإرهابية وتوظيف الرقابة الذاتية والتعاون مع السلطات التنفيذية والقضائية لاحترام معايير العدالة والالتزام بتطبيق القانون، وفي أحيان عديدة يقوم الإعلام بالتأثير على القرار القضائي لأغراض سياسية موجهة.
إن مبادئ السلوك القضائي التي تلتزم بها المؤسسة القضائية كفيلة بان تجنب التأثير المباشر على القرار القضائي، بالنظر لأن تلك المبادئ تشكل تحصينا للقاضي، وصونا لعدالة القرار، مع أن القاضي هو ابن المجتمع عليه أن يدرك ويعلم مدى التنوع في المجتمع والفروق الناشئة عن اختلاف الجنس والنوع والدين والأصل العرقي، وهو متابع ومتواصل مع الثقافة الإنسانية، وبالتالي فهو وإن كان مدركا ومتفهما للتنوع الموجود في مجتمعه، ومتابع للثقافة الإنسانية في بلده أو في العالم، وهو بهذا الأمر يمكن له معرفة المقاصد والغايات التي يرمي بها الإعلام إذا ما حاول التأثير على تلك الحقائق ومحاولة دفع القاضي لخرق مبادئ السلوك القضائي.
أن ترسيخ هيبة السلطة القضائية واحترام استقلاليتها لا يكون بانغلاق القضاء كلياً على الإعلام، إذا ما نظرنا إلى الجانب الايجابي لدور الإعلام، ونجد من الضروري والمهم وجود تنسيق أعلامي بين عمل المؤسسة القضائية والإعلامية، حيث أن انتقاد القضاء بشكل أصولي لا يمس هيبته، كما أن انتقادات القوانين لا يمس السلطة التشريعية، مثلما نجد أن رقابة الإعلام تعزز قوة ومنعة القضاء، باعتبار أن الإعلام بوابة المعرفة في نشر الثقافة الإنسانية
* بقلم: د/ زهير كاظم عبود *
اترك تعليقاً