بحث قانوني ودراسة عن قوة الأحكام الجنائية أمام المحاكم المدنية
البحث الأول: أثر الحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية:
يتناول بحثنا في هذا الموضوع بيان المسائل الآتية:
الأولى: فقه المحاكم المصرية فيه.
الثانية: آراء علماء القانون الفرنسوي وفقه المحاكم الأفرنسية.
الثالثة: مذهب القانون المصري وكيف يجب تطبيقه في هذا المقام.
1 – فقه الأحكام المصرية
قد يندفع المترافعون مع مصلحتهم فيرى كل منهم أن هذه مسألة بسيطة، الرأي الصحيح فيها ما كان موافقًا لطلباته، فإذا عثر على حكم يؤيد رأيه قال إن هذا ما أجمعت عليه الأحكام، وفي هذا من النقص في البحث وتعقيد مأمورية القاضي ما لا يسهل معه [(1)] وجهها الصحيح.
الواقع أن المسألة دقيقة معقدة، وقد اختلفت فيها الأحكام اختلافًا بينًا، بل قد اختلفت فيها الدائرة الواحدة، فقضت برأي ثم عدلت إلى نقيضه.
في 31 أكتوبر سنة 1901 قررت محكمة الاستئناف (دائرة المستر بوند) أن الحكم الجنائي لا أثر له أمام المحكمة المدنية وهذا نص أسباب الحكم حرفيًا:
(حيث إنه لا يوجد نص في القانون يقضي بجعل المحاكم المدنية مرتبطة بالأحكام الصادرة من المحاكم الجنائية فيسوغ إذن لهذه المحكمة أن تنظر في دعوى تزوير العقد بالطرق المدنية).
(وحيث إن عبد الحافظ محمد أحد المستأنفين لم يطلب من هذه المحكمة الحكم بتعويض كما طلب أمام محكمة الجنح بصفته مدعيًا بحق مدني بل إن غاية ما يطلبه هو تزوير العقد) (المجموعة الرسمية السنة 4 عدد (15) صحيفة نمرة 37 – 39).
ظاهر من هذا البيان أن واقعة الدعوى التي صدر فيها الحكم أن دعوى التزوير الجنائية كانت قد تعلقت أمام القضاء الجنائي وأن النزاع فيها كان منظورًا بين المتمسك بالعقد وبين المدين فيه، وكان هذا الأخير داخلاً في الخصومة مدعيًا بحق مدني، فصدر الحكم بالبراءة في وجه الخصمين، ثم لما جاء دور المرافعة المدنية طعن المحكوم ضده بالتزوير مرة أخرى أمام المحكمة المدنية فقررت محكمة الاستئناف أن الحكم الجنائي الصادر في الدعوى العمومية وفي الدعوى المدنية معها لا قيمة له أمامها، لا لأنه صادر بالبراءة وأحكام البراءة هي وحدها التي لا يحتج بها أمام المحاكم المدنية كما يقول البعض استدلالاً بأقوال علماء القانون الفرنسوي، بل بناءً على ذلك المبدأ العام المقرر في الحكم بكل جلاء ووضوح وهو استقلال كل من القضائين الجنائي والمدني عن بعضهما استقلالاً لا يجعل لأحكام أحدهما أثرًا أمام الثاني لاختلاف الخصومة موضوعًا وسببًا، وإذا رجعنا إلى هذا المبدأ الأصلي في تحديد أركان الأحكام الانتهائية فلا فرق بين أحكام البراءة وأحكام العقوبة.
في سنة 1904 عرض الموضوع نفسه على جلسة أخرى (دائرة سعد زغلول) فذهبت إلى نقيض ما ذهبت إليه الدائرة السابقة، بل وبالغت في الرأي إلى حد الاحتجاج بالحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية وخضوع هذه المحكمة له وأن صدر بالبراءة خضوعًا مطلقًا في جميع تقريراته، حتى في ما خرج عن اختصاص المحكمة الجنائية كالتقرير بصورية العقد.
غير أن هذا الحكم وحيد في نوعه بل لا نجد له مثيلاً لا في الأحكام الأفرنسية ولا في آراء العلماء هناك فإنهم يرجحون كما سنرى الارتباط بالحكم الجنائي إذا صدر بالعقوبة، أما حكم البراءة فلا يعتد به، ثم إنهم مع اتفاق جمهورهم على هذا المبدأ يحددونه بأن يكون ما حكم فيه القاضي الجنائي داخلاً ضمن اختصاصه المحدد بوقائعه المعروفة وليست صورية العقد منها.
في 13 فبراير سنة 1909 عرضت المسألة على محكمة النقض والإبرام (رئاسة المستر بوند أيضًا) فاضطرب رأيها في الموضوع، فقررت في الحكم مبدأ ثم خرجت في التطبيق عن قبول نتائجه القانونية، لهذا رأينا الحكم لا يقبل من المدعي المدني الرجوع إلى دعوى التزوير أمام محكمة الجنح بعد الحكم فيها مدنيًا بناءً على استقلال القضائيين، بل قضى بأن المحكمة الجنائية يجب عليها أن تحترم الحكم المدني ولكن في علاقات الخصمين المترافعين وحدهما فللحكم قوة الشيء المحكوم فيه فيما يختص بالحق المدني، أما فيما يختص بالتزوير الجنائي وهو موضوع الدعوى العمومية فالحكم المدني لا أثر له بناءً على استقلال القضائين فقبلت الدعوى العمومية وقضت بعدم قبول الدعوى [(1)].
قد يفهم أن هذا ليس عدولاً عن مبدأ الحكم الأول، لأن في قبول الدعوى العمومية تأييدًا لاستقلال المحكمة الجنائية وعدم خضوعها لحكم المحكمة المدنية، وهذا معنى استقلال القضائين عن بعضهما ذلك الاستقلال المقرر في حكم سنة 1901.
غير أن هذا خطأ لأن حكم سنة 1901 قبل النزاع المدني بين نفس الخصمين اللذين ترافعا أمام المحكمة الجنائية وصدر الحكم في خصومتهما، وفي الموضوع المتفرع عن نفس الواقعة التي كانت محلاً للمرافعة الجنائية فكان يجب على هذا أن تقبل مرافعة المدعي المدني أمام المحكمة الجنائية رغمًا عن مرافعته أمام المحكمة المدنية فعدم قبول الدعوى قيد من قيود الاستقلال الذي تقرر في الحكم الأول.
وأظهر من هذا أن المبدأ المقرر في حكم سنة 1901 إنما سببه القضائي اختلاف الخصومتين أمام القضاء الجنائي والمدني موضوعًا وسببًا، فإن الخصومة الجنائية موضوعها تعويض والمدنية موضوعها نفس الحق المدني المتنازع عليه في ذاته، وسبب الخصومة الجنائية واقعة وسبب الخصومة المدنية رابطة قانونية مستفادة من عقد متنازع فيه، ووضع النظرية على هذا الأساس – وهو أساس متين – يقتضي أن لا يكون للحكم المدني أثر أمام المحكمة الجنائية.
على أن قبول الدعوى الجنائية بناءً على استقلال القضائين كان يترتب عليه حتمًا قبول الدعوى المدنية لأن كل واقعة جنائية إذا ثبتت تقتضي حتمًا وبمجرد إثباتها حق التعويض لمن وقعت عليه، وليس من الممكن أن يقرر القضاء أن جناية وقعت على زيد ثم يقضي في الوقت ذاته أن المجني عليه لا تعويض له فليس من الجنايات ما لا يجوز تعويض ضرره أو إزالة آثارها المدنية الظالمة.
الذي نفهمه أن لا جناية بغير مجني عليه وأن انعدام شخص المجني عليه يجعل الجناية مستحيلة فالدعوى العمومية مستحيلة الوجود بل مستحيلة التصور لأنه لا يمكن تعليق واقعتها في الهواء أو حصرها في حيز الفكر والوهم النظري.
لهذا قلنا إن الحكم مضطرب وما عنينا بشأن اضطرابه إلا بيانًا لخطورة المسألة وأهميتها، وتعلقها بمبادئ عديدة قد يغيب على ذهن الباحث بعضها ويحضره البعض، فيثبت رأيه على ما لا يوافق الأحكام المقررة في القانون أو المستفادة من مبادئه، ويكفي مطالعة أسباب الحكم ليتبين كيف أن المسألة دقيقة وكيف أن هذه الأسباب تدل على عدم اتفاق الحكم مع المبدأ الذي تقرر في حكم سنة 1901.
يقول الحكم ما نصه:
(وحيث إن هذه الدعوى قد توفرت فيها كافة الشروط المطلوبة لتطبيق مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا على الدعوى المرفوعة من المدعين بالحق المدني لأن الخصوم هم أنفسهم في كل من الدعويين ويعتبر أن المطلوب في الدعويين واحد، والسبب فيهما واحد أيضًا متى كانت الدعويان مختصتين بشيء واحد ولو اختلف وصفهما والمسألة المطلوب الفصل فيها نهائيًا من المحكمة هي وذاتها مبنية على السبب ذاته. المجموعة الرسمية سنة 10 صحيفة 167).
الفرق واضح بين هذا وبين قوله في حكم سنة 1901 أن المدعي لا يطلب من المحكمة المدنية الحكم بتعويض كما طلب أمام محكمة الجنح، بل هو يطلب الحكم بتزوير العقد نفسه مدللاً بذلك على اختلاف الخصومتين موضوعًا وسببًا، أما هنا فقد أصبحت الخصومتان المختلفتان خصومة واحدة لمجرد تعلقهما بواقعة واحدة وهي الواقعة الجنائية المطروحة أمام القضائين.
في 21 يناير 1913 حكمت محكمة الاستئناف (دائرة يحيى باشا) على خلاف حكم سنة 1901 وعلى خلاف حكم سنة 1909 من حيث المبدأ والنتيجة فقررت أن الحكم بالبراءة ترتبط به المحكمة المدنية فيمنع من الرجوع إلى دعوى التزوير مدنيًا.
يقول الحكم ما نصه:
(وحيث بناءً على ذلك تكون تهمة التزوير قضي فيها نهائيًا والدعوى الحالية المطلوب فيها إلغاء عقد الرهن ومحو التسجيلات المتوقعة مبنية فقط على الادعاء بتزوير هذا العقد الذي يرجع فيه إلى الحكم الصادر في دعوى التزوير. مجموعة سنة 14 عدد (50).
عُرضت المسألة أخيرًا على محكمة النقض في أول يوليو سنة 1918 فأيدت من جديد مبدأ حكم سنة 1901 القائل باستقلال القضائين، واختلاف الخصومتين موضوعًا وسببًا وعدم جواز تقيد أحد القضائين بحكم الآخر ورجعت عن حكم سنة 1909 رجوعًا صريحًا.
جاء في حكم النقض ما نصه:
(وحيث بناءً على ذلك تكون الدعوى الحالية المؤسسة على الضرر المادي والأدبي الذي لحق بالمدعي المدني أثناء سير القضية المدنية لسبب التزوير تعتبر دعوى يختلف موضوعها اختلافًا تامًا عن دعوى المطالبة بالدين التي حكمت فيها المحكمة المدنية كما أن القيمة المطالب بها في كليهما مختلفة أيضًا فلا يصح القول والحالة هذه بسبق الفصل في دعوى التعويض الحالية. مجموعة سنة 20 عدد 2).
وإذا جاز بعد بيان أحكام محكمة الاستئناف وأحكام محكمة النقض والإبرام أن نذكر على سبيل إتمام البحث ما نشر من أحكام المحاكم الابتدائية التي رأت إدارة المجموعة نشرها لأهمية مباحثها، فإن في المجموعة حكمين صادرين من محكمة بني سويف بصفة استئنافية وهذا بيان كل منهما.
حكم 6 يناير سنة 1910 جاء في بحث مطول ما نصه:
إن مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا المنصوص عنه في المادة (232) مدني لا يمنع من إقامة الدعوى العمومية مباشرةً لأن الأحكام المدنية فصلت في حقوق مختلف موضوعها وسببها عن موضوع وسبب الحق المطلوب في الدعاوى الجنائية. مجموعة سنة 11 عدد 46).
وحكم 3 فبراير سنة 1912 جاء فيه ضمن بحث مستفيض أيضًا ما نصه:
(حيث إنه ليس يوجد في القوانين المصرية نصوص تشير إلى أن للأحكام الجنائية قوة الشيء المحكوم فيه نهائيًا على الدعاوى المدنية المتفرعة من الجرائم مثل النصوص الموجودة في القوانين الفرنسوية. المجموعة سنة 1913 عدد 118).
واضح إذًا من هذا أن فقه المحاكم وإن اعتراه شيء من الضعف والاضطراب، إلا أن أكثر مظاهره ومعها حكم النقض والإبرام الأخير (يونيو سنة 1918) صريحة في تقرير مبادئ الاستقلال بين السلطتين المدنية والجنائية، والاختلاف بين الخصومتين المدنية والجنائية اختلافًا يلحق بالموضوع وبالسبب، وعلى هذا فلا يحتج أمام إحداهما بقوة الشيء المحكوم فيه بناءً على حكم الأخرى، بل كل سلطة إنما تتقيد بالحكم الذي يصدر منها، وكل سلطة حرة في بحث الموضوع المطروح أمامها من جديد كأنه لم يصدر فيه قضاء، وذلك حتى بين الخصمين اللذين قامت خصومتهما أمام القضاء الجنائي ثم رجعا للمرافعة أمام المحكمة المدنية أو بالعكس.
2 – علماء القانون الأفرنسي
إذا كان قانوننا منقولاً عن القانون الأفرنسي وكان من الواجب أن نرجع إلى ما أجمع عليه العلم والعمل هناك لحل النقط الغامضة وهي كثيرة، فمما لا خلاف فيه أنه يجب أن لا تكون هذه المراجعة قاصرة على مجرد حفظ ما ورد في تلك المطولات وتطبيقه على قانوننا بدون ملاحظة الفوارق بين القانونين إن وُجدت.
نقول هذا لأننا لاحظنا في كل بحث في هذا الموضوع اقتصار الباحثين على نقل ما ورد في داللوز وأحكام المحاكم المنشورة فيه، فيقولون إن الإجماع مقرر هناك على أن للأحكام الجنائية أثر قطعي أمام المحكمة المدنية، خصوصًا إذا قامت الخصومة الجنائية بين المتهم وبين المدعي المدني فيجب أن يكون القضاء عندنا على هذا المبدأ لاتفاق القانونين.
الواقع أن بين القانون الأفرنسي وبين القانون المصري خلاف كبير في النصوص وما كان هذا الخلاف عفوًا.
ففي فاتحة قانون تحقيق الجنايات نص صريح (المادة 3) يقضي أن الجنائي يوقف المدني، وفيه نص أيضًا (المادة 463) يقضي صراحةً بأن المحكمة الجنائية عند الحكم بالتزوير ولو في غيبة المدعي المدني يجب عليها أن تعدم الورقة المزورة.
استنتج العلماء هناك من هذه النصوص الصريحة – وجرى العمل على استنتاجهم – أن المحاكم المدنية ملزمة أن تحترم الأحكام الجنائية، لأن الشارع لو لم يرد ذلك لما أوقف الدعاوي المدنية حتى يفصل في الدعاوي الجنائية، ولأنه إذا لم يرد ذلك لما أعطى للمحكمة الجنائية حق إعدام الورقة وفي هذا من قطع طريق البحث أمام المحكمة المدنية ما هو واضح.
على أن وجود هذين النصين مع قوة الحجة المستفادة منهما لم يمنع بعض العلماء هناك ومن أكابرهم (توليه Toullier) و(أرمان داللوز Arman Dalloz) أن يذهبا إلى أن أحكام المحاكم الجنائية لا قيمة لها أمام المحاكم المدنية إذا كان في الخصومة شخص لم يكن خصمًا في الحكم الجنائي، وقد قامت في هذا الموضوع مناظرة مشهورة لا محل لبيانها تفصيلاً.
كذلك لم يكن لهذين النصين أثر يجعل المبدأ المستفاد منهما واجب التطبيق على إطلاقه، فذهب بعض الأحكام إلى الأخذ بمبدأ الاستقلال بين القضائين الجنائي والمدني بسبب الاختلاف بين الخصومتين المدنية والجنائية موضوعًا وسببًا.
جاء في داللوز جزء (8) باب (الشيء المحكوم فيه) صحيفة (458) فقرة (549) ما تعريبه:
(ومع هذا فقد حكم طبقًا لرأي توليه وداللوز…
2 – أن الواقعة التي تثبت في حكم جنائي لا تنهض حجة أمام القاضي المدني.
3 – وأن الحكم الجنائي ليس له قوة الشيء المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية لكنه يعتبر قرينة يجوز للقضاة إذا ضموها إلى قرائن أخرى أن يعتبروا المجموع مؤديًا لتوجيه اليمين المتممة).
ثم قال:
(ومن رأينا أيضًا أنه يجوز لمن حكم عليه بتقليد اختراع غيره أن يرجع أمام المحكمة المدنية إلى النزاع في هذا الموضوع بناءً على أدلة لم تُطرح أمام المحكمة الجنائية).
كذلك لم تكن هذه النصوص بمانعة من اتفاق جمهور العلماء هناك على أن أحكام البراءة لا قيمة لها أمام المحكمة المدنية إلا في أحوال خاصة ففرقوا بين أحكام البراءة المبنية على أن الواقعة لم تحصل أصلاً، وبين الأحكام المبنية على أن المتهم لم يرتكب الواقعة أو أن الأدلة غير كافية، وجعلوا لكل حالة حكمًا.
على أن عيوب هذه النظرية في جملتها لا تخفى ولا يلزم لتفنيدها كثير من التعمق في المسائل القانونية:
فأولاً: أن التفرقة بين حكم العقوبة وبين حكم البراءة والقول إن الأول حجة والثاني لا أثر له إنما هي تفرقة لا مبرر لها من جهة القانون ثم لا يمكن قبولها لا عقلاً ولا قانونًا، لأنه لا يمكن أن يكون عمل السلطة الواحدة نافذًا في حالة وغير نافذ في أخرى، وهي تعمل في الحالتين بصفتها سلطة قانونية مختصة لا يمكن الطعن على عملها بتجاوز حد الاختصاص ولا بالبطلان، فلو كانت أحكام لها حجة قاطعة لوجب أن تكون كذلك سواء صدرت بالعقوبة أو بالبراءة.
وثانيًا: لأن البحث في معرفة سبب البراءة والخضوع إلى هذا السبب خروج بالمحاكم والمترافعين عن كل مبادئ القانون فإن قوة الشيء المحكوم فيه محددة برواية الحكم وحدها، أما أسباب الأحكام سواء كانت واقعية أو قانونية فهي آراء لا يتقيد بها أحد، ولا نفس القاضي الذي كتبها بيده فهي من باب أولى لا تقوم حجة على محكمة أخرى وفي خصومة غير الخصومة التي صدرت فيها.
وقد لاحظ هذه العيوب كل من A. Dolloz وToullier استدلالاً على أن مبدأ التمسك بالحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية، إذا كان صادرًا بالعقوبة، مبدأ مشكوك في صحته بل مخالف لأحكام القانون العامة.
هذا مركز المسألة التي نبحثها في قانون قرر بصريح العبارة في مادتين مختلفتين ما يفيد على رأي الجمهور أن للقضاء الجنائي أمام المحكمة المدنية رأى نهائي لا يقبل النزاع بوجه من الوجوه، فلم يبقَ علينا إلا بيان المسألة وفقًا للقانون عندنا.
3 – حكم القانون المصري
يتناول الشارع المصري القانون الأفرنسي ليقتبس منه (بعد أن جرب تشريعه قرنًا إلا قليلاً فأظهرت الحوادث عيوب بعض نصوصه ودل العلماء بأبحاثهم على مواطن الضعف فيها، وقام الخلاف بينهم في تفسير الغامض منها) فوجد النص الأول من قانون تحقيق الجنايات (المادة 3) التي أشرنا إليها وهي تقضي بأن المحكمة المدنية يجب عليها عند قيام خصومة جنائية أن توقف الفصل في الخصومة المنظورة أمامها. قرأها الشارع وهو ينقل النصوص نقلاً يكاد يكون حرفيًا لكنه ترك هذا النص تركًا لا شك في أنه مقصود، ولا يستطيع أحد التدليل على أن قصد الشارع المصري هو المحافظة على استقلال القضائين استقلالاً تامًا كاملاً بأكثر من هذا العمل الذي لا يقبل نزاعًا ولا جدلاً.
قلنا إن هذا نصًا ليس وحيدًا بل هناك نص آخر (مادة 463) وهو نتيجة لذلك النص الأول فلما وصل إليه شارعنا تركه أيضًا، ولم ينقله ضمن نصوصه، فعمل الشارع إذًا عمل مقصود ومتماسك في أجزائه، فاتفق قصد الشارع في أول القانون مع قصده في أواخره فلا سبيل لحمل هذا الموقف على مجرد ترك نص أو إهماله عفوًا.
وفي الواقع فإن هاتين المادتين لا يتطابق حكمهما مع أية قاعدة من قواعد القانون الأفرنسي ولا مع مبادئه، وقد كانت سببًا في ذلك الخلاف الذي أشرنا إليه كما كانتا سببًا في شذوذ جمهور العلماء والأحكام عن الأصول المتفق عليها. فرأيناهم بعد خلطهم بين القضائين الجنائي والمدني، وبعد أن غرهم النص فجعلوا يلتمسون له عذرًا بتوحيد الخصومتين المدنية والجنائية وجعلها خصومة واحدة متحدة في الموضوع والسبب، وهذا ما لا يتفق مع الواقع ولا يقول به العقل، رأيناهم بعد كل هذا قد اضطروا إلى اعتبار أسباب الأحكام الجنائية هي بذاتها أحكامًا نهائيًا ليجدوا من ذلك سبيلاً يحققون به بعض المتناقضات الناشئة عن مبدأ خضوع المحاكم المدنية لأسباب القضاء الجنائي فخرجوا من خطأ إلى غيره يقصدون بذلك إصلاح الخطأ الأول فأعطوا للمحكمة المدنية حق الخروج من قوة رواية الحكم بناءً على سبب من أسبابه، لعلهم بذلك يصلون إلى بحث القضية من جديد.
وحتى لا يبقى شك في نفس الباحث ليحكم بأن خلو قانوننا من نصوص القانون الأفرنسي من شأنه أن يجعل المبدأ عندنا على خلاف ذلك المبدأ المقرر هناك، يحسن أن ننقل على سبيل المثال رأي بعض العلماء القائلين باتخاذ الأحكام الجنائية حجة أمام المحكمة المدنية، فإنهم يقررون صراحةً أنه لولا هذين النصين لكان إجماعهم معنا وعلى خلاف ما ذهبوا إليه، ونختار من بينهم من عُني ببحث مسألة قوة الشيء المحكوم فيه، فوضع لها مجلدًا خاصًا (لاكوست lacoste).
يقول هذا الأستاذ في صفحة (363) و(364):
(الحكم يقوم حجة مانعة من تجديد النزاع بشرط اتحاد موضوع الخصومة في القضيتين واتحاد الخصوم، وقد استنتجوا من هذا أنه للبحث في هل للحكم الجنائي أثر أمام المحكمة المدنية يجب الرجوع إلى هذه القاعدة.
وقد حاول Merlin إثبات أنه يرى في كل من الخصومتين اتحادًا في الموضوع، وفي الأخصام وفي السبب، أما في الخصوم فلأن المدعي المدني تمثله النيابة، وأما في الموضوع فلأن الدعويين المدنية والجنائية وإن اختلفتا في الطلب الفعلي لأن الموضوع في الأولى مطالبة بتعويض الضرر وفي الثانية طلب توقيع العقوبة، إلا أن أساس الطلبين واحد وهو ارتكاب الجنحة. وأما اتحاد السبب فلأن الطلبين ناتجان من واقعة واحدة ولكن توليه (Toullier) يطعن على رأي مرلين ويرى أنه لا اتفاق بين الموضوع ولا بين الخصوم، أما بين الخصوم فلأن المجني عليه لا تمثله النيابة، وأما في الموضوع فلأنه فرق بين توقيع العقوبة وبين طلب التعويض).
ثم قال في صفحة (365) فقرة (1062):
(وإننا نخالف مرلين ومانجين في رأيهما ونرى أن الدعويين المدنية والجنائية تختلفان باختلاف الخصوم).
وبناءً على ذلك فإذا كان هذا الخلاف يجب حله بمقتضى مبادئ قوة الشيء المحكوم فيه على ما تقرر في المادة (1351) من القانون المدني بدون الاستعانة بمواد أخرى فمن الواجب التقرير أن القاضي المدني لا يرتبط بحكم القاضي الجنائي بحال من الأحوال.
هذا ما يجب أن يقف عنده من يريد البحث في القانون المصري، فإنه خلو من أي نص آخر غير المادة (232) مدني (1351 فرنسوي) فلا شك حينئذٍ في أن المبدأ الصحيح عندنا إنما هو القائل بأن المحاكم المدنية لا تتقيد بالأحكام الجنائية، لأن عدم وجود النص الوارد في قانون تحقيق الجنايات الفرنسوي في القانون المصري قاطع في هذا الموضوع وذلك بتقرير نفس أصحاب الرأي القائل بخضوع المحاكم المدنية للأحكام الجنائية في فرنسا.
يظهر من هذا مقدار خطأ الذين أرادوا الأخذ بالمبادئ المقررة في كتب المفسرين والأحكام الأفرنسية واعتبارها مبدأ يجب تطبيقه عندنا على وهم أن القانون واحد هنا وهناك إن لم يكن في النص ففي المبادئ، والواقع أن مبدأ أولئك العلماء مستفاد من نص استثنائي لم يرد في قانوننا، ويقول المفسرون إنه لولا وجود هذا النص لكان حكمهم على غير ما قرروا.
وجدنا في المجموعة حكمًا أغفلناه عند تحديد فقه المحاكم المصرية في هذا الموضوع لأنه صادر من محكمة دسوق الجزئية فليس من شأنه أن يكون له أثر في تقرير المبادئ على وجه العموم لكنا نشير إليه الآن مثالاً للخطأ الذي ينتج من نقل النصوص الأجنبية وتطبيقها كما هي بدون مراعاة الفارق بين القانونين. وفي الواقع فإن الحكم مسند إلى ما ورد في داللوز في باب قوة الشيء المحكوم فيه، وهذا سنده الوحيد ولا يمكن أن يكون لمثله من الأحكام أي سند آخر، ويقول داللوز صراحةً كما قال lacoste الذي نقلنا رأيه حرفيًا إنه لولا وجود النص في القانون الأفرنسي لكان حكم النصوص والمبادئ أن حكم القضاء الجنائي لا قيمة له أمام القضاء المدني أصلاً.
من المهم في هذا المقام ملاحظة أن الخلاف قائم بين مفسري القانون الأفرنسي في حالة الدعوى المدنية الناشئة عن الجناية مباشرةً، أي ما نسميه في قانوننا (الادعاء بحق مدني) وموضوع الدعوى في هذا المقام طلب تعويض الضرر الناشئ من ارتكاب الجناية، وكل الأحكام التي نقرأها في كتاب lacoste إنما موضوعها الخلاف بين هاتين الدعويين العمومية والمدنية الناشئتين عن واقعة واحدة، ورغمًا عن هذا كان تقرير المفسرين أن هاتين الدعويين مستقلتان طبقًا لقواعد القانون المدني وعلى مقتضى مبادئ قوة الشيء المحكوم فيه.
وما وجدوا سندًا للاحتجاج بالحكم الجنائي أمام المحكمة المدنية إلا في النصين اللذين ذكرناهما وهما غير موجودين عندنا وإذا كان هذا الخلاف واقعًا حتى فيما يختص بدعوى التعويض الناشئة عن ارتكاب الجناية فما بالك بالدعاوى المدنية الأصلية المستقلة في موضوعها وفي الحق المدني المتنازع عليه، كنزاع في ملك أو في دين فإن الخصومة المدنية المنظورة أمام المحكمة المدنية المختصة لا يمكن لأحد أن يتصورها تابعة للواقعة الجنائية أو ناشئة عنها، فسريان الحكم الجنائي عليها لا نفهم له سببًا، لا من جهة القانون، ولا من جهة الواقع، ولا من جهة العقل.
قلنا إن الشارع المصري أغفل النصين الواردين في قانون تحقيق الجنايات الفرنسوي قصدًا وإنهما في الواقع نصان استثنائيان متناقضان مع جميع أحكام ونصوص مبادئ القانون الأخرى فحكمهما لا يتفق مع أحكام القانون المصري بل يناقضها.
ونريد أن نبين هنا وجوه ذلك التناقض فتظهر الأدلة التشريعية الصريحة قاضية على مبدأ الاحتجاج بالأحكام الجنائية أمام القضاء المدني:
أولاً: يحول دون هذا المبدأ قواعد الاختصاص، وهي قواعد أصلية قررها الشارع محافظةً على المصلحة العامة ولا يمكنه تقريرها من جهة ثم العمل على هدمها من جهة أخرى.
المحكمة الجزئية لا تختص في المسائل المدنية بالحكم في أكثر من ماية وخمسين جنيهًا لكنها تختص بالحكم في عقوبة التزوير ولو كانت الأوراق المدعى بتزويرها تشمل آلافًا.
أمام تقرير الاختصاص بهذه الحدود فإن مبدأ اتخاذ الحكم الجنائي حجة أمام المحكمة المدنية يقضي بالتسليم بأن حكم القاضي الجزئي في دعوى التزوير قد فصل نهائيًا في عقد خارج عن اختصاصه مدنيًا فعطل سلطة المحكمة المدنية المنظورة أمامها الدعوى وهي المختصة وحدها بالفصل فيها، فزال اختصاصها وأصبحت خاضعة لحكم قاضٍ يقول القانون صراحةً إنه غير مختص بالفصل في النزاع المطروح لديه، وإذا تعرض للفصل فيه فعمله باطل لا قيمة له.
أيمكن لأحد أن يوفق بين هذا التناقض توفيقًا فيه مسحة الرشد والتعقل؟
إنه لا سبيل إلى تطبيق القانون بنصوصه الصريحة وبأحكامه المعقولة إلا إذا وضع صراحةً مبدأ الاستقلال بين القضائين استقلالاً تامًا كاملاً، كل يعمل في دائرة اختصاصه المحدودة فالجنائي اختصاصه محدود بتوقيع العقوبة ليس إلا، والمدني اختصاصه الحقوق المتنازع عليها، فلا يجوز لإحدى السلطتين أن تتعدى على الأخرى، ولا تؤخذ أحكامها حجة أمام الأخرى إلى حد إعدام سلطتها وتحويل وظيفة القاضي إلى مجرد تدوين حكم غيره في سجله حتى في دعوى تقررت أنها من اختصاصه وحده وأن قاضي الجناية لا يختص بالفصل فيها بحال من الأحوال.
ثانيًا: كذلك وضع القانون نصًا صريحًا بيّن فيه شروط الاحتجاج بقوة الشيء المحكوم فيه وهي المانعة وحدها للقاضي من إعادة البحث في الدعوى فقرر في مادة (232) مدني أن القاضي لا يمنعه حكم سابق سواء كان صادرًا منه نفسه أو من غيره إلا إذا اتحدت الخصومة في الموضوع وفي السبب وفي شخصية الأخصام وفي صفاتهم، ولا يقول أحد إن المرافعة أمام المحاكم الجنائية يمكن أن يكون موضوعها الحكم بملكية ماية فدان أو خمسمائة فدان، فإن هذا محفوظ طبعًا لاختصاص المحاكم المدنية. ولا يقول أحد إن طلب توقيع العقوبة هو بذاته طلب الحكم بملكية أطيان أو بدين معين، ولا يقول أحد إن طلب التعويض الناشئ عن ارتكاب جنحة هو بنفسه طلب الحكم بالملكية أو بالدين. ولا يقول أحد إن سبب الحكم الجنائي وهو ارتكاب الجنحة هو بذاته سبب الدعوى المدنية وهي الملكية أو العقد المدعى بتزويره.
هذا الخلاف العظيم في جميع أركان الخصومتين من شأنه استقلال القضائين – كل في أحكامه – فكل قاضٍ مقيد باختصاصه، وهو مسؤول عن القيام بواجباته طبقًا للقانون وضميره، لا يهمه في ذلك رأى قاضٍ آخر في مثل ما يعرض عليه.
هذان أمران كليان من أصول التشريع ومن دعائم النظام، فالمصلحة العامة في المحافظة على قواعدهما ظاهرة واضحة، وسنجد فيما يجيء من صريح النصوص التي تفرعت عن هذين الأصلين ما يدل على خطأ الرأي القائل بارتباط أحد القضائين بأحكام الآخر.
ثالثًا: نصت المادة (372) مرافعات أن الحكم المدني الانتهائي تعدل عنه المحكمة إذا حكم بتزوير ورقة أسند إليها الحكم.
وفي هذا النص تصريح بأنه رغمًا عن الحكم المدني بصحة ورقة وبتمليك الحق المقرر بها فإنه يجوز لمحكمة الجنح أن تضرب صفحًا عن هذا الحكم وأن تحكم بتزويرها إذا رأت لذلك وجهًا، وما كان خوف التناقض بين الحكمين سببًا لغل يد القاضي الجنائي حتى لا تظهر تلك الفضيحة الاجتماعية، فضيحة وجود حكم ثبت أنه على غير حق.
ولا يمكن القول هنا إن دعوى التزوير العمومية هي وحدها التي يجوز قبولها دون الدعوى المدنية كما جاء في حكم النقض والإبرام الصادر في سنة 1909 والذي نقلناه في صدر هذا البحث، وذلك لأن قانون تحقيق الجنايات ينص على أن كل جنحة تنظر أمام المحكمة تتبعها حتمًا دعواها المدنية المتفرعة عنها ولا يمكن تصور جنحة بلا مجني عليه من حقه أن يطلب تعويضًا كما قلنا فيما مضى.
وفضلاً عن هذا فإن في حكم المادة (372) قضاء على مذهب عدم قبول الدعوى المدنية أمام محكمة الجنح لأنه ما دام أن الحكم بالتزوير ينتفع به من حكم ضده مدنيًا بنص القانون فله بطبيعة الحال أن يشترك في الخصومة التي تؤدي إليه، وإلا إذا كان ممنوعًا من المرافعة فيها لأنه قد حكم في حقه نهائيًا وليس له حق الخصومة من جديد، فمن البديهي أن الحكم الذي يصدر في الدعوى الجنائية يبقى بالنسبة إليه كان لم يصدر، ولا يجوز له التمسك به أصلاً فتقرير الشارع أن هذا الحكم يجوز للمحكوم ضده أن يتمسك به معناه الصريح أن للمحكوم ضده مدنيًا حق المرافعة من جديد أمام محكمة الجنح ليتوصل إلى استصدار حكم من حقوقه أن يسعى إليه وأن يتخذه لمصلحته لبطلان ذلك القضاء المدني الذي يراه ضارًا بحقوقه.
رابعًا: كذلك تقضي المادة (234) تحقيق جنايات أن الحكم الجنائي الصادر بالعقوبة يجب بطلانه إذا حكم بتزوير شهادة الشهود الذين قام الحكم على شهادتهم.
في هذا المقام لا يخلو الحال من أمرين فإما أن يصدر الحكم ضد الشهود من محكمة الجنح ومعنى هذا أن محكمة الجنح المختصة بالحكم في الشهادة المزورة ليست مرتبطة بالقضاء الجنائي الصادر بالعقوبة وأن احتمال ظهور بطلان تلك العقوبة القديمة لم يكن مانعًا من إجراء سلطة القاضي على أصلها ما دام أنه مختص بموضوع الدعوى المعلقة أمامه وما دام أن هذا الموضوع يختلف عن موضوع الحكم السابق وصيغته ووصفه، فإذا كان نفس القاضي الجنائي غير مرتبط بحكم جنائي سابق فمن باب أولى يكون القاضي المدني غير مرتبط بهذا الحكم ما دام أن الموضوع المطروح أمامه هو من اختصاصه.
وإما أن يصدر الحكم ضد الشهود من محكمة مدنية في حالة سقوط العقوبة بمضي المدة، وفي هذا أيضًا دلالة على أن المحكمة المدنية يجوز لها في دائرة اختصاصها أن تقضي قضاءً يفيد صراحةً وبلا مواربة بطلان الحكم الجنائي.
بناءً على هذا لا ندري لماذا يراد وهذه نصوص القانون الصريحة أن تكون المحكمة المدنية المختصة بالفصل في الملكية وفي العقود المنظورة أمامها ملزمة بالتنازل عن اختصاصها وبالخضوع لحكم قاضٍ يصرح القانون بأنه غير مختص ببطلان العقود لا مباشرةً ولا بالواسطة، وما منع عنه القاضي مباشرةً يبقى بالطبع ممنوعًا عنه على الدوام ولا يجوز التحايل على رفع هذا المنع بطريقة من الطرق، لأن الحيل القانونية قد مضى عهدها ولا تُقبل في عصر التشريع الحاضر.
أما من جهة فائدة الاجتماع فلا ننكر أنه ليس من الحسن ولا مما تطمئن له القلوب أن يقرر قاضي العقوبة بأن زيدًا زور عقدًا، ثم يقرر القاضي المدني أن العقد صحيح، فيظهر أن الجمعية قد عاقبت أحد أفرادها ظلمًا.
نقول هذا غير حسن لكن الجناية الصحيحة أن تغل يد القضاء، وأن يُكرَه القاضي على تجريد رجل من ماله ظلمًا رغبةً في ستر ظلم قد انتهى بتوقيع العقوبة، كأن من واجبات القضاة أن يتضامنوا أو من مصلحة الإجماع أن تستر جناية سابقة بجناية جديدة!!
إنه لمن أسمى الواجبات وأولاها أن يرفع ظلم قُضي به خطأ الإنسان، فإذا ظهر من الظروف ما يسمح بظهور الحق في دائرة القانون فالقضاة آذان واعية وقلوب مضطربة لإعلان الحق لا خوفًا من ظهوره، وإني أرى في تلك الحجة التي يقيمها أصحاب الرأي المخالف سبة للقضاء وإنكارًا لمأموريته الاجتماعية الصحيحة.
ومن غرائب الأمور أن يحتج القائلون بمنع القاضي المدني من سلطته بأن هذا من دواعي الثقة بالأحكام لمنع التناقض بينهما، وما دروا أنهم بمجرد احتمالهم لهذا التناقض قد نزعوا كل ثقة بالحكم القديم فافترضوه ظلمًا يجب عدم البحث فيه، ثم هم من جهة أخرى قد فرضوا على القاضي المدني واجب التضامن مع القاضي الجنائي في الشر، فسندهم إنما هو الطعن الصريح على عدالة القاضيين الأول والثاني وذلك بحجة المحافظة على هذه العدالة نفسها!!
إنما مصلحة الاجتماع تنحصر في إقامة العدل وفي إعلان الثقة بالقاضي وعدالته ولا يتفق هذا مع الاضطراب المستمر على الأحكام وتخوف العدول عنها، فإن كان هذا العدول بحق، فهو واجب مرغوب فيه والعدالة لا تستقيم بدونه، وإن كان العدول بغير حق محتملاً فهذا طعن على ذمة القاضي المنظور أمامه النزاع الأخير.
إن مصلحة الاجتماع في المحافظة على قواعد الاختصاص وفي المحافظة على قاعدة الشيء المحكوم فيه بحدودها الموضوعية فلا تترك الأحكام فوضى.
ومن غرائب المواقف في هذه المناقشة أن أصحاب الرأي القائل بارتباط القاضي المدني بالحكم الجنائي يرون في الوقت ذاته أن القاضي المدني لا يرتبط به في حالة الحكم بالبراءة ويرون أن القاضي الجنائي لا يرتبط بالحكم المدني المعلن صحة الأوراق ولا يرون في هذه الحالات إخلالاً بقوة الشيء المحكوم فيه، ولا خطرًا على النظام، ولا على الثقة بعدالة الأحكام، ومعنى هذا أن القاضي المدني لا يتقيد بالحكم إلا إذا كان شرًا، أما الخير فلا أثر له أمامه، ولو أنصف أصحابنا وأرادوا أن يكون منطقيين في التدليل مع أنفسهم لتركوا قيد الشر هذا وقالوا إن قواعد القانون ومبادئه وفائدة الاجتماع كل ذلك يستوجب ترك السلطات القضائية حرة تعمل في دائرة اختصاصها إحقاقًا للحق فذلك أفضل وأسلم.
مرقس فهمي
اترك تعليقاً