سمو النظام العام العبر دولي على الأنظمة العامة الداخلية
حقيقة تطرح مسألة سمو النظام العام العبر دولي بالنسبة لأي نظام عام داخلي عندما يوجد تعارض بينهما، أي عندما تكون القاعدة المقررة من قبل النظام العام العبر دولي مناقضة لقاعدة النظام العام المقرر ة في القانون الداخلي الواجب التطبيق، هنا هل يعمد المحكم إلى تطبيق قواعد النظام العام الداخلي، أم سيلتجأ إلى تطبيق قواعد النظام العام العبر دولي؟
كما أن أهمية هذا التساؤل تزداد عندما نعلم أن القانون الداخلي المفاضل بينه وبين النظام العام العبر دولي قد يتضمن أحكاما تتخذ في بعض الأحيان صفة قانون البوليس أو القواعد ذات التطبيق الضروري.
وكذلك تبرز أكثر هذه الأهمية عندما يكون النظام العام الداخلي منتميا لقانون دولة مقر تنفيذ القرار التحكيمي، مما يطرح معه مسألة فعاليته واحترامه.
فبالرغم من استبعاد تطبيق القانون الداخلي ومن ضمنه النظام العام المنتمي إليه من قبل المحكم الدولي يشكل مساسا بسيادة الدولة التي صدر عنها هدا القانون فإن الفقه والاجتهاد يقران بإمكانية استبعاد النظام العام الداخلي من قبل المحكم، عن طريق تقديره في ضوء معايير تعتبر سامية وذات أولوية في التطبيق، ذلك أنه عندما يوجد تناقض بين النظام العام العبر دولي، والنظام العام الداخلي المنتمي للقانون الواجب التطبيق وإثارة مسألة أولوية التطبيق بينهما، فإن الرأي قد استقر على وجوب تطبيق القواعد الأولى، إذ أن المطروح في إطار المنازعات التحكيمية التي تستوجب تطبيق قواعد النظام العام العبر دولي ، وتتار فيها مسالة إمكانية تطبيق قواعد النظام العام الداخلي ، ليس مسألة التناقض بين أنظمة عامة دولية خاصة كما هو معروف في القانون الدولي الخاص ، وإنما مسألة تناقض مع نظام عام عبر دولي مستقل عن كل نظام قانوني داخلي من حيث تطبيقه ، وبالتالي فإنه إذا كانت التسلسلية مرفوضة بين الأنظمة العامة الدولية ذات الطابع الوطني في مصدرها ، فإنها تكون واجبة التطبيق بصدد التناقض بين قواعد النظام العام العبر دولي والنظام العام الداخلي أو الدولي بمفهوم القانون الدولي الخاص المنتمي لقانون الدولة الذي تتعارض أحكامه مع هدا النوع من النظام العام .
والتطبيق الأمثل لهذه التسلسلية يتجسد في القرارات التحكيمية والاجتهادية الخاصة بأهلية الدولة والأشخاص العموميين باللجوء إلى التحكيم والتي تم فيها اسبتعاد أحكام القوانين الداخلية التي تحصر اللجوء إلى التحكيم ، أو تلك الخاصة باستبعاد القانون الفرنسي القديم الذي كان يجيز للشركات الفرنسية التمتع بخصم ضريبي عن المبالغ التي تدفعها خارج فرنسا بصورة رشاوى أو عمولات في سبيل الحصول على صفقات تجارية فاستبعاد مثل هده القواعد لايتم إلا عبر الاعتراف بسمو النظام العام العبر دولي وتعيينه على قواعد النظام العام الداخلية. كما لا تقتصر أولوية تطبيق قواعد النظام العام العبر دولي على قواعد النظام العام الداخلي في القانون الواجب التطبيق، ذلك أنها تمتد إلى قواعد النظام العام الأجنبية من هذا القانون، وإن اتخذت صفة قواعد البوليس أو القواعد ذات التطبيق الضروري، ذلك أن المحكمين يقدرون مشروعية تطبيق قوانين البوليس بسبب عدم وجود قانون اختصاص لهم، في ضوء قواعد النظام العام العبر دولي، وبالتالي فإنه يكون للمحكمين رفض تطبيق قوانين البوليس التي تتعارض مع هذا النوع من النظام العام، مثل القوانين الخاصة بالمقاطعة والحصار الاقتصاديين المفروضة من قبل دولة أخرى على أساس العرق أو الدين أما بخصوص مسألة احترام النظام العام العبر دولي وتأثيره على موجب المحكم بإصدار قرار يتمتع بفعالية التنفيذ، فان هذه المسالة تطرح عندما يكون النظام العام في بلد التنفيذ متعارضا مع أحكام وقواعد النظام العام العبر دولي، وفي هذه الحالة يكون المحكم في وضع دقيق للغاية إذ يقع بين أمرين الأول يتمثل بوجوب احترامه لقواعد النظام العام العبر دولي ، والتاني يتجسد بوجوب إصداره لقرار يتمتع بفعالية التنفيذ ،فأي اتجاه يلتزم المحكم .؟
حيت إذا فضل المحكم مبدأ فعالية القرار التحكيمي، فإنه يكون قد فصل تطبيق قواعد النظام العام الداخلي على قواعد النظام العام العبر دولي، وإذا فضل تطبيق قواعد النظام العام العبر دولي فانه يكون قد أصدر قرار لن يتمتع بفعالية التنفيذ كونه يتعارض مع النظام العام في بلد التنفيذ.
في الحقيقة إن حل هذه المشكلة يكون بإجراء مفاضلة بين المصالح المحمية في كلا النوعين من النظام العام، وعليه اذا كان من المفروض أن النظام العام الداخلي التابع للدولة يحمي مصالح هذه الأخيرة والتي يمكن وصفها هنا بالفردية، عكس النظام العام العبر دولي الذي ينبغي أن يؤمن ويحمي مصالح المجتمع الدولي، أي مصلحة مشتركة وجماعية لجميع الدول كقواعد محاربة الرق
وعلى ضوء هذه المفاضلة ينبغي التضحية بالمصلحة الفردية الخاصة بدولة معينة والمتجسدة في قواعد النظام العام الداخلي المخالفة لقواعد النظام العام العبر دولي، واحترام قواعد هذا الأخير. بمعنى أخر تقضي المفاضلة التضحية بمبدأ الفعالية إذ من غير المتصور أو المقبول أن يقوم المحكم بتطبيق قانون الدولة الذي يجيز التميز العنصري وإهمال تطبيق إعمال قواعد النظام العام العبر دولي المتوافق عليه من قبل غالبية الدول احتراما لمبدأ الفعالية، باعتبار أن احترام هذا الأخير { النظام العام الداخلي } يتعارض مع سمو المصالح التي يحميها النظام العام العبر دولي الذي يجسد القواعد الأخلاقية الواجب حمايتها في إطار العلاقات الخاصة الدولية، والتي تمثل ما يسمى بمتطلبات العدالة الشاملة.
اترك تعليقاً