التوقيف الاحتياطي
شرٌ لا بد منه ويجب تضيق نطاق تطبيقه
المحامي الأستاذ أمير إبراهيم تريسي
من فرع إدلب
متابعة للنقاش الذي طرحه الزميل الموقر المحامي الأستاذ رشاد الجنان على صفحات مجلتنا العزيزة في العددين 7 ، 8/2009 والذي تحدث فيه عن التوقيف الاحتياطي وما تمنى أن يكون عليه في المستقبل .
ونظراً لحجم وعمق المعاناة والآثار السلبية الناجمة عن التطبيق العملي للتوقيف الاحتياطي ، فقد رأيت الاستئذان بمتابعة النقاش .
توطئة :
إن الحرية الشخصية هي أغلى ما يملكه الإنسان باعتبارها تشكل أهم ملامح شخصيته ووجوده فهي ليست ترفاً ولا مكملاً من مكملات الحياة . إنما هي جزء رئيس من مقومات نفسه وهي بذات الوقت ضرورة أساسية لوجوده .
وهذا ما دفع بأغلبية المواثيق والدساتير والقوانين الجزائية في كافة أنحاء العالم وعلى رأسها دستور الجمهورية العربية السورية الصادر سنة 1973 للاهتمام بها ووضع الضوابط والنظم اللازمة لصونها وحمايتها .
فقد شكلت حرية المواطن أهم ما سعى إلى حمايته هذا الدستور حيث نص صراحة على عدم جواز تعريض حرية المواطن للاعتداء كما منع احتجاز الأشخاص دون توفر سبب مشروع فضلاً عن أنه قد كرس مبادئ ثلاثة أساسية :
الأول : تقديس الحرية الشخصية للمواطن وكفالة الدولة لها (م 25 منه) .
الثـــاني : أن المتهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم .
الثالث : لا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقاً للقانون (م 28 منه) .
ومما لا خلاف حوله :
(1) – أن التوقيف الاحتياطي ليس من أنواع العقوبات إنما هو تدبير احتياطي وقائي شرّع لغايات محددة لا يجوز مخالفتها أو تجاهلها . وهذه قد لخصتها إدارة التشريع في مطالعتها المؤرخة في 23/6/1959 حيث قالت :
« … وتتلخص هذه الأهداف التي استقر عليها الفقه والقضاء في الخشية من تواري المدعى عليه عن الأنظار عند تنفيذ الحكم الذي قد يصدر بحقه في المستقبل في حال إدانته ، أو طمس معالم الجرم سواء كان ذلك بإغوائه شهود الحادث ، أو اتفاقه مع شركائه ، أو للمحافظة عليه نفسه فيما إذا كان توقيفه أمراً ضرورياً لتهدئة خواطر الرأي العام … وإلا اتخذ طابع التوقيف غير المشروع وأصبح أمراً خطيراً لأنه يجعل الموقوف عرضة للشك في نفسه وقد يحتفظ بذكرى سيئة عن العدالة مدى حياته » .
2 – لا يجوز بحال من الأحوال تحويل التوقيف الاحتياطي إلى عقوبة أو الخروج به عن الحدود والضرورات التي شرع أصلاً لأجلها باعتبار أنه لا عقوبة إلا على جريمة ولا جريمة إلا بنص وهذا مؤيد بالبلاغين الصادرين عن السيد وزير العدل رقم 50 تاريخ 8/12/1953 والبلاغ رقم 13 تاريخ 7/2/1955 .
3 – إن حرية الإنسان وما يمكن أن يترسب في ذهن المتهم « نتيجة طول فترة التوقيف الاحتياطي غير المبرر » من أفكار سيئة عن مؤسسة العدالة هي الأولى بالرعاية . وليس نوع أو حجم الجريمة المنسوبة إليه . خاصة إذا ما اقترن الحكم النهائي في الدعوى بالبراءة .
4 – إنه بات من اللازم بل ومن الضروري جداً تغيير النهج القائم والمعتمد في تطبيق وتنفيذ الإجراء المتمثل بالتوقيف الاحتياطي ، مع وجوب العودة بما هو متبع وقائم في هذه الأيام إلى المبادئ العامة في نظرية التوقيف الاحتياطي ، وبالتالي وجوب الانعتاق من أسر الأفكار السائدة والمطبقة حالياً وخاصة لدى السادة قضاة التحقيق والإحالة ، وذلك لحين إيجاد حل تشريعي لهذه الحالة .
5 – إخلاء السبيل بحق ، واجب على القاضي الذي ليست له أي سلطة تقديرية في هذا الصدد متى توافرت شروطه ولا يحتاج إلى تقديم طلب (كتاب وزارة العدل 18478 تاريخ 12/1/1970) .
6 – التوقيف الاحتياطي أمر يعود تقديره للقاضي إلا أنه يجب أن يطبق وفق الأسس التي شرع لأجلها حصراً باعتباره استثناء من الأصل ووسيلة وقائية لا تتضمن معنى العقاب وهذا مؤيد ببلاغ السيد وزير العدل رقم 47 تاريخ 15/10/1965 ، الذي يرجو فيه من السادة القضاة التقيد بأهداف التوقيف ويطالب السادة قضاة النيابة العامة مراقبة حسن تطبيق القواعد والمبادئ القانونية وأوجب عليهم سلوك طرق الطعن في كل حالة يخرج فيها التوقيف عن أهداف التوقيف الاحتياطي التي أرادها الشارع .
ولكن ماذا يجري اليوم ؟
إن السادة قضاة النيابة العامة قد درجوا دائماً على استئناف قرارات إخلاء السبيل أياً كانت الظروف المحيطة بالدعوى أو المدعى عليه حتى ولو كان إخلاء السبيل صادراً بحق ، وإني وعبر مسيرتي المتواضعة في المهنة لم أر ولم أسمع في يوم من الأيام أن النيابة العامة قد استأنفت قراراً قضى برد طلب إخلاء السبيل مع أن مثل هذا الإجراء مكلفة به النيابة العامة وهو من صميم عملها باعتبارها خصماً شريفاً مهمته البحث عن الحقيقة وإقامته ولو كان في جانب المدعى عليه .
كما أن قضاءنا العادل قد درج في هذه الأيام على استعمال عبارة مقتضبة في تسبيبه لإبقاء المدعى عليه موقوفاً وبالتالي رد طلب إخلاء السبيل المقدم منه وهي عبارة (لماهية الجرم ووصفه القانوني ولعدم كفاية مدة التوقيف) .
لا شك أن هذه العبارة تنطوي على مخالفة صارخة لكل المبادئ التي تقوم عليها مؤسسة التوقيف الاحتياطي فهي تجافيها بالمطلق ولا تتفق مع أي مبدأ من مبادئها بأي حال من الأحوال .
كما أنها لا تعبر ولا بحال من الأحوال عن حقيقة الوقائع والأدلة الناهضة في الدعوى ، ولا تعبر ولا تشير ولا تدل لا من قريب ولا من بعيد ولا بأي حال من الأحوال عن وجود أو قيام أحد الأسباب القانونية التي تدعو إلى الاستمرار بالتوقيف الاحتياطي أو مده أو إطالة أمده .
ونحن لا نرى فيها إلا عبارة تم توارثها على مبدأ « هكذا وجدنا آباءنا عابدين …!؟ » يرتكز إليها لتبرير إطالة مدة التوقيف الاحتياطي بشكل جزافي ، دون أن يتوافر في الحالة المبحوثة من خلالها أي سبب جدي من الأسباب المعتمدة أو المقررة قانوناً أو فقهاً ، والتي تبرر أو توجب استمرار هذا التوقيف وبالتالي إطالة أمده ، إذ لو كان أحد هذه الأسباب متوفراً فعلاً لكان قد تم ذكره وهذا واجب مفروض ومقرر لا يجوز تجاهله .
وكما يفهم من العبارة الموما إليها ، فإنها لا يمكن أن تكون إلا تأكيداً لاستمرار الظروف الموضوعية أو القانونية التي توجب الاستمرار بالتوقيف الاحتياطي ومده وامتداده إلى أجل غير مسمى ، وهي على ما هي عليه لا يفهم منها إلا :
1 – أنها تعبير مقتضب ، هين ، غائم بل غامض ، ليس له معنى ، وبذات الوقت لا يدل على أي سبب موضوعي يبرر الاستمرار في التوقيف الاحتياطي . بل هو تعبير لا يقيم وزناً لحرية الإنسان ولا إلى إرادة المشرع و لا يأتلف مع ما استهدفه من وراء تقريره لمبدأ التوقيف الاحتياطي والذي جعل أحد أهم أهدافه هو حماية المدعى عليه نفسه .
2 – أنها قد حولت التوقيف الاحتياطي الذي شرع لغايات محددة إلى عقوبة ، ذلك أن عبارة « عدم كفاية مدة التوقيف » تعني أن هناك جرماً ما يستدعي مدة توقيف معينة وأن هذه المدة لم تكتمل ولم تنته بعد .
وهي بذلك تفترض أن المشرع قد فرض لكل جرم نص عليه القانون عقوبة احتياطية محددة بزمن ما ، وأنه قد فوض إرادته في تحديد مدة هذه العقوبة وتقديرها للقاضي الناظر في القضية . وهذا يناقض الأساس التشريعي الذي أوجدت من أجله مؤسسة التوقيف الاحتياطي . صحيح أن التوقيف الاحتياطي أمر موضوعي متروك تقديره للقاضي ، وأن مؤسسة القضاء الجزائي تقوم أساساً على فكرة حرية الاقتناع لدى القاضي الجزائي ، ولكن هذا التقدير وهذه الحرية لا تعطي القاضي الجزائي الحق في خرق القواعد الأساسية التي شرع لأجلها التوقيف الاحتياطي وتقديره وحريته محكومان بالأسس والغايات التي أوجدت لأجلها مؤسسة التوقيف الاحتياطي .
وبالتالي فإن العبارة المذكورة تكون قد كرست مبدأ مخالفاً لكل المبادئ والأهداف التي تقوم عليها مؤسسة التوقيف الاحتياطي حيث افترضت وجوب مضي زمن محدد لكل حالة من الحالات التي يتم فيها التوقيف الاحتياطي ، وهذه المدة لا يملك أحد تقديرها أو قصرها أو مدها أو إنهاءها أو حتى معرفتها سوى القاضي الذي يضع يده على القضية بمفرده دون غيره وهي لا تخضع لأي ضابط أو معيار قانوني سليم ولا يحكمها إلا قناعة القاضي ووصف الجرم .
وهذا ما نلحظه بشكل واضح وجلي في قضايا التسبب بالوفاة – على سبيل المثال – وليس الحصر ، حيث درجت معظم المحاكم وقضاة التحقيق والإحالة لدينا ، على أنه : لا يمكن أن يخلى سبيل المدعى عليه في هذه القضايا ، إلا بعد أن يمر على توقيفه احتياطياً مدة تزيد على الخمسة والعشرين يوماً على الأقل وهذه المدة وبالمطلق تقارب الحد الأدنى لمدة العقوبة النهائية التي سيحكم بها الموقوف في الغالب .
إذ تقول للقاضي : « يا سيدي ، موكلي … كذا وكذا … فيقول لك معليش لسه بكير يا أستاذ . بس مضى خمس وعشرون يوماً تعال لعندي …
– طيب يا سيدي خليها بعد عشرين يوم … فموكلي … كذا … و …
فيقول لك على راحتك . حتى لو أخليت لك سبيله فإن النيابة ستستأنف » !
وكأن هناك تسعيرة تموينية لا بد من تطبيقها مهما كانت الظروف وأياً كانت نسبة المسؤولية والظروف المحيطة بالحادث ، وأياً كان وضع المتسبب وحاله ، إلا ما رحم ربي .
وبشكل ظهر معه (مبدأ حرية الاقتناع والتقدير) سيفاً مصلتاً على رقاب العباد ممن قادهم قدرهم للوقوع تحت رحمة هذا المبدأ . فبدا وكأنه حق مطلق ، تحكمي ، مزاجي ، لا تحكمه قاعدة ولا تحدّ منه أصول . وهو على العكس من ذلك بالمطلق .
فالمشرع عندما منح القاضي الجزائي صلاحيات واسعة وترك له حرية الاقتناع بالأدلة ، وأعطاه صلاحية تقدير الظروف وموازنة الأدلة ، ترك ذلك كله لوجدانه أولاً وبذات الوقت اشترط عليه أن تكون هذه القناعة وهذه الحرية مبنية على ما له أصل في القضية .
كل ذلك دون أي حق للقاضي في مخالفة ما اتجهت إليه إرادة المشرع من سن القوانين وتقرير المبادئ والقواعد العامة الأصولية منها والموضوعية . مع وجوب الالتزام بالمبادئ الراسخة التي أرساها واستقر عليها الفقه والقانون والاجتهاد .
3 – أنها تخالف المبدأ الرئيس التي تهدف إليه كل من مؤسستي قضاء التحقيق والإحالة معاً . فهي لا تعني أن هناك أدلة يخشى عليها من الضياع أو أن إخلاء سبيل المدعى عليه سيؤدي إلى استمراره في نشاطه الجرمي المفترض ، وقيامه بعملية طمس الأدلة أو تغييرها أو التأثير فيها ، أو أنه سيؤدي إلى فراره من حكم الإدانة فيما لو صدر ضده فرضاً . أو أن إخلاء السبيل سيثير حفيظة المجتمع وهي بنهجها الحالي لا تهدف إلى المحافظة على حياة المدعى عليه بل إنه وفي الكثير من الحالات تجرّمه قبل أن يجرّم بقرار باتٍّ .
4 – أنها قد اعتمدت ، وخلافاً لكل نص أو رأي فقهي ، نوع الجرم وماهيته أساساً في إطالة مدة التوقيف الاحتياطي أو تقصيره . وذلك حسبما يتراءى للجهة القضائية الناظرة بالدعوى . وهذا فعلاً ما هو معتمد وما هو قائم . فالملاحظ أن ادعاء النيابة العامة وتكييفها للجرم المنسوب للمدعى عليه هو المعتمد في الغالب في تقرير استمرار التوقيف الاحتياطي ومدّه . مع أن المحكمة ليست ملزمة أصلاً بتوصيف النيابة العامة للجرم ولها أن لا تأخذ به إن رأت أنه لا ينطبق على وقائع الدعوى .
5 – كل ذلك فضلاً عن أنها تشكل مخالفة صارخة لكل ما قرره الاجتهاد القضائي المتواتر والمستقر على أن الأحكام يجب أن تكون معلله تعليلاً صحيحاً كما أنها يجب أن تبنى على أسباب سائغة وأدلة واضحة وجلية .
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه وبذات الوقت يدحض ما درجت عليه كل من مؤسستي قضاء التحقيق والإحالة لدينا وينفيه هو أن :
( آ ) – المشرع السوري لم يحدد مدة للتوقيف الاحتياطي لكافة الجرائم . فهو لم يقل « في جريمة كذا يجب أن لا تقل مدة التوقيف الاحتياطي عن كذا » . وإنما ترك تقدير ذلك لوجدان القاضي المحكوم أصلاً بالقواعد القانونية الراسخة التي سبق أن أشرنا إليها وبالتالي ليس للقاضي أن يشذّ عنها أو يهملها .
هذا الوجدان الذي يلزم القاضي بأن يبرهن بأن الأسباب الموجبة لاستمرار التوقيف الاحتياطي لا زالت قائمة وأن منها ما قد يثير حفيظة الرأي العام أو أنه قد يهدد السكينة العامة أو أنه قد يشكل خطراً ما ، ما زال محدقاً بظروف الدعوى أو حتى بالمدعى عليه ذاته . قد يؤدي إلى إزهاق روحه إن هو أطلق سراحه . أو أنه ما زال هناك خوفاً على الأدلة يمكن أن يؤدي إخلاء سبيل المدعى عليه إلى طمسها لو أنه تم إطلاق سراحه .
نعم للقاضي الجزائي حرية الاقتناع وهذا مبدأ تقره وتقوم عليه مؤسسة القضاء الجزائي . ولكن هل هذه الحرية مطلقة ، ومزاجية ، لا يحدها حد ولا يضبطها قانون ؟
إن الفقه الغالب يرى أن هذه الحرية مقيدة بالنص وبالغايات التي توخاها المشرع من سن القوانين والنصوص وتشريعها . وأنها مقيدة أيضاً بالأدلة الناهضة بالدعوى وبما تمليه مصلحة العدالة واستقرارها .
(ب) – إن المشرع السوري والأردني واللبناني قد استخدم كل منهم عبارة التوقيف الاحتياطي ولم يستخدم عبارة الحبس « التي استخدمها المشرع المصري » . وفي ذلك دلالة واضحة من المشرع على أن التوقيف الاحتياطي هو إجراء شرع لغاية محددة وأنه ليس عقوبة ، باعتبار أن عبارة الحبس في كل من القانون السوري والأردني واللبناني تدل على العقوبة في كل من الجنح والمخالفات . في حين أن الموضوع هنا يتعلق بإجراء قانوني شكلي تقتضيه الضرورة والظروف المحيطة بالجريمة يتحلى بالتوقيف الاحتياطي على ذمة التحقيق والمحاكمة .
لذلك فإن أي خلل قد يصيب إجراء التوقيف الاحتياطي يكون له تأثير خطير على مصير العدالة ويؤثر في البنيان الجزائي الإجرائي بشكل عام . لأنه يصيب وبشكل مباشر حريات الأفراد ولأنه قد يلقي بأبرياء في السجون .
والعدالة بالمطلق لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال اتباع بنيان إجرائي متوازن يتم تطبيقه ضمن إجراءات شكلية محددة تصون حقوق الدفاع وتحتاط لعدم الوقوع في التوقيف الاحتياطي التعسفي .
وفي سبيل تحقيق ذلك ومن أجل بلوغ الهدف الأساسي الذي من أجله قرر هذا الإجراء فإنه لا بد من تحقيق توازن عادل بين مصلحتين متقابلتين ومتعارضتين بنفس الوقت هما :
1 – مصلحة المجتمع في معاقبة مرتكب الجريمة .
2 – ومصلحة الفرد في حماية حقوقه وصون حرياته الأساسية . فالعدالة لا يؤذيها إفلات مذنب من العقاب بقدر ما يؤذيها إدانة بريء .
وقد عبرت محكمة النقض المصرية عن ذلك بقولها : « إفلات مجرم من العقاب لا يضير العدالة بقدر ما يضيرها الافتئات على حريات الناس والقبض عليهم دون وجه حق » .
(نقض 21 أكتوبر 1958 مجموعة أحكام النقض المصرية . س /9/ رقم 206 ص 836) .
وبسبب اتصال « التوقيف الاحتياطي » بالحرية الفردية فقد تناوله المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات واعتبر أنه يشكل ضرراً وألماً يحل بالفرد كما أنه يثير مشاكل متجددة . وذلك :
آ – يسبب ضرراً لمبادئ القانون الراسخة ، إذ إنه يهدم قرينة البراءة التي يتمتع بها كل فرد … فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته – هذه القاعدة اعتنقها وكرسها بعمق الدستور السوري كما سبق أن أسلفنا – ، وهو بذات الوقت ينشئ شبه قرينة على الإجرام .
ب – إنه يهدم مبدأ الفصل بين مرحلة التحقيق ومرحلة المحاكمة .
ج – إنه ضرر وألم لأنه يعرض سمعة المتهم للتشويه ويلحق به معاناة كبيرة أدبية ومعنوية ومادية ، سواء على صعيد المجتمع بشكل عام أو بين أهله وعشيرته وذويه .
د – إنه ألم بسبب ما يلحقه من ضرر بالغ في شخص المتهم لمنافاته للمنطق القانوني السليم . فبهذا التوقيف تبدأ عقوبة غير مقررة بنص قانوني صريح وذلك قبل معرفة فيما إذا كان الشخص الذي تم اتخاذ هذا الإجراء بحقه مذنباً أم لا .
هـ – إنه إجراء يبقى مشكوكاً في شرعيته وقانونيته حتى ولو كانت تبرره ضرورات التحقيق تارة ودواعي الحفظ على الأمن تارة أخرى .
وهو بذلك يبقى نظاماً بعيداً عن فكرة العدالة . الأمر الذي يقتضي دائماً عدم استخدامه إلا في أضيق الحدود وعلى سبيل الاستثناء ومن أجل تحقيق الأهداف التي شرع لأجلها فقط . وما دمنا نبحث عن حل لإطالة أمد التوقيف الاحتياطي وخروجه في كثير من الأحيان عن غاياته وأسبابه فإن من الجدير ذكره في هذا المقال :
(1) – إن مبدأ حرية العدالة والقانون يقضي بأن يترك الشخص الخاضع للتحقيق حراً طليقاً ، إلا إذا دعت ضرورات التحقيق إلى توقيفه أو كانت هناك ظروف أمنية تحتم ذلك .
(2) – يجب أن يراعى أن لا يكون التوقيف الاحتياطي هو القاعدة المتبعة بالنسبة للأشخاص الذين ينتظرون إجراءات محاكمتهم وأن يتم حصر تطبيقه في الحالات التي تفيد في التحقيق وتلك التي تحقق غايات العدالة .
(3) – انسجاماً مع الغايات التي يستهدفها التوقيف الاحتياطي فإنه من المنطقي جداً أن يتم إخلاء سبيل الموقوف احتياطياً عندما لا يكون هناك أي فائدة للتحقيق من توقيفه وكذلك عند زوال مبرراته .
فإذا كان إطلاق سراح المدعى عليه لن يؤثر على حسن سير إجراءات التحقيق وأنه لن يحاول الهرب من وجه العدالة وأنه سيتعاون مع القضاء وسينفذ كل أوامره وإجراءاته وسيخضع لحكمه فإنه ليس هناك أي مبرر لإبقائه موقوفاً .
(4) – لا بد أن يكون قرار التوقيف الاحتياطي وكذلك قرار مده أو إطالة أمده مسبَّباَ ومعللاً تعليلاً كافياً نابعاً ومرتبطاً بظروف القضية باعتباره ضماناً لا غنى عنه لحسن سير العدالة وباعتبار أن هذا التسبيب والتعليل يعتبر من الضمانات التي تحمي حريات الأفراد وتسهل الدفاع عن حقوقهم .
(5) – لقد ربط فقهاء المسلمين التوقيف الاحتياطي بالإثبات فلم يسمح به لديهم إلا إذا نهضت أدلة قوية بجانب المدعى عليه تكفي لوضعه موضوع التهمة . وقد حدد فقهاء الشافعية مدة التوقيف للاستبراء « وهي تقابل التوقيف الاحتياطي في التشريعات الحديثة » بشهر واحد ويجوز لديهم إعادة التوقيف إذا ظهرت أدلة جديدة .
وعلى نهجهم هذا سار التشريع البريطاني الذي جعل الحد الأقصى للتوقيف الاحتياطي ثمان وعشرين يوماً وبحيث لا يجوز تجاوز هذه المدة فيما لو أنه تم إعادة توقيف المتهم بعد إخلاء سبيله عن ذات الجرم (م 42 من قانون الإجراءات الجزائية البريطاني الصادر سنة 1977) وهو بذلك اعتمد الحد الأدنى لأيام الشهر في السنة الهجرية لكونه ترجم النص وأخذه من الفقه الإسلامي .
(6) – لقد نصت مجموعة جستنيان على أن المدعى عليه يوقف لمدة لا تتجاوز ستة أشهر إذا عجز عن دفع مبلغ الكفالة وإذا كانت الجريمة المرتكبة من الجرائم الخطيرة يجب البت بقضيته خلال ستة أشهر .
(7) – إن التوقيف الاحتياطي استخدم لدى اليونان كإجراء استثنائي لمنع المدعى عليه من الهرب .
(8) – إن المشرع العراقي قد أحاط المتهم بضمانات كثيرة وكبيرة وكان بذلك السباق بين القوانين العربية .
فقد نصت الفقرة /آ/ من المادة 109 من القانون العراقي رقم 23 لعام 1971 على أنه « لا يجوز للحاكم أن يأمر بالإيقاف إلا لمدة لا تزيد على خمسة عشر يوماً في كل مرة وبعد مضي ستة أشهر يعهد بالتمديد إلى محكمة الجزاء الكبرى » .
كما نصت الفقرة /ج/ من نفس المادة على أنه : « لا يجوز أن يزيد مجموع مدد التوقيف على ربع الحد الأقصى للعقوبة ولا يزيد بحال على ستة أشهر . وإذا اقتضى الحال تمديد التوقيف أكثر من ستة أشهر فعلى الحاكم عرض الأمر على محكمة الجزاء الكبرى لتأذن له بتمديد مدة التوقيف مدة مناسبة على أن لا تتجاوز ربع الحد الأقصى للعقوبة أو تقرر إطلاق سراحه بكفالة أو بدونها » .
كما نصت المادة 110 من هـذا القانون على أنه : « لا يجوز التوقيف إلا إذا زادت مدة الحبس المقررة عن ثلاث سنوات » .
(9) – لقد اشترطت الفقرة الرابعة من المادة 107 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الجديد 328 لسنة 2001 أن على قاضي التحقيق أن يراعي عند إصدار قرار التوقيف الاحتياطي ما يلي :
– أن يكون قرار التوقيف معللاً .
– أن يبين الأسباب الواقعية والمادية التي اعتمدها لإصداره .
– أن يكون التوقيف الاحتياطي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على أدلة الإثبات أو المعالم المادية للجريمة .
– أن يكون قرار التوقيف من أجل الحيلولة دون ممارسة الإكراه على الشهود أو على المجني عليهم .
– أو لمنع المدعى عليه من إجراء اتصال بشركائه في الجريمة أو المتدخلين فيها أو المحرضين عليها .
– الغرض من التوقيف حماية المدعى عليه نفسه ومنعه من الفرار .
– وضع حد لمفعول الجريمة أو الرغبة في اتقاء تجديدها وتجنيب النظام العام أي خلل ناجم عن الجريمة .
(10) – لسنا هنا في باب تعداد مدد التوقيف في التشريعات المختلفة ولا بصدد بيان طريقة تجديدها أو تمديدها ولكن المقام يتطلب منا ذكر بعض الأمثلة تأكيداً منا لوجوب تحديد مدة التوقيف الاحتياطي ووجوب وضع ضوابط خاصة له تخفف من وطأة هذا الشر الذي لا بد منه ، رعاية لمصلحة المجتمع والفرد سواء كان مجنياً عليه أو مدعى عليه ، وبالتالي السير على نهج أغلبية التشريعات العالمية التي سبق أن أشرنا إلى أهمها أعلاه والتي نذكر منها أيضاً وعلى سبيل المثال : التشريع الإيطالي والروسي والبرتغالي والبولندي … إلخ . فضلاً عن التوصيات الصادرة عن المؤتمرات الدولية المتعلقة بهذا الشأن .
المحامي
أمير إبراهيم تريسي
اترك تعليقاً