السياسة الفاضلة والسياسي غير الفاضل
السياسة عند الحكماء الأولين هي علم العلوم كلها، إذ بها تتحقق سعادة الدولة، ومنها سعادة الفرد بما هو مواطن لهذه الدولة. لذا كانت السياسة عندهم مرادفة للخير الأسمى والفضيلة التي ترتجى لتحقيق الكمالات كلها، كمال المجتمع وكمال الفرد، إذ هي السبيل والمنتهى ومتى شاع في قوم جنس من أجناس هذه السعادة عد قوما متمدنا ومتحضرا.
في بلادنا، وهي الشبيهة بالجزيرة كما وصفها بذلك الأستاذ عبد الله العروي، تخضع السياسة لتقلبات كتلك التي تخضع لها رياح الجغرافيا، فهي متناقضة ومتشنجة وقاحلة… وغير سامية ولا فاضلة…
السياسة، في منظور الحزبيين المغاربة، تشبه الأمراض المستعصية، لا تعرف طبيعتها، وإن عرفت استعصى شفاؤها، منها أن الدولة لم تعد تتضايق من الحديث فيها أو حتى «اقترافها»، لكن بعدما كف المواطنون عن ذلك وأعلنوه على رؤوس الأشهاد في انتخابات 2007، إلا الألسن فهي تتناول السياسة والسياسيين بالتجريح، حتى إن حدود فعل «ساس يسوس» ولواحقه أضحت واحدة متشابهة عند الجميع، من المتسول إلى الفيلسوف بتعبير درويش، ولاسيما أن التحولات التي تمخضت عن تجربة التناوب التوافقي أعطت الدليل المادي، بالصوت والصورة وبالاعتراف وهو سيد الأدلة، على أن السياسي المغربي عندنا هو أبعد الكائنات السياسية عن الفضائل الأخلاقية التي تكلم عنها رواد السياسة الأوائل في التراث العربي الإسلامي، فما وقع مؤخرا من تجاذب لا أخلاقي، قبيل وعقب أحداث العيون، أثبت بالقطع أن كثيرا من السياسة عندنا أضحى مرادفا لكل مفردات الرذائل، وستكون ثمارها علقما مرا مذاقه في حلوق الجميع، وأمر عند الصادقين.
لئن كان بعض المتفائلين في المغرب اليوم لا يزالون يفحصون ما يرجعون به المواطن المغربي العادي إلى الاهتمام الإيجابي بالشأن العام، فإن ما حدث مؤخرا، على النحو الذي بين خلفياته وأسراره الأستاذ رشيد نيني بعيد وبعد الأحداث الأخيرة في العيون، ستكون نتائجه وخيمة ليس على مصداقية تسويقنا لملف وحدتنا الترابية فقط، بل وربما أساسا على علاقة المغربي عموما بالسياسيين والسياسة، فبعد أن لملمت مأساوية الأحداث الشعور الوطني لدى المغاربة ورأيناهم يحتجون بشدة على تكالب الأجنبي على بلادهم، هاهم الساسة الحزبيون يتلاعبون بنا، يتلاعبون بقلوبنا بعد أن تلاعبوا بعقولنا فيما مضى، فمن سيصدقهم الآن عندما سيحتلون منبرا ليعلنوا فيه تشبثهم بالوحدة الوطنية وهم يتاجرون بها، و»من تاجر بالشيء لم يعد له في المحصلة»، كما بين الفيلسوف الكندي رحمه الله..
أما خطورة الأمر فبينة بذاتها، وذلك لأن اختيار المغرب لحل سياسي لقضيته الأولى في المقام الأول، ثم لحل وطني شامل هو الجهوية الموسعة في المقام الثاني، لا يمكن -بأي حال- أن يستقيم بهذا النوع من الساسة وهذا النوع من الأحزاب، لأن الشعب لم يعد يثق في دموع التماسيح التي «ذرفها» أغلب المسؤولين الحزبيين عقب أحداث العيون، فمن سيصدق بعد الآن وواقع الحال يظهر أن أعداء الوطن ليسوا دائما أجانب شرقيين أو شماليين كما ألفنا سحناتهم ونفاقهم في الجزائر وإسبانيا، بل للوطن أعداء أخطر، أعداء يقطنونه، يتخفون خلف كل الأقنعة، بل منهم من لا يتردد في إنابة من يتحدث باسمه عنه، بسوء نية أو بحسنها… لم يعد يهم الآن، إنها لحظات حاسمة «سقطت فيها الأقنعة عن الأقنعة» بتعبير درويش دائما. وليلتمس لنا القارئ العذر في اندفاع الانفعال وقلق العبارة..
تقول النشرات الحزبية: «الحكم الذاتي هو الحل»، لكن هل تستطيع هذه النشرات أن تقول إن الحزب الفلاني هو الحل، فهي تخفي صورته في الكثير من الأحيان، كي لا تنكشف هزالة ما يقدمه هذا الحزب ليدعم هذا الحل. الغريب في أحزابنا والدليل على هزالتها هو أن كل ردود أفعالها تتشابه حد التناسخ، ليس في عكس ثقافة المأساة بل وفي الملهاة أيضا، وإلا فما الذي تعنيه هجومات شباط على الأصالة والمعاصرة؟ ما الذي تعنيه هجومات ولد الرشيد على الوالي السابق «جلموس»؟ ما الذي تعنيه هجومات الأصالة والمعاصرة على المنتفعين بحزب الاستقلال في منطقة حساسة هي الصحراء المغربية؟ ما الذي يعنيه إبقاء نبيل بنعبد الله على عضوية كجمولة في حزبه رغم استمرار اعتزازها بما اقترفته في حق وطن أعطاها جنسية بعد أن كانت ذات جنسية جزائرية؟ ما الذي يعنيه عدم إثارة البرلمان المغربي لقضيتها خصوصا وأنها برلمانية تتقاضى راتبها من أموال شعب؟ ما الذي يعنيه رد الناصري على بنشمسي وعدم رده على رفيقته التقدمية؟ ثم أخيرا ما الذي يعنيه الهجوم الأخير لعبد الهادي خيرات على رفيقه «لشكر»…؟ لشكر هذا سياسي حنكته المعارك، وعرف كيف يلتقط موجات الصدى المنبعثة من 2012.
تعود بنا هذه المسرحية الحزبية في المغرب إلى إعادة تعريف السياسة وفق حدود أخرى لا تجعلها مرادفة للخير الأسمى ولسعادة المدينة كما عرفها بذلك الحكماء الأوائل، ولا حتى «فن الممكن» كما عرفها بذلك ميكيافيلي، إذ إنها أبعد عن الخير والسعادة والفن، وهي القيم المعيارية الجميلة، فهي أضحت شرا وتعاسة عندما توظف، وأيضا فهي أبعد من أن تكون «فنا» مادام هذا الأخير هو أسمى تعبير بشري. وإذا قبلنا جدلا تسميتها «فنا»، فهي كذاك بالمعنى السوريالي للكلمة، فن للمُحال والغرابة والشذوذ عن الفطرة السليمة والوطنية الصادقة… إن السياسة هي العلم الفاضل عندما تمارس من ساسة غير فضلاء.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً