النهر الدولي في القانون
النهر الدولي هو النهر الذي يعبر مجراه أراضي أكثر من دولة كنهر الدانوب، أو الذي يشكل حدوداً بين دولتين كنهر دجلة بالنسبة إلى سورية والعراق، أو الذي يجمع الضفتين معاً كنهر الراين.
تُعدّ المصادر المائية من الثروات الطبيعية والضرورية لاستمرار الحياة الإنسانية ولوجود الكائنات الحية كافة، ويُرمز بها اليوم إلى سيادة الدولة وسلطانها، تماماً كالأرض والفضاء. لكن المياه العذبة القابلة للاستخدام من قبل سكان الكرة الأرضية لا تؤلف سوى ما يعادل 1% فقط من المصادر المائية المتوافرة، والباقي مياه محيطات وبحار مالحة وكتل جليدية توجد في مناطق شبه خالية من البشر، كما تعاني كثير من الدول ـ وخاصة في الوطن العربي ـ التوزيع غير المتساوي للمصادر المائية العذبة، وانعدام المساواة الفعلية في تقسيم المياه، وقساوة الظروف المناخية الناتجة من مشكلات القحط والجفاف شبه الدائمة، وظاهرة الاختيار غير المدروس بعناية لنمط معين من التنمية المبذرّة لكميات كبيرة من المياه، والتوسع السكاني المتزايد والتمدن العشوائي وعدم فعالية نظام السقاية وضعف الصيانة وتفاقم مشكلة التلوث المائي.
وهذا ما أدى أحياناً إلى ظهور عدد من المنازعات بين الدول من أجل السيطرة على مجرى المياه العابر والمجاور لأراضيها. وقد مرَّ القانون الدولي المنظم لاستخدامات الأنهار الدولية international rivers، عبر تطوره التاريخي الطويل بمرحلتين مهمتين: فقد انبثق أصلاً من قاعدة تكريس حرية الملاحة النهرية بالنسبة إلى المجاري المائية القابلة للملاحة، ثم انتقل فيما بعد إلى الاهتمام على نحو رئيسي بموضوع تنظيم استخدامات المجاري المائية الدولية لغايات أخرى غير الملاحة (زراعة، صناعة، توليد طاقة كهربائية).
اتفاقية برشلونة لعام 1921 حول نظام الأنهار القابلة للملاحة وذات الأهمية الدولية
في السابق كانت المياه النهرية من الأموال المشاعة، كالفضاء وأعالي البحار، إذ يستطيع المنتفع التصرف بها كما يشاء. ثم ما لبث أن تبدل الوضع ابتداء من القرن العاشر الميلادي مع ظهور الإقطاعيات واحتكارها للملاحة في الأجزاء من المجاري المائية التي تعبر أراضيها أو تجاورها. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يظهر للعيان الفرق بين ما يطلق عليه النهر الدولي والنهر الوطني، ولكن دائماً بالاستناد إلى مفهوم الملاحة؛ فإذا كان النهر صالحاً للملاحة ويفصل بين دولتين أو أكثر كنهر الراين بين فرنسا وألمانيا، أو يعبر أراضي دولتين أو أكثر كنهر الدانوب فهو نهر دولي، ولكل دولة يمر فيها هذا النهر حق حرية الملاحة في الجزء الذي يعبر أو يجاور أراضيها، ولم يكن يسمح للغير بالملاحة فيه إلا بموجب اتفاقيات خاصة ومقابل دفع رسوم معينة. وما لبثت حرية الملاحة أن بلغت أوجها عندما أقرَّ المرسوم الصادر عام 1792 عن المجلس التنفيذي المؤقت للثورة الفرنسية مبدأ حرية الملاحة في جميع الأنهار الصالحة للملاحة ولمصلحة جميع الدول المتشاطئة وغيرها.
ثم ترسخت حرية الملاحة قاعدة قانونية عامة بموجب وثيقة فيينا لعام 1815 ومعاهدة فرساي للسلام لعام 1919 بالنسبة إلى أنهر الراين والدانوب والألب، إلى أن تم التوصل بإشراف عصبة الأمم إلى عقد اتفاقية برشلونة في 20/4/1921 حول نظام الأنهار القابلة للملاحة، وفيما يأتي أهم ما ورد فيها:
1ـ مفهوم مجاري المياه الصالحة للملاحة وذات الأهمية الدولية: نصت المادة الأولى من النظام الملحق بالاتفاقية على ما يعنيه مفهوم النهر الدولي حسبما هو متعارف عليه ذاك الوقت، والذي يشمل ضمن محتواه العام: مجاري المياه الصالحة بطبيعتها للملاحة والتي تفصل بين أراضي عدة دول أو تجري فيها، وكذلك مجاري المياه ذات الأهمية الدولية بمقتضى تصرفات وحيدة الطرف تصدر من الدول التي تجري فيها، أو بموجب اتفاق دولي تقره الدول المتشاطئة للنهر، ومجاري المياه التي تشرف عليها لجان دولية قد تضم دولاً أخرى إضافة إلى الدول المتشاطئة لمجرى المياه.
2ـ قاعدة حرية الملاحة والمساواة في المعاملة: نصت المادة الثالثة من الاتفاقية على تطبيق قاعدة حرية الملاحة لمصلحة مراكب جميع الدول الموقعة عليها، سواء أكانت من الدول التي يقع فيها المجرى المائي أم من الدول الأخرى، كما أوردت المادة الرابعة مبدأ المساواة في المعاملة بين جميع السفن، وألزمت المادة السابعة عدم فرض رسوم سوى ما يتعلق منها بالصيانة ومقابل خدمات فعلية. وأعلنت المادة الخامسة أنه يجوز للدولة التي يجري النهر في إقليمها أن تقصر التعامل في شواطئها المحلية لمصلحة مراكبها حصراً.
ويحق للدول المتشاطئة بموجب المادة التاسعة الامتناع عن تطبيق القواعد العامة لنظام حرية الملاحة إذا ما تدخلت أحداث خطيرة تتعلق بالملاحة الإقليمية للدولة أو بمصالحها الحيوية، على أن تقدَّر الضرورة بقدرها وأن تنتهي الظروف الاستثنائية بزوال أسباب وجودها. ومع أن عدد الدول التي ارتبطت باتفاقية برشلونة الذي تجاوز الأربعين عند ولادتها انحسر إلى 21 دولة بعد ذلك، لكن استمرار التعامل بموجب قواعدها من قبل الدول حتى اليوم جعل قواعدها عرفاً دولياً واجباً على الدول كافة.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 حول استخدامات المجاري المائية الدولية للغايات غير الملاحية
تميَّز الوضع القانوني لاستخدام الأنهار الدولية لغايات غير الملاحة النهرية بالغموض والتشتت، وذلك منذ رفض أغلبية الدول التصديق على اتفاقية جنيڤ المؤرخة في 9/12/1923 حول تجهيز الطاقة المائية التي تهم عدة دول، وبناء عليه، بادرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 2669 تاريخ 8/1/1970 إلى دعوة لجنة القانون الدولي لدراسة مسألة تقنين القانون المتعلق باستخدام الأنهار الدولية للغايات غير الملاحية. وقد توصلت اللجنة بعد نحو سبعة وعشرين عاماً من المناقشات الفقهية واستطلاع آراء عدد كبير من الدول إلى عرض النص النهائي لمشروعها على الجمعية العامة التي اعتمدته بقرارها رقم 229/51 تاريخ 21/7/1997 بعنوان «الاتفاقية العامة حول القانون المتعلق باستخدامات المجاري المائية الدولية لأغراض أخرى غير الملاحة». وفيما يأتي أهم ما تضمنته الاتفاقية من بنود مهمة:
1ـ مفهوم المجرى المائي الدولي: استعرضت لجنة القانون الدولي جميع المفاهيم المستخدمة للأنهار الدولية، مثل: الحوض النهري والحوض المائي الدولي وحوض التصريف الدولي، وقررت أخيراً اعتماد مفهوم المجرى المائي الدولي الذي عرَّفته المادة الثانية من الاتفاقية بأنه: نظام المياه السطحية والجوفية، المتواجدة في عدة دول، والتي تشكل بموجب روابطها الفيزيائية مجموعة موحدة تصل بشكل طبيعي إلى نقطة التقاء مشترك.
2ـ الاستخدام العادل والمنصف للمصادر المائية: نصت المادة الخامسة من اتفاقية عام 1997على هذا المبدأ الذي لا يمكن تطبيقه عملياً إلا مع الأخذ في الحسبان ضرورة استبعاد أي أولوية بين الاستخدامات المختلفة للمياه، كما أشارت إلى ذلك المادة /10/ من الاتفاقية. وأضافت المادة السادسة أنه يجب التوفيق بين جميع العوامل والظروف الملائمة لتحديد معنى الاستخدام العادل للمياه ودرجة الاعتماد على المياه والاتفاقات المعقودة، ولا يعني هذا المبدأ تقسيم المياه كمياً أو نسبياً وإنما استخدامها استخداماً مثمراً ومتعقلاً لمصلحة الدول المتشاطئة كافة.
3ـ المسؤولية الدولية عن الإضرار بالغير: هذا المبدأ المعترف به كقاعدة عرفية منذ إعلانه في حكم محكمة العدل الدولية لعام 1949 في قضية مضيق كورفو، تم ترسيخه أيضاً في المادة السابعة من اتفاقية عام 1997 التي نصت على الامتناع عن التسبب بأضرار جسيمة للدول الأخرى عند استخدام المجرى المائي الدولي، مع التسامح بحصول بعض الأضرار غير الجسيمة التي يمكن التعويض عنها بموجب اتفاقيات خاصة. كما حظرت المادة /21/ من الاتفاقية الأعمال الهادفة إلى تحويل المجرى المائي الدولي أو تحويل وتخفيض جريان المياه ومنسوب المجرى.
4ـ التعاون والتفاوض بحسن نية: نصت المادة الثامنة من الاتفاقية على التزام التعاون على أساس المساواة السيادية للدول المتشاطئة لتحقيق الفوائد المتبادلة بقصد بلوغ الاستخدام الأمثل للمجرى المائي الدولي، بما في ذلك تبادل المعطيات والمعلومات حول حالة مجرى النهر(المادة 9) والوقاية من الكوارث الطبيعية (المواد 27 و28) وفي مجال ضبط المياه وتدفقها (المواد 25 و26) والتشاور فيما يتعلق بالمشروعات المخطط لها (المواد 11 إلى 19) وأخيراً نصت المادة (33) على سلسلة من الإجراءات لتسوية الخلافات سلمياً بين الدول كالمفاوضات المباشرة والمساعي الحميدة والتوسط والتحقيق والتوفيق والتحكيم واللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
لا تثير مسألة الملاحة في الأنهار الدولية حالياً أي مشكلات ذات أهمية بعدما ترسخت قاعدة حرية الملاحة عرفياً وبموجب اتفاقيات خاصة، لكن الأنظمة القانونية لبعض المجاري المائية لازالت تتميز بعدم الوضوح وانعدام الاستقرار، كما هي الحال في أحواض الفرات ودجلة و شط العرب، والأردن والنيل وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، في حين تم عقد اتفاقيات خاصة، ثنائية ومتعددة الأطراف، لتنظيم استخدامات كثير من المجاري المائية الدولية، كاتفاق 30/11/1963 للملاحة في نهر الدانوب، واتفاقية 9/12/1976 لحماية نهر الراين من التلوث الكيميائي، واتفاقية 11/3/1973 لتنظيم استغلال مياه نهر السنغال، واتفاق 5/4/1995 حول الاستغلال الأمثل لنهر الميكونج، واتفاق 19/9/1960 حول تقسيم مياه نهر الهندوس (السند)، واتفاق 3/7/1978 حول استغلال مياه حوض الأمازون.
كما يشار بهذا الخصوص إلى القرار التحكيمي لعام 1975 حول استخدام بحيرة لانو بين فرنسا وإسبانيا، وحكم محكمة العدل الدولية لعام 1997 في قضية المشروعات المنفذة على نهر الدانوب بين هنغاريا وسلوفاكيا، وكذلك القرارات الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة لعام1977 حول المياه، ومؤتمرات أعوام 1972و1992و1997 حول البيئة والتنمية. وهذا ما يؤلف بمجمله محور قانون استخدام المجاري المائية الدولية.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً