بحث قانوني كبير عن الارادة المنفردة في التشريع الجزائري
خطـة البحــــــث
– الـــمقدمــــة
– المبحث الأول: مفهوم الإرادة المنفردة
المطلب الأول : مفهوم الصرف بالإرادة المنفردة
المطلب الثاني : هل الإرادة المنفردة مصدر عام للإلتزام
المطلب الثالث : موقف المشرع الجزائري من الإرادة المنفردة
المطلب الرابع : التطبيقات التشريعية للإلتزام بالإرادة المنفردة في القانون الجزائري .
– المبحث الثاني : الوعد بجائزة
المطلب الأول : تعريف الوعد بجائزة
المطلب الثاني : شروط الوعد بجائزة
المطلب الثالث : أحكام الوعد بجائزة
– الخــاتمــة
مقدمـــــة
إن مصدر الإلتزام هو سبب نشوئه أو الواقعة التي يترتب على حدوثها نشوء الإلتزام، لأن الالتزام أمر عرضي في حياة الأشخاص لابد من سبب ينشئه في ذمتهم فالتزام المشتري يدفع ثمن مصدر عقد البيع، والتزام المتاجر بدفع الأجرة مصدره عقد الإيجار، والتزام المتسبب في ضرر بتعويض هذا الضرر مصدره الفعل الضار، والتزام الإنفاق على أولاده مصدره نص في القانون وهكذا .
وقد قسم الفقيه الفرنسي بوتيه مصادر الالتزام إلى خمسة مصادر منشئا منها الإرادة المنفردة حيث أخذ بهذا القسيم التقنين المدني الفرنسي و التقنينات التي نسجت على منواله ومع منتصف القرن التاسع عشر واجه انتقادات لاذعة من طرف الكثيرين من الفقهاء وعلى رأسهم بلانيول الذي انتقده بقوله على أنه ناقص لأنه لم يذكر الإرادة المنفردة إلى جوار العقد كمصدر المصادر الإرادية للإلتزام .
وسنقوم في هذا البحث بدراسة الإرادة المنفردة كمصدر الالتزام من حيث المصادر الإرادية كالآتي :
– المبحث الأول: مفهوم الإرادة المنفردة
– المطلب الأول : مفهوم الصرف بالإرادة المنفردة
– المطلب الثاني : هل الإرادة المنفردة مصدر عام للإلتزام
– المطلب الثالث : موقف المشرع الجزائري من الإرادة المنفردة
– المطلب الرابع : التطبيقات التشريعية للإلتزام بالإرادة المنفردة في القانون الجزائري .
– المبحث الثاني : الوعد بجائزة
– المطلب الأول : تعريف الوعد بجائزة
– المطلب الثاني : شروط الوعد بجائزة
– المطلب الثالث : أحكام الوعد بجائزة
المبحث الأول : مفهوم الإرادة المنفردة
المطلب الأول : مفهوم الصرف بالإرادة المنفردة
يقصد بالإرادة المنفردة إرادة شخص واحد، وهي تختلف في هذا عن العقد الذي يقوم على تطابق إرادتين لشخصين مختلفين[1] .
فالإرادة المنفردة هي تصرف قانوني من جانب واحد، وهي قادرة على إحداث آثار قانونية متعددة، كإنشاء الأشخاص الاعتبارية، أو الوقف، أو المؤسسات الخاصة . كما أنها قادرة على أن تنشئ حقا عينيا كما في النزول عن حق ارتفاق أو رهن ، وهي قادرة على تصحيح عقد قابل للإبطال، كما في الإجازة، وأن تجعل العقد يسري حق الغير، كما في الإقرار، وهي تؤدي إلى إلغاء عقد معين، كما في الوكالة و العارية و الوديعة و الشركة و الإيجار و العمل و غيرها[2] .
كما أن الإرادة المنفردة قد تؤدي إلى إسقاط حق شخصي أو إنهاء الالتزام ، كالإبراء الذي يؤدي إلى انقضاء الدين (المادة 305 من القانون المدني الجزائري) و تستطيع كذلك أن تنشئ حقا شخصيا أو التزاما في ذمة صاحبها كما في الإيجاب الملزم و الوعد بجائزة الموجهة إلى الجمهور (المادة 63 و 123 ق.م) و غيرها من الحالات المعينة التي نص عليها القانون .
كل هذه الأحكام لا شك فيها، ولكن الجدال يثور مع ذلك فيما إذا كانت الإرادة المنفردة قادرة على إنشاء الالتزام، وبتعبير آخر هل الإرادة المنفردة قادرة على إنشاء التزام في ذمة صاحبها لأنه من الواضح أنه لا تستطيع أن تنشئ التزام في ذمة شخص آخر.
المطلب الثاني : هل الإرادة المنفردة مصدر عام للالتزام ؟
ظل العقد حتى القرن التاسع عشر يعتبر هو المصدر الوحيد للالتزام الإرادي، أما الإرادة المنفردة فلا تولد التزاما [3].
غير أنه في سنة 1874 قرر أحد شراح القانون النمساوي وهو ” سيجيل ” وجوب الأخذ بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام بجانب العقد .
ولقد لاقت فكرته قبولا لدى واضعي القانون الألماني سنة 1900 ، فقرروا للإرادة المنفردة مكانا بجانب العقد، و إن لم يأخذوا بها كمصدر عام للالتزام (المادة 305 ق. الألماني) . ومن هنا نادي الفقهاء في ألمانيا إلى اعتبار الإرادة المنفردة مصدرا للالتزام الإرادي على أساس مبدأ سلطان الإرادة .
ولقد تأثرت بعض التفنينات الحديثة بهذه النظرية، كالقانون السويسري و القانون البولوني، و القانون الإيطالي و(م 1987) و القانون العراقي (م 184 و 185 )، و القانون الجزائري . غير أتن جميع هذه التفنينات سارت على نسق التقنين الألماني في الأخذ بالإرادة المنفردة كمصدر استثنائي للالتزام الإرادي لا كمصدر عام كما هو الشأن بالنسبة إلى العقد . فقد جعلت منه مصدرا ثانويا ، له تطبيقات محددة نص عليها القانون مثل الوعد بجائزة المقرر في القانون الجزائري بنص المادة ( 115 ق . م).
وسار على هذا النهج التقنين السوري (م 163 ) ، و التقنين الليبي (م 164)، وكذا التقنين اللبناني (م 148 )، وقد لقيت هذه النظرية قبولا من بعض كبار الفقهاء الفرنسيين في أواخر القرن الماضي و أوائل هذا القرن ، ولكنها لم تلق القبول العام في الفقه الفرنسي حتى اليوم، و الفقه الفرنسي في تحفظه ينطلق من أحكام القانون الروماني التي لا تعترف إلا بالعقد مصدرا إراديا للالتزام، و يعتمد في موقفه على بعض الأسباب التي يمكن ردها إلى ثلاث نقاط رئيسية هي: أن الالتزام بالإرادة المنفردة يتنافر مع الميادين العامة للقانون، و يصطدم بصعوبات قانونية بالغة و يشكل ازدواجا مع مصادر الالتزام الأخرى، ويعتبر الأستاذ “تالير” زعيم الخصوم منذ أن قال عبارته المشهورة ( أن الالتزام بالإرادة المنفردة بناء على رمال متحركة …) .
وقد رد أنصار نظرية الإرادة المنفردة على انتقادات خصومهم بأن الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام تستند في آخر الأمر إلى القانون شأنها في ذلك شأن العقد، و أن الالتزام بالإرادة لن يبتلع العقد ولن يشكل ازدواجا معه بل إن لكل نطاقا خاصا به ، و أنه ليس هناك ما يمنع لا من الناحية القانونية ولا من الناحية المنطقية أن تكون الإرادة المنفردة ضرورة قانونية، تنسجم مع المنطق القانوني مراعاة لاعتبارات الثقة في المعاملات ، و للمقتضيات وعليه فإنه ليس هناك ما يحول قانونا أو عدالة دون أن تكون الإرادة المنفردة مصدرا للالتزام ينشأ في ذمة صاحبه .
المطلب الثالث : موقف المشرع الجزائري من الإرادة المنفردة
يأخذ المشرع الجزائري بالإرادة المنفردة مصدرا للالتزام في حالات محددة وليس باعتبارها مصدرا عاما للالتزام، و إنما جعلها مصدرا استثنائيا في الأحوال التي ينص فيها القانون على ذلك[4] ،
فالإرادة المنفردة في القانون الجزائري لا تستطيع أن تنشئ التزاما إلا حيث أجيز لها بنصوص خاصة وهي لا تلزم صاحبها إلا في أحوال خاصة، فالعقد هو المصدر الإرادي للالتزام، و يحتفظ إلى جانبه بالإرادة المنفردة باعتبارها مصدرا استثنائيا أو ثانويا ، وذلك في الحالات المنصوص عليها في القانون من الإرادة المنفردة تنشئ التزاما .
و الحقيقة أنه ليس هناك م يحول قانونا أو عدالة دون أن تكون الإرادة المنفردة مصدرا للالتزام في الحالات التي تدعوا الحاجة فيها إلى اعتبار هذه الإرادة التي تستمد قوتها من القانون، و يسري عليها ما يسري على العقد من أحكام إلا ما تعلق منها بضرورة وجود إرادتين متطابقتين لإنشاء التزام، ومن هنا فإن أحكام الأهلية و عيوب الرضا و المحل و السبب تسري على الإرادة المنفردة كمصدر استثنائي للالتزام، ذلك أن القواعد التي وردت في القانون المدني المتعلقة بتنظيم العقد، تعتبر في الحقيقة المبادئ العامة لنظرية التصرف القانوني، وتطبق تبعا لهذا التصرف الذي يصدر عن الإرادة المنفردة في الحالات التي يكون فيها وفقا لنصوص القانون مصدرا للالتزام، عدا ما تعلق من تلك القواعد بوجود إرادتين متطابقتين الذي لا علاقة له بداهة إلا بالعقد
ولقد نصت المادة 184 من القانون المدني العراقي بأنه ( لا تلزم الإرادة المنفردة صاحبها إلا في الأحوال التي نص فيها القانون على ذلك ويسري عليها ما يسري على العقد من الأحكام إلا ما تعلق منها بضرورة وجود إرادتين متطابقتين لإنشاء الالتزام ).
فالقانون هو المصدر المباشر لكل الالتزامات في القانون الجزائري ، ولكن بجانب هذا المصدر غير المباشر يوجد مصدر آخر مباشر لكل مجموعة من الالتزامات و يكون هذا المصدر المباشر هو العقد أو الإرادة المنفردة أو العمل غير المشروع .
المطلب الرابع : التطبيقات التشريعية للالتزام بالإرادة المنفردة في القانون الجزائر [5] .
ذكرن سابقا بأن المشرع أقر بقدرة الإرادة المنفردة على إنشاء الالتزام في أحوا استثنائية تقررها النصوص، ومن هنا نص القانون الجزائري على عدة حالات يكون فيها التصرف بالإرادة المنفردة مصدرا للالتزام ، كالوعد بجائزة الموجه إلى الجمهور ( م 115 ق.م ) و الإيجاب الملزم ( م 63 ق.م ) و الوعد من جانب واحد بالبيع أو بالشراء قبل إعلان الطرف الآخر رغبته ( م 71 ق.م) ، و إنشاء المؤسسات الخاصة ( م 70 ق.م ) ، و الاشتراط لمصلحة الغير ( م 116 ق.م ) و تطهير العقد المرهون ( م 915 و 916 ق.م ) و صاحب السند يلتزم تجاه حامله بإرادة منفردة ، و إجازة العقد القابل للإبطال (م 100 ق.م ) و الإقرار الوارد في المواد 114 و152 و398 وقي المادة 83 من قانون الأسرة
كما أن المشرع الجزائري نص في قانون الأسرة الصادر في 09 جوان 1984 انطلاقا من أحكام الشريعة الإسلامية على الوصية (م 184 ق.أ ) و الوقف ( م 213 ق.أ )
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفقه الإسلامي سبق الفقه الغربي للالتزام، و جعلها صالحة لأن تكون أساسا لتصرف شرعي أو قانوني على خلاف بين الفقهاء في مدى الصلاحية، ومن تطبيقات التصرف الانفرادي في الفقه الإسلامي نذكر منها إنشاء الوقف و الوصية و الإيجاب الملزم و الكفالة و الإبراء و الطلاق و غيرها، وهذا قبل انعقاد المؤتمر العالمي في منتصف القرن التاسع عشر و بالذات سنة 1854 في مدينة ” قيسن” الذي اعتبر أن الالتزام بالإرادة المنفردة هو الأساس الوحيد لالتزام الواعد بجائزة، وكذلك قبل أن يتوصل إليها العالم النمساوي “سيجيل” في سنة 1874 و قبل أن يقررها الفقيه الفرنسي “سالي” .
ولقد ذكر الأستاذ الجليل عبد الرزاق السنهوري في كتابه مصادر الحق في الفقه الإسلامي، بأنه للإرادة المنفردة في الفقه الإسلامي ميدانا فسيحا نراها فيه تنتج آثار قانونية متنوعة ، فهناك أولا تصرفات وهي عقود في الفقه الغربي و تتم في الفقه الإسلامي بإرادة منفردة، وهناك ثانيا تصرفات بإرادة منفردة في كل من الفقهين الإسلامي و الغربي، وفوق ذلك فإن مذهب الإمام مالك قد بلغ في هذا مبلغ الفقه الجرماني فقد جعل من الإرادة المنفردة مصدرا عاما للالتزام .
ولقد استمد الفقه الإسلامي نظرية الإرادة المنفردة من قوله سبحانه و تعالى : (قَالُوا أنفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم)[6] .
كما أن المشرع الجزائري أخذ بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام في أمثلة عديدة ، ومنها إبراء الدائن المدين بإرادة منفردة ( م 305 ق.م ) وهو حكم مستمد من الفقه الإسلامي، في حين أن القانون الفرنسي لا يجعل الإبراء تاما إلا بإرادتي الدائن و المدين ، لأنه لم يعترف بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام .
هذا و بما أن الوعد بجائزة الموجه إلى الجمهور هو التطبيق النموذجي للالتزام الذي مصدره الإرادة المنفردة ، و الذي يسلم به الجميع تقريبا فإننا سنقف عنده بشكل عام ونخصص له دراسة مستقلة .
المبحث الثاني : الوعد بجائزة
المطلب الأول : تعريف الوعد بجائزة
الوعد بجائزة هو تصرف بإرادة منفردة، أو هو تعبير عن الإرادة يوجه إلى الجمهور، فيلتزم صاحبه بمقتضاه أن يقدم أداء معينا لأي شخص يقوم بعمل معين ، ولقد نصت المادة 123 ق .م على انه : “1- من وعد الجمهور بجائزة يعطيها عن عمل معين يلزم بإعطائها لمن قام بالعمل ، ولو قام به دون نظر إلى الوعد بالجائزة أو دون علم بها . 2- و إذا لم يعين الواعد أجلا لإنجاز العمل ، جاز له الرجوع في وعده بإعلان الجمهور على ألا يؤثر ذلك في حق من أتم العمل قبل الرجوع في الوعد . 3- و تسقط دعوى المطالبة بالجائزة إذا لم ترفع خلال ستة أشهر من تاريخ إعلان العدول للجمهور ” .
ومن هذا النص يتضح لنا بأن الوعد بجائزة هو عمل قانوني من جانب واحد، ينتج اثره متى قامت أركانه، و توافرت شروطه دون الحاجة إلى القبول الصريح أو الضمني، ويختل من ثم عن الإيجاب ولو كان ملزما[7] .
وتطبيقات الوعد بجائزة كثيرة في الحياة العملية، كالوعد الذي يوجه إلى الجمهور بجائزة أو بمكافئة في الصحف اليومية ، لمن قام بعمل معين أو من يقوم بتحقيق كشف أو اختراع علمي أو صناعي في موضوع معين أو لمن يعثر على شيء ضائع أو لمن يفوز في مسابقة أو لمن يقبض أو يرشد عن مجرم معين …
المطلب الثاني : شروط الوعد بجائزة
يتبين من نص المادة 123 ق.م أنه يجب لقيام الوعد أن تتوافر الشروط الآتية حتى يقال أننا بصدد الوعد بجائزة [8]
أ- أن توجد إرادة جدية و باتة تتجه إلى الالتزام.
ب- أن يوجد الوعد إلى الجمهور.
ت- أن يتضمن الوعد إعطاء جائزة معينة
أ- أن توجد إرادة جدية و باتة تتجه إلى الالتزام : لقيام الوعد بجائزة يجب أن تصدر عن الواعد إرادة جدية و باتة فيها معنى الالتزام النهائي و ليس فقط مجرد الدعوى إلى التفاوض لأن مصدر الالتزام هنا هو الإرادة المنفردة الباتة هي الإرادة التي ينشأ عنها الالتزام ،و يجب أن ترد هذه الإرادة على محل مستوف شروطه من حيث المكان و التعيين و المشروعية، وأن يتوافر لها سبب مشروع، وأن تتوافر الأهلية اللازمة لدى الواعد، و أن تكون إرادة سليمة من العيوب التي تفسدها، كغلط أو تدليس أو إكراه أو استغلال.
و يقصد بالسبب هنا العمل الذي خصصت له الجائزة من أجله أي قيام مستحق الجائزة بعمل معين فإذا انعدم السبب بطل التزام الواعد بإرادة منفردة و هذا الحكم ظاهر بنص المادة 123 ق.م التي تقر أن ” من وجه للجمهور وعدا بجائزة يعطيها عن عمل معين ”
فيجب على الفائز القيام بالعمل المطلوب الذي أعلن عنه الواعد، وهذا هو في الحقيقة سبب التزامه فإذا كان هناك عمل ولم يقم أحد من الناس، أو قام به و لكن ليس بالشروط التي اشترطها الواعد فإنه لا يلتزم قانونا بتقديم الجائزة، ومن أمثلة العمل العثور على شيء ضائع ، أو النجاح في امتحان أو الفوز في مسابقة معينة، أو اكتشاف اختراع، أو وضع أفضل كتاب في فرع من العلوم أو الفنون، و نلاحظ بأن نص المادة 123 ق.م و المتعلقة بالوعد بجائزة توضح لنا أننا لسنا بصدد التزام قانوني إذ أن عديم الأهلية لا يمكن أن يتحمل مثل هذه الالتزام، كما أن النص المذكور لا يتضمن الإيضاح الكافي لهذا الالتزام إذ يقتصر على تقرير أن الواعد يلتزم بإعطاء الجائزة، وعليه فإن التزام الواعد بجائزة مصدره الوحيد هو الإرادة المنفردة، أي أن هذا الالتزام يتوقف إنشاؤه عليه على مشيئة الواعد إذ النص يقول صراحة ” من وجه للجمهور وعدا …” و يتفق حكم القانون الجزائري في هذه المسألة مع حكم القانون المدني الألماني الذي يجعل سبب الالتزام الواعد بجائزة هو قيام شخص بعمل معين، حيث تنص المادة 657 ق.م الألماني على أن ” كل من يعد بجائزة بطريقة الإعلان العام للقيام بعمل أو على الخصوص للحصول على نتيجة، يلتزم بإعطاء تلك الجائزة لمن قام بالعمل
ب- أن يوجه الوعد إلى الجمهور: أي أن تتوجه إرادة منفردة إلى أشخاص غير معنيين، لأنها إذا وجهت إلى شخص معين فلا تكون وعدا بالمفهوم القانوني المقصود في هذا المقام و إنما تصبح إيجابا لا بد أن يقترن به قبول، وفي هذه الحالة نخرج من مجال التصرف بالإرادة المنفردة إلى مجال العقد .
وعليه فإنه يجب أن يتم التعبير عن الإرادة بطريق علني، و يقصد بالجمهور ذلك العدد غير المحدد من الناس، و اللذين لا يعرفهم الواعد بذواتهم و إن عرفهم بصفاتهم، والتوجه بالخطاب إلى هذا الجمهور يقتضي أن يتم بوسيلة من شأنها أن تعلم الناس بالوعد و بمضمونه، كأن يلجأ الواعد إلى إحدى دور النشر كالصحف و الراديو و التلفزيون و الملصقات و غيرها .
ت- أن يتضمن الوعد إعطاء جائزة معينة : سواء في ذلك أن تكون الجائزة مادية كمبلغ من النقود أو شيئا آخر له قيمة مادية كأسهم أو سيارة أو نفقات رحلة أو أن تكون ذات قيمة معنوية أو أدبية ككأس أو وسام أو غير ذلك من علامات التقدير، و يلتزم الواعد ب‘طاء الجائزة ( التي هي محل الوعد ) لمن يفوز بها أيا كان محل هذه الجائزة ومن ثم ينبغي لأي محل للالتزام أن تكون معينة أو قابلة للتعيين .
وانطلاقا من المادة 123 ق.م فإن الواعد يلتزم بإعطاء الجائزة لمن يقوم بالعمل المعين، ذلك أن سبب الوعد هو القيام بعمل معين وليس فقط التواجد في مركز معين، ومن هنا فإن الوعد بجائزة لمن تتوافر فيه صفة معينة لا يخضع لحكم هذه المادة .
إن الوعد بجائزة لمن تتوافر فيه صفة معينة أو يوجد في مركز معين، أو في وضع معين، كمن يوجد في مركز مريض بمرض معين، أو لقيط ، أو معوق بلغ من العجز قدرا معينا، أو عجوز بلغ من العمر سنا معينا، أو ابن شهيد من شهداء حرب التحرير مثلا، فالوعد في مثل هذه الأحوال وعلى خلاف القانون الإيطالي ( م 1989/ 1 ق.م الإيطالي ) لا ينشىء التزاما بالإرادة المنفردة على عاتق الواعد بل لا بد أن يقترن بها قبول من الطرف الآخر لتمام العقد، فينشأ الالتزام عن العقد وليس عن الإرادة المنفردة .
المطلب الثالث : أحكام الوعد بجائزة
إذا توافرت الشروط السابقة قام التزام الواعد، و ترتبت عليه آثار قانونية وهي تختلف بحسب ما إذا كان الواعد قد حدد لوعده مدة معينة أم لم يحدد له مدة معينة ما[9] .
وهذه تفرقة منطقية و معقولة، على أن يراعى أن المدة تتحدد للقيام بالعمل المطلوب.
1- تقييد الوعد بمدة زمنية :
إذا حددت للوعد مدة معينة كأن يشترط الواعد مدة معينة يتم العمل خلالها، فإن الواعد يلتزم نهائيا بإرادة منفردة، بحيث لا يجوز له الرجوع في وعده قبل فوات هذه المدة كما أن الواعد يلتزم قبل مستحق الجائزة إذا أتم هذا الأخير العمل المطلوب قبل انقضاء هذه المدة .
أما إذا انقضت المدة دون أن يقوم أحد بالعمل المطلوب انقضى التزام الواعد و إذا قام شخص بعد ذلك بهذا العمل فلا يلتزم الواعد إلا على أساس الإثراء بلا سبب .
و يلاحظ أنه إذا تحقق القيام بالعمل المطلوب، قبل فوات المدة إستحق من قام به الجائزة الموعود بها، ويستوي في هذا العمل بقصد الحصول على الجائزة أو لم يكن لديه هذا القصد ، ويستوي أن يعلم بالجائزة وقت قيامه بالعمل أو لا يعلم بها ، كما يستوي أن يتم العمل بعد الإعلان عن الجائزة أو قبل الإعلان عنها لأن مصدر التزام الواعد إرادته المنفردة .
هذا و إذا قام بالعمل أكثر من شخص على إنفراد، فإن الجائزة تكون للأسبق أما إذا قاموا بالعمل في وقت واحد كانت الجائزة سوية بينهم أي قسمت على عدد الرؤوس
و إذا تعاون عدة أشخاص في القيام بالعمل تقسم الجائزة عليهم على أساس تقدير عادل قوامه ما يكون لكل منهم من نصيب في إتمام العمل المذكور .
2- عدم تقييد الوعد بمدة زمنية :
و إذا تحدد للوعد مدة معينة ، فإن الواعد يلتزم كذلك بالوعد الصادر منه ، فإنه يلتزم بإعطاء الجائزة لمن قام بالعمل المطلوب و يجوز للواعد ما دام لم يحدد مدة معينة لوعده أن يرجع فيه ، على أن يكون رجوعه بذات العلانية التي توفرت في الوعد حتى يصل نبأ العدول إلى الجمهور.
وفي هذا تنص المادة 123 ق. م على أنه << إذا لم يعين الواعد أجلا لإنجاز العمل ، جاز له الرجوع في وعده بإعلان الجمهور على ألا يؤثر ذلك في حق من أتم العمل قبل الرجوع في وعده>> . وهذا النص يتفق مع طبيعة تكوين الالتزام بإرادة منفردة ، إذ يقوم هذا الالتزام على إرادة واحدة ، فهو يستمد منها وجوده ، ومن ثم لا يبقى هذا الوعد إلا بقيت تلك الإرادة .
على أنه وفقا لما جاء في هذه المادة في فقرتها الثانية عند رجوع الواعد في وعده ، حماية مصالح الغير و الحفاظ عليها و هنا لا يخلو الأمر من واحد من القروض الثلاثة الآتية :
أ- إذا لم يكن قد بدأ أحد في تنفيذ العمل المطلوب تحلل الواعد نهائيا من التزامه الانفرادي .
ب- إذا أتم شخص العمل المطلوب قبل إعلان الواعد الرجوع في وعده ، كان له مطالبة الواعد بالجائزة على أساس التزامه بالإرادة المنفردة .
ت- إذا بدأ شخص في تنفيذ العمل المطلوب ، وصدر عدول الواعد قبل إتمامه ، كان له الرجوع على الواعد على أساس أحكام المسؤولية التقصيرية ، وفي هذه الحالة يحكم له بتعويض عن الضرر الذي أصابه دون أن يجاوز هذا التعويض مقدار الجائزة .
ومن هنا ، فإنه إذا لم يحدد الواعد لوعده مدة معينة لا يلتزم يه إلى غير نهاية مادام لم يرجع عنه ، بل خلال المدة المعقولة التي يرجع في تقديرها إلى آثار خلاف في شأنها إلى قاضي الموضوع ، على أنه يجب الحفاظ على مصالح الغير و المقصود بالغير هنا هو الجمهور الذي وجه الوعد إليه .
هذا و يتعين على من قام بالعمل أن يطالب الواعد بالجائزة خلال ستة أشهر من تاريخ إعلان للرجوع للجمهور المادة 123 ق.م وقد أراد المشرع الجزائري قطع السبيل على كل منم محاولة مصطنعة يراد بها استغلال الوعد بجائزة بعد إعلان العدول ، ومدة ستة أثهر هي مدة سقوط وليست مدة تقادم ، ولذلك قلا يراد عليهما الوقف أو الانقطاع .
وفي غير حالة العدول عن الوعد فإن حق من قام بالعمل لا يتقادم إلا بخمس عشرة سنة فهو حق ناشئ عن التزام إرادي ، ولم تحدد مدة خاصة لتقادم فتسري عليه القاعدة العامة في التقادم الواردة في المادة 308 في القانون المدني .
الخـــــــــــاتمة
توصلنا من خلال بحث الإرادة المنفردة إلى النتائج التالية :
أولا : أنه ليس للإرادة المنفردة كامل القدرة في إنشاء الالتزام ، إنما لها القدرة إنشاء الالتزام في الحدود التي يرسمها القانون لها ولذا فهي تتأثر بتدخل المشرع تأثرا كبيرا يؤدي إلى الحد من قدرتها على إنشاء الالتزام .
ثانيا : أن للمشرع كامل الصلاحية في إنشاء مجالات جديدة للالتزام بالإرادة المنفردة و تحديدها و رسم خطاها و مداها .
ثالثا : أن أغلب التشريعات الحديثة أخذت بالإرادة المنفردة كمصدر للالتزام ولكنه مصدر استثنائي ، وليس مصدرا أصليا .
رابعا : أن الإرادة المنفردة تمثل من جهة الإرادة الحرة التي لها القدرة على التعهد بأي التزام تشاء وفي هذا صلة بالمذهب الحر ومن جهة أخرى تساعد على تيسير المعاملات التي كثرت في العصر الحديث من دون الحاجة إلى دائن معين ، وفي هذا الاتجاه تمت بصلة وثيقة إلى المذهب المادي ، ولهذا فهي لم تقطع صلتها بتطور الفكر القانوني عبر التاريخ ، و تتجه فقط اتجاها كليا إلى الحاضر و المستقبل .
خامسا : إن مجالات الإرادة المنفردة محدودة بوجه عام ، سواء كانت إرادة منفردة تنشئ التزاما على عاتق صاحبها ، أو إرادة منفردة تحدث آثارا قانونية مختلفة .
سادسا : إن هناك تمييزا بين مجالات الإرادة المنفردة التي تنشئ التزاما ز بين الإرادة المنفردة التي آثارا قانونية مختلفة .
قائمة المراجع
1. بلحاج العربي ، النظرية العامة للالتزام في القانون المدني الجزائري ، ج1 ، ط3 ،دار المطبوعات الجامعية ، الجزائر،2004
2. فتحي عبد الرحيم عبد الله ، شرح النظرية العامة للالتزام ،ج1، منشأة المعارف ، الإسكندرية ،2001 .
3. محمد تقية ، الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام ،المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر 1984 .
بلحاج العربي ، النظرية العامة للالتزام في القانون المدني الجزائري ، ج1 ، ص328 ، الجزائر ، 2004 [1]
[2] فتحي عبد الرحيم عبد الله ، شرح النظرية العامة للالتزام ، ص359 ، الإسكندرية ،2001 .
[3] محمد تقية ، الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام ، ص28 ، الجزائر 1984 .
[4] بلحاج العربي ، النظرية العامة للالتزام ، مرجع سابق ، ص331 .
[5] بلحاج العربي ، النظرية العامة للالتزام ، مرجع سابق ، ص333 .
[6] سورة يوسف الآية (72) .
[7] محمد تقية ، الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام ، مرجع سابق ، ص28
[8] بلحاج العربي ، النظرية العامة للالتزام ، مرجع سابق ، ص336 .
[9] فتحي عبد الرحيم عبد الله ، شرح النظرية العامة للالتزام ، مرجع سابق ، ص359 .
اترك تعليقاً