إرادة المحكم والنظام العام في التحكيم التجاري الدولي
إذا كانت إرادة الأطراف المتدخلة في العملية التحكيمية تنال نصيب القطب من الرحى بخصوص تحديد القانون الواجب التطبيق، وحتى بخصوص باقي المسائل المتعلقة بالمنازعات الخاصة الدولية كما مر معنا من خلال ماسبق إبرازه خلال الفصل الأول من هذا البحث، فإنه هناك إرادة أخرى تلعب دورا لايمكن إغفاله أو عدم المبالاة إليه، والمتجسد بشكل جلي في الشخص الأول أو الأشخاص الذين يفصلون في الخصومة التحكيمية، ويتولون زمام الفصل فيها وتدبير سيرها مند الفترة التي تعرض عليهم إلى حين الفصل النهائي فيها، فإرادة المحكمين هنا تأتي لتكمل أو لتسد النقص الذي يمكن أن يعتري إرادة الأطراف المتدخلة في العملية التحكيمية، بما لهؤلاء الأشخاص من خبرة وحنكة في سد هذا النقص حتى يتسنى للعملية التحكيمية برمتها أن تسير إلى بر الأمان الأمر الذي نخصص له (المطلب الأول) لكن هاته السلطة التقديرية المخولة للجهاز الذي يسهر على العملية التحكيمية، وكذا إرادة هؤلاء الأطراف السابق التحدت عنها، باعتبار أن التحكيم التجاري الدولي قد عرف إتجاها نحو المرونة والتغيير والتبديل إن من حيث الزمان أو المكان ،
بفعل التطورات الحاصلة في مختلف الميادين، الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية، بحيث كان لهذا التطور تأثيره على التحكيم كما سنرى وكذلك على حدوده التي تتجسد في قيد النظام العام، بمفاهيمه المتنوعة في إطار التحكيم التجاري ، ذلك أنه يميز اليوم بين أربعة مفاهيم من النظام العام هي: النظام العام الداخلي[1] ونطاقه العلاقات الخاصة الداخلية، وكذا النظام العام بمفهوم القانون الدولي الخاص وهو النظام العام التقليدي الناتج عن استعمال قواعد الإسناد وسيطرتها لمدة غير يسيرة من الزمان[2]، وكذا النظام العام بمفهوم قواعد البوليس وقواعد التطبيق الضروري حيت ان هناك من الفقه المغربي ـ الدكتور محمد تكمنت ـ يذهب إلى أن هناك فرقا بين قواعد البوليس والقواعد ذات التطبيق الضروري وهو الأمر الذي نسير معه في نفس الاتجاه
حيث أن قواعد البوليس هي قواعد تطبق بصفة حمائية لغاية حماية طرف معين مثلا الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية بينما القواعد ذات التطبيق الضروري فهي قواعد واجبة الإعمال كيفما كانت طبيعة العلاقة وبصرف النظر عن وجدود طرف ضعيف من عدمه ونؤيد طرحنا هدا بنص المادة الثانية من مدونة الأسرة المغربية والتي تنص على أنه
” تسري أحكام هده المدونة على 1 ـ جميع المغاربة ولو كانوا حاملين لجنسية أخرى 2ـ اللاجئين بمن فيهم عديمو الجنسية …. 3 ـ العلاقات التي يكون فيها أحد الطرفين مغربيا 4 ـ العلاقات التي تكون بين مغربيين أحدهما مسلم ..”
وهاته الأنواع الثلاثة تكون بذلك ذات طبيعة وطنية محضة ، باعتبارها موجهة أصلا لحماية مصالح مجتمع معين في دولة معينة، أو لتوجيه السلوك في هذا المجتمع بغية تحقيق أهداف يسعى المشرع إلى تحقيقها، وهده الأنواع الثلاثة يمكن إدراجها تحت عنوان النظام العام الحمائي أو التوجيهي[4] يقصد بالنظام العام التوجيهي ، دلك النوع من النظام العام الذي يتعلق بالأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي يقوم عليها مجتمع معين ، ويضهر تدخل الدولة لجهة التنظيم المباشر لبعض النشاطات ، وبالتالي فإنه لايتوخى حماية فئة من الأشخاص ، فهو يستهدف فرض مفهوم معين للمصلحة العامة بحيث يتوجب على الأفراد ألا يعمدوا الى مخالفة ـ التوجيه ـ الذي تنطوي عليه أحكام القوانين التي يمكن إضفاء هده الصفة عليها ، والنظام العام التوجيهي لايستهدف منع العقود وحضرها بقدر استهدافه تنظيمها عن طريق منع شروط معينة او فرض شروط وإجراءات محددة ، وبدلك يتفق النظام العام الحمائي الذي يستهدف حماية بعض الفئات من المتعاقدين ،
الدين يكونون في حاجة الى هاته الحماية الخاصة إما بسبب وضعهم أو مركزهم الاقتصادي كالعمال والمستهلكين ، أو بسبب وضعهم الشخصي كالقاصرين ومن في حكمهم فالنظام العام الحمائي لايقوم بأي دور سوى تأمين حد معين من الحماية لصالح الفريق المحمي . وأخيرا النوع الرابع في إطار العلاقات الخاصة الدولية فقط وهو الذي يعنينا في هذا المجال من الدراسة ، ويتمثل في النظام العام العبر دولي حسبما اصطلح عليه الفقه الحديث[5] باعتباره يستهدف حماية مصالح المجتمع الدولي،
وأحيانا أخرى مصالح مجتمع التجارة الدولية ، ذلك أن أهمية تحديد هذا النظام العام العبر دولي صحبة التغير والتبدل في المفاهيم القيمية الأخذة بالتطور والنمو، في ميدان العلاقات العامة والخاصة الدولية بصورة موازية مع ظاهرة العولمة بمختلف أشكالها وجوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتي سيكون لها تأثير كبير على النواحي القانونية المنظمة لهذه النشاطات ، إلى درجة تدفع إلى التساؤل في إطار هده العلاقات، عن مدى وجود عولمة للقانون[6] في إطار هذه العلاقات أو حتى الكلام عن قانون العولمة باعتبار أن التأثير القسري أو الطوعي قد ظهر بفعل الحاجة أو الضغط السياسي أو الاقتصادي مع نشوء المنشئات والمؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية،
كمنتدى دافوس الاقتصادي ومنظمة التجارة الدولية التي حلت محل اتفاقية الكات GATT، وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وتعد هده المؤسسات من أهم أدوات العولمة الاقتصادية التي فرضت أو ستفرض طوعا او قسرا تغيرات بنيوية اقتصادية واجتماعية وحتى قانونية في نطاق التشريعات الداخلية تطبيق للاتفاقيات الدولية المعقودة في هدا الخصوص، أو حتى إدخالا للاتفاقيات في القانون الداخلي مباشرة، وهو الأمر الذي يسمح بالقول باعتبار أن التحكيم الدولي وبعض القواعد المطبقة في إطاره قواعد عبر دولية LEX MERCATORIA ذات طابع عولمي، وكذلك الأمر بشأن الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان أو مكافحة الرشوة على صعيد العلاقات الدولية و كما انه يصح القول وفقا لهذا المنطق، اعتبار مكافحة الإرهاب مع تحفظنا على المصطلح بعد أحدات 11 سبتمبر 2001 بموجب قرارات الأمم المتحدة، وخصوصا القرار 1373 وما فرضه على جميع الدول من وجوب اتخاذ إجراءات معينة كشكل من أشكال العولمة القانونية القسرية المجسدة لقواعد نظام عام عبر دولي جديد [7] .
[1] أي مجموعة القواعد الأمرة التي لايمكن للأطراف المتعاقد في المجال الداخلي الاتفاق على مخالفتها التعريف وارد بكتاب الاستاد تكمنت محمد السابق الإشارة إليه ص 120 ومايليها
[2] حيت يقصد بالنظام العام في القانون الدولي الخاص دلك الدفع الذي يراد من خلاله استبعاد القانون الواجب التطبيق بخصوص علاقة قانونية ذات عنصر أجنبي وإحلال القانون الوطني محل القانون الأجنبي لتعارض هدا الأخير مع المبادئ الأساسية المعمول بها في النظام القانوني لدولة القاضي الذي عرض عليه النزاع باعتبار أن فكرة النظام العام هي بمثابة درع يحمي الأسس الجوهرية في المجتمع
ويرجع الفضل في ظهور هده الفكرة إلى الفقيه ـ سافيني ـ الذي يرى أن قواعد الإسناد يجب أن يعمل بها في النطاق الذي يسمح به التلاؤم والتوافق القانوني بين الدول
للمزيد من التوسع يرجى الرجوع إلى كتاب الاستاد تكمنت السابق الإشارة إليه ص 119 ومايليها .
وكذلك كتاب الاستاد احمد عبد الكريم سلامة علم قاعدة التنازع السابق الإشارة إليه ص 590 ومايليها .
[3] حيت ان هناك من الفقه المغربي ـ الدكتور محمد تكمنت ـ يذهب إلى أن هناك فرقا بين قواعد البوليس والقواعد ذات التطبيق الضروري وهو الأمر الذي نسير معه في نفس الاتجاه
حيث أن قواعد البوليس هي قواعد تطبق بصفة حمائية لغاية حماية طرف معين مثلا الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية بينما القواعد ذات التطبيق الضروري فهي قواعد واجبة الإعمال كيفما كانت طبيعة العلاقة وبصرف النظر عن وجدود طرف ضعيف من عدمه ونؤيد طرحنا هدا بنص المادة الثانية من مدونة الأسرة المغربية والتي تنص على أنه
” تسري أحكام هده المدونة على 1 ـ جميع المغاربة ولو كانوا حاملين لجنسية أخرى 2ـ اللاجئين بمن فيهم عديمو الجنسية …. 3 ـ العلاقات التي يكون فيها أحد الطرفين مغربيا 4 ـ العلاقات التي تكون بين مغربيين أحدهما مسلم ..”
بينما هناك اتجاها ثانيا من الفقه المصري لايفرق بينهما البتة ويعتبر أن قواعد البوليس وقواعد التطبيق الضروري هما مرادفان لبعضهما البعض ويؤديان نفس الهدف الحمائي المتجسد في حماية العاقد الضعيف ومن هذا الفقه الأستاذ أحمد عبد الكريم سلامة .
[4] للمزيد من التوسع يرجى الرجوع إلى كتاب إياد بردان السابق الإشارة إليه ص 606 ومايليها .
[5] رغم الاختلاف حول تسميات النظام العام العبر دولي من طرف الفقه المهتم بالتجارة الدولية إلا أن هناك قرارين على حد علمنا ذكرا مصطلح النظام العام العبر دولي صراحة في متن الحلول التي قرراها دون أن يعمدا إلى تعريف هدا الأخير والصادرين على التوالي في سنتي 1979 و1982
Sentence rendue dans l’affaire no 3267 en 1979 (clunet) 1980 obs. Y – Derains
Dans le même sens la sentence rendue dans l’affaire no 3730 en 1982 (clunet) 1984 p 914 est s obs. Y– Derains
حيث أشار المحكمون الى وجوب عدم خرق مبدأ نظام عام مقبول بصورة مشتركة
وكذلك الأمر بالنسبة للقرار حديت نسبيا صادر سنة 1990
Sentence rendue dans l’affaire no 6503 en 1990 (clunet) 1995 p 1022
حيث عمد المحكمون بصدد نزاع بين شركة اسبانية وأخرى فرنسية وأثيرت فيه مسالة تطبيق قانون المنافسة في الاتحاد الأوروبي، إلى اعتبار أن قواعد هدا الأخير لاتشكل جزءا من قواعد النظام العام العبر دولي.
[6] عبد الهادي بوطالب، نحو عولمة أخرى أكتر عدلا وإنسانية ص 55 ومايليها
[7]لدراسة ونقد هدا القرار الصادر عن الأمم المتحدة رقم 1373 يمكن الرجوع إلى كتاب الأستاذ عبد الواحد الناصر مدخل لدراسة القانون الدولي العام الجزء الأول 2005 دون ذكر دار النشر ص131 ومايليها .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً