دور القضاة
عندما يحيل القاضي قضية للمحاكمة أمام هيئة محلفين، تكون مهمته هي تنظيم، وتسهيل والإشراف على عملية سوف تعطي حصيلة تستند إلى تقييم عادل وغير متحيز للإثباتات المُقدّمة في القضية. يلعب المحامي الذي يمثل كل طرف في القضية دوراً مُكملاً في انتقاء المحلفين الذين يتوجب عليهم أن يعملوا بدون انحياز أو تحامل عند أداء مهمتهم. لكن القاضي هو الذي يكون مسؤولاً عن تأمين نزاهة الإجراءات من خلال التحقق أن المحامين يؤدون وظيفتهم بصورة صحيحة ضمن حدود مهمتهم.
يحكم القاضي على المسائل قبل وخلال المحاكمة بحيث يسمح أو لا يسمح للمحلفين بأخذ الإثباتات المُقدمة من قبل المحامين في عين الاعتبار. في هذا السياق، يعطي القاضي أعضاء هيئة المحلفين تعليمات في بداية المحاكمة، وخلالها وعند انتهائها لتوجيههم في عملية التدقيق العادل للشهادات والوثائق وغير ذلك من الإثباتات المقدمة في القضية لأخذها بعين الاعتبار خلال المحاكمة. يحثّ القاضي، بما يقوم به، هيئة المحلفين على أن تأخذ في عين الاعتبار القضايا بصورة حيادية بينما تنتظر اكتمال المحاكمة.
أقول للمحلفين في بداية كل محاكمة إن الحرية التي نتمتع بها للقفز إلى الاستنتاجات في الحياة اليومية يجب ان نتخلى عنها من أجل هذه المحاكمة. بدلاً من ذلك، يجب على المحلفين ان يعتبروا أنفسهم “قضاة منتدبين” أقسموا اليمين لتحقيق العدالة مثلي. هذه الصورة العالية التي أعطيها عن نفسي تساعد المحلفين على فهم الأهمية الرصينة لمهمتهم.
خلال ما يزيد عن 28 سنة كقاضٍ، أنشأت ثقة كبيرة في أوساط هيئات المحلفين. يصدر المحلفون دائماً تقريباً أحكاما أوافق عليها. تعلّمت بأن المحلفين، بغض النظر عن مدى ترددهم في الاشتراك في عملية المحاكمة عندما تمّ اختيارهم في بادئ الأمر، يصبحون منغمسين بعمق ومكرسين لمهمة التقييم العادل للإثباتات.
فمثلاً في القضايا الجنائية، يلتزم المحلفون بمبدأ أن المتهم يبقى بريئا إلى أن يثبت العكس بطريقة لا تقبل الشك. بالإضافة إلى ذلك، وبموجب القانون، والدستور الأميركي وتعليمات القاضي، فإن مسؤولية إثبات الذنب تقع حصرياً على الحكومة. يفهمون انه لا يطلب أبداً من المتهم أن يثبت براءته. وافق محلفون سابقون على التحدث مع محامين يتابعون مقرراً أكاديمياً أدرسه حول هيئة المحلفين الاميركيين. في أحيان كثيرة، يشرح هؤلاء المحلفون إلى طلاب الصف بأنهم كانوا يعتقدون بأن الشخص المتهم ارتكب الجريمة ولكنهم مع ذلك صوتوا لتبرئته لأن الإثباتات التي قدمتها الحكومة لم ترق إلى تأكيد الوقائع بطريقة لا تقبل الشك.
البقاء على الحياد
مهمة البقاء على الحياد إلى ان يكتمل عرض الأدلة الثبوتية تكون في أحيان كثيرة صعبة أيضاً بالنسبة للقاضي. ففي قضية نظرت فيها قبل عدة سنوات، اتهمت الحكومة رجلاً بارتكاب عدة جرائم تمثّلت بممارسة أعمال مشينة مع العديد من الأولاد في سن الرابعة عشرة. كانت الادعاءات فظيعة خاصة لأن المتهم كان مصاباً بفيروس نقص المناعة المكتسب/الأيدز ولكنه لم يستعمل واقيا ذكريا خلال العلاقة الجنسية مع هؤلاء الأولاد.
خلال الجلسات التي أجريت قبل المحاكمة، قررت أنه لا يمكن استعمال بعض الإثباتات التجريمية من قِبَل الادعاء العام نظراً لأن الشرطة انتهكت الحقوق الدستورية للمتهم خلال الإجراءات التي قادت إلى إلقاء القبض عليه. هذا القرار أضعف موقف الحكومة ولكن الإثباتات الباقية كانت قوية وكافية لإدانة المتهم بمعظم الاتهامات الموجهة إليه.
تتطلب عملية اختيار أعضاء هيئة المحلفين طرح الأسئلة بهدف تحديد المحلفين المحتملين الذين لا يستطيعون تقييم الإثباتات بطريقة حيادية وغير منحازة. ذكر عدة محلفين خلال اليمين الذي يؤديه طرح الأسئلة عليهم قبل المحاكمة أن موضوع التهم لوحده كان كافياً ليؤثر على تفكيرهم حول القضية وحول براءة المدعى عليه. أشاروا بصراحة إلى أنهم قد لا يستطيعون الافتراض بأن المدعى عليه بريء. رفض محلفون محتملون الانضمام إلى هيئة المحلفين لأن أفراد عائلاتهم أو أصدقاءهم قد تعرضوا لنوع ما من التعدي الجنسي على الأطفال. وشعر آخرون بأن الشهادة المتوقع تقديمها خلال المحاكمة قد تمس شعورهم بدرجة تمنعهم من البقاء موضوعيين عند تقييم قضية المدعى عليه.
استمرت عملية اختيار أعضاء هيئة المحلفين عدة أيام واستغرقت المحاكمة شهرين لتقديم الأدلة الثبوتية وأسبوعين آخرين من المداولات بين المحلفين قبل ان يصلوا إلى قرارات إدانة المتهم في معظم الادعاءات. لكن لم يصدر المحلفون قرارات إدانة بالنسبة لجميع الادعاءات. عندما راجعت شخصياً الإثباتات المتعلقة بالادعاءات التي تمّّ تبرئتها، أصبح واضحاً لي أن هيئة المحلفين قامت بمهمتها بصورة جيدة، لأنه بالفعل كان ينقص هذه الادعاءات نوعية الإثبات المطلوب للإدانة.
العلاقة التي تتطور في أحيان كثيرة بين هيئة المحلفين والقاضي الذي ينظر في القضية هي علاقة ثقة. يثق المحلفون بالقاضي لكي يعطيهم ما هو مطلوب بموجب القانون ووفق توجيهاته الخاصة لتقييم القضية بصورة عادلة. يعهد القاضي إلى هيئة المحلفين بالمسؤولية النهائية في إقامة العدالة. عندما أعود إلى الوراء إلى سنوات خدمتي على منصة القضاء، أجد أن ما يزيد عن 95 بالمئة من القضايا التي تمت محاكمتها أمامي بواسطة هيئة محلفين، أصدرت هيئة المحلفين قرارات مدعومة بأدلة ثبوتية.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً