بحث قانوني مميز عن إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية
مما لا شك فيه، أن القرارات في القطاع العام ، تتعارض في كثير من الأحيان مع الاعتبارات الإنتاجية ، مما جعل مسار التنمية يواجه العديد من التعثرات أبانت عن نقصان معدل النمو، وبهذا أصبح من الضروري أن يتوجه التفكير العام للاقتصاديات الدول النامية ، إلى تراجع دور الدولة كمحرك مركزي وقائد للتنمية و تزايد وتطور وثيرة تدخل القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي . إن المسألة التنموية ،هي رهان كل الشعوب والمجتمعات والجماعات داخل الدول ، وعمودها الفقري الذي لا يقاس فقط بضرورة توفر الأموال أو العنصر البشري المؤهل إداريا وتقنيا ، وإنما التنمية هي نسق من العلاقات المتداخلة اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وبشريا وثقافيا ، بهدف الرفع من المستوى المعيشي لأي مجموعة بشرية إلى مستوى أرقى وفق إستراتيجية تشاركية هي بدون شك مقاربة تنموية فاعلة ، ومن ثم تعد المؤسسة الملكية أهم فاعل في بلورة المقاربة التشاركية ،كرست دستورا متقدما[1]، مشجعا على الليبرالية واقتصاد السوق الذي يضمن الحق في ممارستها ،كحق الملكية وحرية المبادرة والمقاولة والتنافس الحر[2].
ومن هذا المنطلق أصبح لموضوع “إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية” ، مكانا هاما من البحث في الوقت الراهن بالنسبة للمغرب ،وذلك نتيجة عدم قدرة القطاع العام في تحقيق الأهداف المرجوة منه، مقارنة بما يتوفر عليه من إمكانيات سخرت لأجله . فعملية تحقيق التنمية الوطنية و المحلية بالخصوص ، لا تقتصر على مشاركة الجهات والقوى الرسمية ( الملك ،حكومة ، البرلمان) بل هناك قوى غير رسمية ، تعتبر شريكا أساسيا لتحقيق هذه النهضة التنموية كالقطاع الخاص الذي يحظي بمكانة هامة باعتباره فاعلا غير رسمي وآلية تكميلية لتحقيق التنمية المحلية ، فتحقيقها لا يتحقق إلا بتكامل الأدوار بين الدولة بمختلف أجهزتها والقطاع الخاص [3] .
ومن ثمة ، فلا يمكن تحقيق المطلوب من لاشي لذلك كان التفكير في البحث ودراسة ومعالجة موضوع :”إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية” . وهذا راجع لكون القرار الاقتصادي المحلي لم يعد وليد المقاربة الانفرادية في تدبير الشأن العام المحلي، فمعالجة هذا الموضوع ، تقتضي النظر إلى محتوى العنوان وتفكيك عناصره ، حتى يتسنى لي ، أن أكتب في الموضوع ، وفي كل الموضوع، ولاشئ غير الموضوع[4] ، وذلك من خلال عملية التحديد المفاهيمي لمصطلحات عنوان الموضوع ،” فإشراك” هي مصدر للإصطلاح “أشرك” بمعنى أشركه في مشروعه أي جعله شريكا[5] ، ويتضح أن المشاركة تختلف عن الإشراك وعن التشارك ، حيث أنه إذا كانت المشاركة “la participation ” هي دعوة بعض الأشخاص، والأطراف إلى الإنصات لما يقال ، دون أن يعني ذلك أن لأرائهم أي شكل من أشكال الإلزام مع من يقومون بسؤالهم ومشورتهم [6]، مما يجعل تعريف التشارك أرقى درجة من إصطلاح المشاركة . فالتشارك يفسر وجود طرفين متساويين يتشاركون للأجل إنجاز برنامج أو مشروع يعود بالنفع عليهم .
أما مصطلح ” القطاع الخاص” فيشير مفهومه ،إلى ذلك القطاع من الاقتصاد الوطني الذي يقوم على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتجري فيه عملية تخصيص المواد الإنتاجية طبقا لما تمليه قوة السوق التلقائية وليس إرادة السلطات الحكومية العامة[7]، أي أن القطاع الخاص يشتمل على المؤسسات التي يحدثها الأفراد المستثمرون بغية تحقيق الأرباح . وبشكل عام يعرف بأنه ” ذلك الجزء من الاقتصاد الغير خاضع لسيطرة الحكومة، ويدار وفقا لاعتبارات الربحية المالية “[8]، وبالتالي فالقطاع الخاص له دور هام في تحقيق” التنمية “، التي لم يتفق على تعريف موحد لها وهذا راجع لكثرة التعاريف وتنوعها وتباين عباراتها ومدلولاتها . إلا أنه وفي جميع الأحوال ، فالتنمية حسب المعاجم العربية تشير على أن (التنمية) في اللغة تعني الزيادة في كم الأشياء وكيفها ونوعيتها[9] ، وقد عرفتها منظمة الأمم المتحدة على أنها استخدام عام للوسائل و إتباع الطرق و تعبئة المجهودات العامة و الخاصة بغية التوصل إلى رفع المستويات المادية والمعنوية للمجتمعات المحلية و القومية و جعلها تشارك بفعالية في تنمية أوطانها، وهو ما يركز عليه المهتمين ” للتنمية” كالفقيه “brundtland ” الذي لم يحدد هو كذلك معنى لكلمة التنمية ،لكنه قال ببساطة: التنمية، هي ما نسعى جميعا إليه لتحسين مصيرنا[10].
فالتنمية إذن هي عملية تغيير شاملة وهادفة، تحركها وتديرها آليات منضبطة تنسق بين خطواتها وترسم مراحلها ، فهي سلسلة من المقاربات بدون توفرها يكون العمل التنموي غير ذي جدوى، وعلى سبيل المثال: المقاربة التشاركية ، مقاربة النوع الاجتماعي، المقاربة البيئية، ثم المقاربة المجالية الترابية، التي هي أساس تحقيق التنمية المحلية وبلوغ مقاصد التنمية الوطنية. فهناك علاقة ترابط وثيق بين المستوى المحلي والتنمية، التي يقصد بها حسب ” Bernard pacquer” أن التنمية المحلية هي الملاحظة والتطبيق بإتباع وسيلة ممنهجة يمكن أن تضيف إستراتيجية لتعبئة كل الموارد والفاعلين في التراب[11]، حيث أنها إستراتيجية مندمجة لإغناء الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية على تراب محلي معين وذلك من خلال تعبئة وتنسيق الموارد المحلية بهدف تحسين الظروف المعيشية للسكان القاطنين في هذا المجال الترابي ، فهي إذن نسق من الإجراءات المتخذة على المدى البعيد تهدف إلى تحويل البنيات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية للمستوى المحلي. ومن هذا المنطلق فالتنمية المحلية هي ليست إلا جزء من الكل ألا وهو تحقيق التنمية الوطنية والمندمجة التي تتمحور في بلورة. مشروع تنموي متكامل ومتداخل في أبعاده وأهدافه يرتكز على الرؤية الشمولية والمستقبلية للمعطيات الكمية والنوعية التي يتميز بها الجانب الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لإقليم الدولة[12].
فظاهرة “المحلي” أو “الترابي” أصبحت رهانا أساسيا لتكريس الاختيارات الوطنية[13]. ولهذا الغرض تحدث الدولة داخل حدودها وحدات ترابية تمنحها الشخصية المعنوية والاستقلال المالي، فتستطيع بذلك هذه الوحدات انتخاب مجالس محلية لتدبير شؤون الساكنة. تحت وصاية الدولة ضمانا لاحترام القانون، وتسمى هذه الوحدات الترابية بالجماعات المحلية أو الجماعات الترابية، حيث أن الدساتير المغربية لسنة 1992 و1996 استعملت المصطلح الأول، أما دستور 2011 [14]، فقد أخذ بالمصطلح الثاني، الذي عرف نوعا من التأويلات الفقهية في شأنه ، و بطبيعة الحال عند النظر في المستجدات، فإننا ننظر لها كما ننظر للأغراس و هي تنمو ، حيث يتضح لنا من خلال محاورة المعرفة أن الدولة هي أيضا جماعة ترابية ، و تحتوي على جماعات ترابية أخرى فرعية و تتفاعل من خلالها عدة هويات لها امتدادات على مستوى القانون[15]، فالدولة من هذا المنطلق هي الجماعة الترابية الأم، بينما الجماعات الترابية الأخرى(الجهة والعمالات والإقليم والجماعات) تعد جماعات ترابية ثانوية ، فوجود الجماعات الترابية الفرعية وليس الأصلية، لا ينكر الاعتراف ،بأن وجود الجماعات الترابية الثانوية سابق عن وجود الجماعة الترابية الرئيسية (الدولة) فبعد أن تشكلت الدولة بمفهومها الحديث ،سلبت هذه الجماعات كل ما لديها من اختصاصات كانت تسير بها أمورها، وأصبحت هي من تكسبها هذه الاختصاصات. فقد اكتسبت الجماعات الترابية الشخصية المعنوية وقاعدة إقليمية وأخضعت للوصاية كما تم تمكينها من اختصاصات ذاتية وأخرى منقولة واستشارية[16]، وهناك رأي أخر متمثل في الاجتهاد القضائي الفرنسي الذي اعتبرهما مرادفين لنفس المعنى وذلك في قرار أصدره سنة 1993[17]. إلا أننا سنسير في نفس الخطى التي سار عليها الدستور المغربي الحالي بالاعتماد على مصطلح “الجماعات الترابية” عوض “الجماعات المحلية.
فالتوجه الذي يسير في اتجاهه المغرب ،بإقرار نظام دستوري جديد للجماعات الترابية [18]، لا يعد اكتشافا حديثا، فهذه الوحدات الترابية كانت متواجدة في المغرب وكان تسيير شؤونها وفق تقاليد وأعراف نظام “اجماعة” ، وبعد حصول المغرب على الاستقلال انتقل التنظيم اللامركزي الترابي إلى مرحلة جديدة تتميز بانتخاب المجالس في الجماعات الحضرية والقروية، التي يمنحها القانون الشخصية المعنوية والاستقلال المالي، حيث صدر ظهير 23 يونيو 1960 المتعلق بنظام الجماعات [19]. فظهير 12 شتنبر 1963 المنظم للعمالات والأقاليم ومجالسها [20] ، ثم توالت بعد ذلك مجموعة من النصوص القانونية المتعلقة بالجماعات الترابية من حيث اختصاصاتها وتنظيمها الإداري والمالي، والتي عرفت عدة تعديلات، كان آخرها تعديل قوانين الجبايات المحلية [21] ، المالية المحلية [22]، الميثاق الجماعي[23] ، انتخاب أعضاء المجالس الترابية[24] (لأول مرة يصدر قانون تنظيمي خاص بانتخاب أعضاء المجالس الترابية، إذ كانت طريقة انتخابهم سابقا تحدد وفق قانون عادي يتعلق بمدونة الانتخابات ).
وبالنسبة للدساتير المغربية لسنوات 1962 و 1970 و 1972 فقد كانت تخصص ثلاثة فصول للإشارة إلى الجماعات الترابية التي كانت تتكون آنذاك من وحدتين ترابيتين: العمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية، وبصدور دستور 1992 أضيفت الجهة ، إلى باقي أصناف الجماعات الترابية ليتم التأكيد عليها كذلك في دستور 1996، وبعد التجربة التي راكمها المغرب في مجال التنظيم اللامركزي، ارتأت الدولة إعطاء مكانة متميزة للجهة على باقي الجماعات الترابية الأخرى من خلال التنصيص على الجهوية المتقدمة في أول فصل من الدستور الجديد، إذ جاء في الفقرة الأخيرة من هذا الفصل: ” التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة ” حيث تعتبر وسيلة لتحديث وإعادة هيكلة التنظيم الإداري للدولة وتوزيع الصلاحيات بين الإدارة المركزية والإدارة المحلية، على اعتبار أن الاختصاصات المرتبطة بمواضيع التنمية ستمارس بشكل أساسي داخل الجهة، مع الاحتفاظ بالعمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية في التنظيم اللامركزي الترابي لدستور 2011.
فالجماعات الترابية ، ونتيجة لضعف مردودية أدائها وقلة مواردها البشرية والمالية، أصبحت تلتجئ إلى أن يكون هناك تشارك مع القطاع الخاص لأجل توفير جو ملائم لتحقيق التنمية المحلية انطلاقا من ما تتوفر عليه من اختصاصات منحها إليها المشرع في القوانين الجماعية.
ومن هنا تكمن أهمية الموضوع ، في كون أن “إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية” هو راجع لعدة أسباب اقتصادية و اجتماعية و سياسية ، لأن الجماعات الترابية لم تعد قادرة على تحقيق التنمية على المستوى الترابي، بسبب افتقادها لمجموعة من المؤهلات، وهذا ما أدى إلى تراجع مسلسل تدبير الشأن العام المحلي، فهذا الضعف ألزم الدولة إشراك القطاع الخاص[25]، هذا التعويض لم يكن تعبيرا عن نهج لمنافسة تجعل الاقتصاد برمته ذو بعد اشتراكي، لكن ضرورة لإقامة نظام لإحياء القطاع الخاص و المجتمع الليبرالي[26] ، في ظل ما يعرفه المسلسل التدبيري من تطور كبير من أجل إنجاح المشروع التنموي المحلي
فلا يزال دور الدولة قائما إلى جانب الجماعات الترابية في توفير بيئة ملائمة لتوطيد استثمارات القطاع الخاص على المستوى المحلي ، لأن تحقيق التنمية المحلية هي معادلة صعبة تجمع الأطراف الثلاث: الدولة والجماعات الترابية والقطاع الخاص . ومن ثمة فإدراك صعوبة هذه المعادلة قاد الدولة والجماعات الترابية إلى سن إستراتيجية شاملة يتمازج فيها الطرح الماكر واقتصادي مع الميكرو اقتصادي، وتوفير المناخ الملائم لإشراك القطاع الخاص نظرا لما يزخر به من مؤهلات وقدرات تجعله قادرا على تحمل مسؤولية تدبير الشأن المحلي، فالهم الوحيد لأطراف المعادلة التنموية من دولة وجماعات ترابية هو إغراء المستثمرين الخواص، من خلال تهيئة الظروف و تنقية الأجواء من بنيات تحتية أساسية و تنازلات وإعفاءات ضريبية، حيث “إن الجماعات المحلية مطالبة اليوم من أي وقت مضى بضرورة الأخذ بمبادئ المقاربة التشاركية الهادفة إلى جعل التدبير المحلي نتاج إرادة تشاركية تنخرط فيها الجماعات المحلية ، المنتخب، الساكنة المحلية والخواص “[27]، يكون الهدف منها هو إدماج المغرب في الاقتصاد الدولي و تخفيف مستوى البطالة وتحقيق التنمية المستدامة.
وبناءا على هذه المعطيات فإن الإشكالية الرئيسية التي يدور حولها الموضوع والتي سأحاول الإجابة عنها هي هل نجحت الدولة والجماعات الترابية من خلال سياستها الإنفتاحية على القطاع الخاص في بلورة آلية مكملة للتنمية المحلية ؟
1- القدرات المميزة للقطاع الخاص
لقد أضحت مشاركة القطاع الخاص لازمة وضرورية، باعتباره المورد الرئيسي أمام الإخفاق الذي حل بإستراتيجية التنمية المحلية المعتمدة على الدولة في التمويل[28]، وكذلك بالنسبة للجماعات الترابية هي نفسها التي لم تعد قادرة على تحقيق التنمية المحلية، نظرا لافتقادها لمجموعة من المؤهلات التدبيرية المقاولاتية التي أبانت أن تدبير الشأن العام المحلي يعرف تراجعا، فكان بذلك التفكير نحو الاعتماد على مقاربة تنموية ترتكز على تنامي إشراك القطاع الخاص للاستفادة من القدرات والطاقات التي يختزنها هذا القطاع[29] .
أولا : القوة المالية للقطاع الخاص
لا أحدا يجادل على كون الوسيلة الفعالة لنجاح القطاع الخاص، هو طريقته التخطيطية التي يرتكز عليها، قبل صرفه للأموال التي ستكون محط استثمارات خاصة، حيث يقوم بدراسة شاملة لماله وما عليه (الفقرة الأولى)، ووضع خطة عمل تتسم بالحكامة في صرف الأموال وتقييم الأعمال بواسطة أجهزته الرقابية الداخلية (الفقرة الثانية) التي تقوم دائما بدور الرقابة المصاحبة وربط علاقة بين ما ثم صرفه وما ثم تحقيقه.
الفقرة الأولى : وضع تخطيط أولي لصرف الأموال
إن من سمات تمييز القطاع الخاص عن القطاع العام (الجماعات الترابية) هو نظرته المستقبلية للوصول للأهداف وتحقيقها، لأن هذا يعد يقينا واضحا ومترسخا لدى أغلب المستثمرين الخواص، ألا وهو العمل وفق التحديد الدقيق. فمن القرارات المالية الهامة، ذلك القرار المرتبط بتحديد القيمة المطلوبة للاستثمارات المالية الإجمالية والتي تتحدد بدقة من خلال نتائج الدراسة الفنية للمشروع[30].
فأهمية تطور القطاع الخاص، تبرز في النقط التالية :
دارسة المشروع:
مما لا شك فيه أن العقل المدبر للقطاع الخاص هو دائما يبحث عن وسيلة لحساب تكلفة تمويل مشاريعه من أجل تقييم المشروعات الإستثمارية الجديدة وتحديد قيمتها السوقية[31]. وبالتالي فعملية المشاركة في وضع السياسات العامة المحلية، والمساهمة بدور إيجابي فيها، تتطلب بعد النظر، حتى لا يتم حدوث أي مخاطرة بتلك الأموال التي هي محط استثمارات خاصة، هذا وبغية تدبير شؤون المقاولات الخاصة فإنه يتم تفادي، توقع اختلافات في العائد بين المخطط والمطلوب والمتوقع حدوثه[32]، في المستقبل بحيث تختلف النواتج المرغوب في تحقيقها عما هو متوقع[33].
فاستخدام التخطيط لدى القطاع الخاص ، ليس إلا عاملا من عوامل ضمان نمو القطاع وبقائه في ميدان المنافسة، وهذا ما يؤكده الفرق الحاصل بين المشروعات الخاصة والمشروعات العامة، في كيفية التدبير المالي لكل منهما. فالأساليب القديمة في تسيير المرافق العامة أصبحت تعرف عجزا في التمويل[34]، لأنه ليس هناك أية نظرة شمولية في تدبير المال المحلي، وفق برامج اقتصادية تخدم المصلحة العامة وتحقق التنمية المحلية ، وهذا راجع لعدم وجود أية مقتضيات حقيقية و واضحة تتعلق بالبرمجة المالية وفق قواعد التخطيط الإستراتيجي[35]. فواقع التدبير المالي للمقاولات العامة أبان عن ضعف مردودية أداء هذه المقاولات في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك لعدم المرونة وسرعة الاستجابة التي يجب أن تعكس أهداف متسقة ودقيقة[36].
لذا، فمنطق تحقيق الربح والدفع بمسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية يقتضي الاعتماد على مضامين ثقافية ينتجها البناء الاجتماعي القائم في المؤسسة[37]، فالمقاربة النسقية تنطلق مع تصور للمؤسسة على أنها نسق كلي يضم أربعة أنساق فرعية وهي نسق الأهداف والاستراتيجيات، نسق الهيكل التنظيمي والبنية التنظيمية، نسق التقنيات والوسائل التكنولوجية وأخيرا النسق الثقافي[38]. فثقافة المقاولة الخاصة، دائما هي في تطور مع تطور التقلبات الاقتصادية سواء المحلية أو الوطنية، فكل متغير جديد، يغير من أسلوب وتقنية تدبير المنظومة المالية للمقاولة الخاصة، إن الثقافة بهذا المعنى هي اللمحة التي تجمع التنظيم والأساس الحيوي لديناميته، وموردا جديدا للتنافسية[39].
إن التدبير الإستراتيجي هو ليس إلا عملية متجذرة، يتوخى منها قياس مدى تحقيق الأهداف المتوخاة بالنسبة لبرامج محددة سلفا، فأمام هذه المعادلة الصعبة المتمثلة في تقليص المداخيل وارتفاع حاجيات الساكنة الترابية، والتي ترجمتها المقاربة الكلاسيكية في التدبير المالي للجماعات الترابية، التي لم تكن على أسس اقتصادية هادفة ،تطور مسار الإدارة اللامركزية الترابية، وهذا راجع بالأساس بإلزامها، إلى تطبيق وإتباع ما يتم تخطيطه على المستوى المركزي، فالسلطة التحكمية للإدارة المركزية في وضع المساطر المتعلقة بالمالية المحلية لا يجعلها تتوفر على هاجس الإستقلالية لديها وتمكينها من حرية أكبر لتنفيذ مخططاتها التنموية، وتفعيل برامجها مما يوفر فرصة أكبر لتحقيق التنمية الاقتصادية المحلية[40].
إن تحكم الدولة في تدبير مالية الجماعات الترابية، يؤثر بشكل سلبي على برمجة مخططات تنموية تراعي احتياجات المواطنين المحليين. فرغم تنصيص المشرع على ” الترخيصات في البرامج “[41] ،التي يمكن اعتبارها معطى في يد الجماعات الترابية، قصد وضع خطة مالية متعددة السنوات لتمويل مشاريعها التنموية، إلا أن هذه الإمكانية تظل مرتبطة بتمويل الإدارة المركزية وفق مشاريع محددة بناءا على اتفاق مسبق بين الدولة والجماعات المحلية المعنية بالأمر شريطة عدم تجاوز مبلغ 500 ألف درهم[42]، فأمام هذا المعطى، الذي لا يجعل من الجماعات الترابية تتدخل في برمجة ماليتها وفق تخطيط مسبق لتحقيق غايتها وأهدافها التنموية على أرض الواقع، يجعل اتخاذ القرارات التنموية لا تستند على الدراسة والاختبار للبدائل المتاحة وتحديد أهميتها الاقتصادية والاجتماعية لاختيار أفضل بديل متاح في سبيل تعظيم الربح أو التقليل من التكاليف والخسائر، إن الاختلاف واضح بين طريقة التدبير المالي للجماعات الترابية والقطاع الخاص، لأن هذا القطاع يستند على مقومات أساسية، تجعل الأهداف، لها غايات متنوعة ومتعددة منها ما يهتم بالموارد المالية والبشرية وموقع المنشآت الخاصة والمنافسة، ومنها ما يتعلق بأهداف اقتصادية وبأهداف مرتبطة بالجودة والإنتاجية[43].
وأخيرا تسمح هذه المرحلة ( دراسة المشروع)، بتحديد أولويات عمل القطاع الخاص وفق حاجياته المتوفرة لديه للمشاركة في التنمية المحلية.
تحديد الأولويات وفق الحاجيات:
لقد أظهر الاكتشاف على إثنين من مزايا للقطاع الخاص[44]، التي تشكل قوة هذا القطاع وبروزه في الأسواق، نتيجة إخفاق الجماعات الترابية في تدبير التدخلات الاقتصادية المحلية، حيث يلاحظ في جل الاقتصاديات الرأسمالية والتي تسود فيها المنافسة،من يؤمنون بأن الإنتاج والفعالية والأداء الجيد للموارد المتاحة هي التي تدفع إلى زيادة في مستوى معيشة المستهلكين وتحقيق التنمية الاقتصادية[45].
ومن ذلك فبدون دراسة المشاريع كميزة أولى، التي تحدد عملية الانطلاق في المشروع الاستثماري الخاص، والتي بموجبه يتم تحديد الميزة الثانية أي العمل بناء على الأولويات وفق الحاجيات، بهدف البحث عن التوازنات بين الاستثمار الاجتماعي الذي يقدم عليه رفاه وسعادة الساكنة المحلية، والاستثمار الاقتصادي الذي يرمي إلى رفع القدرة الإنتاجية ومواجهة متطلبات الحياة اليومية المتزايدة[46]، إلا أن الاستيعاب الجيد للأهداف المتوخاة والشروط المسبقة لكل مرحلة، هو الذي يجب أن يوجه طرق العمل تبعا للسياقات المحلية[47].
فعملية دراسة المشروع السابقة ، هي التي تحدد أرضية اشتغال القطاع الخاص، من خلال اختياره للموقع الاستراتيجي الذي يستثمر فيه ، فهنا تكمن علاقة تفاعل بين المقاولة والمجال المحلي، في كون أن هذا الأخير هل سيساهم في تطوير المقاولة الخاصة والدفع بها إلى الأمام أم أن الاستثمارات ستعرف مسارا من الفشل، فطبيعة المجال المحلي هو الذي يحدد النشاط الذي سيشتغل فيه القطاع الخاص.
فالمجال المحلي المغربي، بالنظر إلى عوامل ترتبط بالتضاريس والمناخ والغطاء النباتي والتوفر على واجهة بحرية وعلى المياه السطحية والباطنية[48]، هو الذي جعل الاستثمارات توجه في قطاعات معنية دون أخرى، نظرا للإختلاف وتنوع المواقع الجغرافية، لكل مجال محلي على حدة.
فمرحلة تحديد الأهداف ووضع خطة عمل، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الإجراءات، من أجل تحقيق الملائمة والانسجام[49]، وذلك بناءا على ما يتوفر عليه القطاع الخاص من موارد مالية، تجعله يضع، بناءا على ذلك ، أهداف واقعية وقابلة للإنجاز، ووضع جدول زمني يحدد فترات إنجاز تلك المشاريع[50].
إن تحديد الأولويات وفق الحاجيات، يكتسي بالنسبة للقطاع الخاص معطى حساس، لأجل الانطلاق في تنزيل المشاريع ، فبعد تحديد الموقع الجغرافي الذي سيتم فيه تنزيل المشروع الاستثماري، يتم بعد ذلك الشروع في تنزيل محتويات دراسة المشروع، من تحديد للمبلغ الإجمالي للمشروع وكذلك إحصاء أثمنة الآلات والمعدات الخاصة بإنجاز المشروع وكل المصاريف، خاصة تلك المرتبطة بالترقيات ومصاريف مدراء الشركات والأجور[51]، حيث يتضح وبشكل جلي أن القطاع الخاص يتميز في تدبيره الاستراتيجي على اتخاذ قرارات هادفة ومحكمة عكس ما هو معمول به. بالنسبة للجماعات الترابية، التي هي دائما تبقى مصطدمة بما تحدده الدولة من أولويات وحاجيات. فعلى سبيل المثال ، وفقا لمقتضيات “المادة 36″ من الميثاق الجماعي[52]، التي تنص على أنه ” يدرس المجلس الجماعي مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماعة ويصوت عليه طبقا لتوجهات وأهداف المخطط الوطني … ” فهذا التدخل المركزي للدولة يحد من فعالية أداء الجماعات الترابية، بمختلف مستوياتها، في تحديد أولويات عملها، وفق حاجياتها،وهذا ما يجعل طريقة إتخاذ القرارات، تتم عادة في ظروف عدم التأكد مما يصعب على المسؤولين اختيار القرار السليم[53]، فصعوبة صياغة وتحديد الأولويات وفق الحاجيات تحديدا ممنهجا ودقيقا، يؤدي لا محالة إلى وضع خطة عمل أو تخطيط يعجز عن تلبية حاجيات السكان الضرورية والمهمة.
وعلى ضوء هاته الضوابط، يتم تجميع الوسائل المادية والبشرية للقطاع الخاص وبدئه في تنزيل مخططه الاستثماري على أرض الواقع التي تليها مراحل أخرى، تتمثل في حكامة صرف الأموال المخصصة لتمويل المشروع الاستثماري وكذلك المراقبة والتقييم المستمر لتدبير وتسيير شؤون القطاع الخاص.
الفقرة الثانية: منهجية العمل وتحقيق الأرباح
تعتبر منهجية العمل التي يقوم بها القطاع الخاص، والتي تهدف لتحقيق الأرباح، خطوة أساسية ومهمة بالنسبة لهذا القطاع، وذلك باعتماده على خطة منهجية للقيام بأعماله، حيث أنه في هذه المرحلة بالذات يتم صرف الأموال المخصصة للمشروع، وكذلك القيام بعملية التتبع والتقييم المواكب لإنجازات، حتى لا يتم الوقوع في أية مشكلة من المشاكل التي قد تهدد تطور هذا القطاع على المستوى المحلي.
حكامة صرف الأموال :
القطاع الخاص هو من أهم الأليات المحلية والوطنية والعالمية ، التي تهدف لتحقيق الثروة والرفاهية. فهذا القطاع أنشئ أساسا لأجل المجتمع. ومن أجل تحقيق هذا الهدف لابد أن تحضى قيادته الداخلية ، التي تحدد تقريرا عن الممارسة الجيدة لحكامة المقاولة[54]. بسلوك تدبيري ممتاز حتى تتمكن من حل المشاكل الآنية التي يعرفها التسيير المالي للقطاع الخاص.
فهذا الأسلوب الذي تتبناه أغلب المقاولات الخاصة، ينبع من حقيقة مفادها أن القطاع الخاص يحرص على تطوير أدائه للوصول إلى أداء متفوق. فواقع القطاع الخاص يشير على أن مستوى نجاحه يتفاوت حسب كفاءته في أسلوب الإدارة الجيدة التي أصبحت ضرورة ملحة، ومنهجا فكريا يتميز بالحداثة، وزيادة قدراتها التنافسية وتطوير أدائها[55]، بل أضحى ذلك سببا لبقائها واستمراريتها في السوق الاقتصادية.
فحكامة صرف الأموال التي يعتمد عليها عكس، ما هو معمول به بالنسبة للجماعات الترابية، والتي أبانتها الممارسة العملية في عدم التناسب بين التدبير المالي وإكراهاته وضرورة السير العادي والطبيعي للجماعة وتدبير الشؤون المحلية وتحقيق تنمية فعلية ومستدامة[56]، ففعالية تحقيق التنمية المحلية هو رهين بفعالية المنظومة المالية للجماعات الترابية، التي لم تعد قادرة، مقابل ذلك على تحقيق مؤشرات ذات أهمية تتعلق بالقدرة على التمويل الذاتي للتنمية المحلية ، وتحقيق فائض مالي حقيقي موجه للجزء المخصص للتجهيز من ميزانيات الجماعات المحلية[57]، فالمعطيات العملية أظهرت بجلاء ضعف وهشاشة الجماعات الترابية في تمويل نفقات التسيير، فبالأحرى أن تقوم بتمويل البرامج والمشاريع لأجل تحقيق التنمية المحلية.
إن فائض التمويل الذاتي في ميزانية التسيير الذي تتوفر عليه الجماعات الترابية، سيساهم في تخصيص هذا التمويل لإنجاز مشاريع تنموية، دونما اللجوء إلى الإعانات والإمدادات التي تقدمها الدولة لتغطية العجز في كل من ميزانية التسيير والتجهيز، وكذلك اللجوء إلى القروض سواء الوطنية أو الأجنبية بغرض تمويل مشاريع طويلة و متوسطة الأمد، فضعف التدبير الغير محكم للجماعات الترابية على وضع برمجة هادفة وتنموية، يؤدي لامحالة إلى تبعيتها المالية للدولة والمؤسسات البنكية التي تقترض منها، مما يفسر صعوبتها على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
فأمام ضعف تدبير مالية الجماعات الترابية، يكون اللجوء للقطاع الخاص أنسب وسيلة تتحقق معها حكامة التدبير المالي، التي تقوي مكانة هذا الأخير،لأن القطاع الخاص يعتمد في تدبيره على حكامة مالية، تراعي التوازن بين الإجراءات والنفقات التي يحولها إلى مشاريع تنموية، وتكشف عن الأنماط التي توفر قاعدة بيانات تتبع الاتجاهات على المدى الطويل[58]، فالتدبير المالي للمقاولات الخاصة، يعتمد على أسعار عالية بنفس قيمة المنتوج، بحيث تخضع عملية تسويق المنتوجات للمبدأ العام الذي يتعلق بالتدبير، بمعنى آخر يتم تحديد ثمن المنتوج في السوق (ارتفاع للأسعار أو هبوطها)، أي أنه يحدد بذلك الثمن على أساس جودة المنتوج[59]، في حين أن التدبير الاقتصادي للجماعات الترابية، يخضع لمبدأ التسعيرة أو السعر المخفض، مما لا يدر أي دخل أو أرباح تجعل منه يعيد استثمار تلك الأرباح في ميادين أخرى ستساعده على تحقيق التنمية للفرد والمجتمع المحلي، فحكامة القطاع الخاص في صرفه للأموال دائما تفكر بمنطق الربح، لأن في صرف الأموال وفق حاجيات السوق، تجعل من التدبير المالي لهذا القطاع دائما تتماشى وفق ما قد تحققه من نتائج.
الرقابة المالية للقطاع الخاص:
تعد الرقابة الداخلية التي يمارسها القطاع الخاص، من أهم الأسس التي يرتكز عليها هذا القطاع، فوظيفة المراجعة الداخلية التي يقوم بها ، تتضمن تقدير المخاطر المالية، وكذلك اختبار مدى الالتزام بالأهداف المحددة ، فمن هنا يتجلى أن وظيفة المراجعة الداخلية، وهي إبلاغ أولا بأول عن الجهود التي يبذلها القطاع الخاص داخل منشآته خاصة في الجانب المالي، الذي يعتبر مقياسا لتحقيق الأهداف التنموية سواء بالنسبة للقطاع الخاص هو نفسه أو بالنسبة للمحيط الخارجي الذي يحيط به (كالعمال، الموردين، المستهلكين).
فوظيفة الرقابة المالية للقطاع الخاص لها تأثير إيجابي على حكامة هذا القطاع، مؤدية بذلك إلى تحسين جودة التقارير المالية وقياس أداء المقاولات الخاصة، حيث أنه في ظروف معينة تؤدي هذه الوظيفة إلى ردع المخالفات في إعداد التقارير المالية من قبل المحاسب الذي يعمل في القطاع الخاص، وبالتالي تشكل هذه الرقابة دورا هاما بالنسبة للمستثمرين الخواص، من حيث مدهم بالمعلومات الضرورية التي تساعد على اتخاذ القرارات اللازمة، لأنها نشاط مستقبلي وموضوعي واستشاري، من شأنه تقديم التأكيدات اللازمة وإبداء التوصيات التي تحقق قيمة مضافة وتزيد من فعالية القطاع الخاص، وكذلك مساعد هذه الوظيفة العملية إلى استمرار أصحاب الشركات في تنفيذ التحسينات والإصلاحات في الوقت المناسب ، ووضع أساليب منهجية منظمة لتقييم وتحسين فعالية هذا القطاع ، حيث أن ضمان الاستمرارية يتم بناءا على عملية المراقبة الداخلية ، فالتقييم المحاسبي والتوصيات، والتقارير التي يعدها المحاسب داخل الشركة والتي تنظم بصفة مستمرة هذا القطاع خلال السنة، يحقق الشعور بالراحة لدى أصحاب الشركات ، فعملية المراجعة المالية للقطاع الخاص، هي ليست إلا تنبيه للإدارة المسيرة لهذه الشركة إلى المخاطر الهامة التي قد تؤثر على الأهداف والعمليات التي ستنجز وكذلك على موارد الشركة، ولإنجاز المعاملات المتعلقة بتنمية المجتمع[60].
فالجدير بالذكر أن طريقة توظيف الأموال ،تبحث دائما عن منطلقات لتقييم عملية الاستخدام المحكم لهذه الأموال داخل القطاع الخاص، فتقويم الأداء المالي هو قياس النتائج المحققة والمنتظرة ،على ضوء معايير محددة سلفا ، ومن ثمة مدى تحقيق الأهداف لمعرفة مستوى الفعالية، وتحديد الأهمية النسبية بين النتائج والموارد المستخدمة مما يسمح بالحكم على درجة الكفاءة[61]، التي يتسم بها القطاع الخاص.
وكخلاصة لهذا الفرع المتعلق بمرتكزات القوة المالية للقطاع الخاص، والذي يعتمد على مجموعة من الأساليب، لأجل تحقيق هدفه الحقيقي المتمثل في تحقيق الربح بغية تعزيز قدراته وكذلك العمل لأجل إكتساح أسواق جديدة، فهو بطبيعة الحال يعتمد على كل هذه القدرات التي تؤثر على صناع القرار المحلي، بضرورة إشراك هذا القطاع في التنمية المحلي.
وهذا الشكل التوضيحي يبين القدرة المالية للقطاع الخاص بشكل إجمالي[62] :
ثانيا : حركية القطاع الخاص في توفير مناصب الشغل
إن الاستثمار هو المحرك الأساسي للاقتصاد. فهو الذي يمتص البطالة بإحداث مناصب شغل جديدة[63] ، تساهم هي بدورها في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي والوطني ، لذا فالتشغيل يعد على رأس التحديات التي تعرفها معظم الدول السائرة في طريق النمو، إزاء كثرة البطالة التي تعاني منها، والتي لم يستطع القطاع العام إيجاد حل مناسب لها، فكان بذلك اللجوء إلى القطاع الخاص بمختلف أحجامه، سواء المقاولات الكبرى أو المقاولات الصغرى والمتوسطة، نتيجة الارتفاع المهول للنمو الديمغرافي المتزايد، الذي أثر بشكل كبير على سياسة الدولة في حل معظلة البطالة والتشغيل،ومن ثمة، فإن توزيع السكان حسب العلاقة بسوق العمل تختلف تدريجيا[64]، لذلك فالضرورة حتمت إيجاد الحل الأنسب لتفادي اتساع الهوة بين ارتفاع نسبة البطالة، وعدم إيجاد فرص الشغل.
وبهذا، يظل القطاع الخاص هو المحرك لهذه العجلة التي يتخبط فيها القطاع العام، وهنا تكمن لنا أهمية هذا الفرع لمعالجته لفكرتين أساسيتين وهي العلاقة بين توفر الاستثمارات وخلق فرص الشغل (الفقرة الأولى)، ذات كفاءة عالية ومتطورة مع تطور متطلبات الحياة اليومية للساكنة المحلية على الخصوص (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : توفير مناصب الشغل
إن من سمات ضرورة إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية، ألا وهو الارتفاع المهول لعدد السكان المغرب، في مختلف وحداته الترابية، حيث أدى هذا الارتفاع، حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2004 إلى 708.891.29 نسمة، ويبلغ معدل النمو السنوي1,4 % ما بين سنة1994 و 2004[65]،ناهيك عن الزيادات التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة من سنة 2005 إلى 2012، الشيء الذي أفرز وجود ترابط مهم وأساسي بين الاستثمار الخاص وضرورة توفيره لمناصب الشغل فالقطاع الخاص هو الذي يستقبل هذا الكم الهائل من المواطنين من أجل العمل على تخفيف جميع أشكال البطالة الطوعية، الحد من “التطفل الاجتماعي” وخلق فرص عمل في مكان العمل[66]، والتخفيف من الأعباء التي تتحملها الجماعات الترابية، ذلك أن القطاع الخاص يعتمد في سياسته التشغيلية على تشغيل الكفاءات المنتجة وكذلك العمل على تحفيزها هذه للأجل تحقيق المردودية.
تشغيل الكفاءات المنتجة:
يعمل القطاع الخاص دائما وفق منهجية محكمة ، التي ستعود عليه بالنفع في المستقبل لأن طموحه يتمركز دائما في تحقيق الأرباح التي ستطور من قدراته، وتعزيز أسواقه فمنظومته التي يستقر عليها في التشغيل تعتمد هي كذلك على أسس منهجية، بهدف تحقيق مردودية فعلية، لتوسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس ليعيشوا الحياة التي يرغبون بها[67].
فالقطاع الخاص لا يعتمد على التشغيل لأجل التشغيل، وإنما يعتمد عليه لأجل تحقيق مستوى عالي من الإنتاجية، بمعنى آخر إنتاج أكبر، إنتاج أفضل، إنتاج بتكلفة أقل[68]. إن العنصر البشري ليس فقط، هو أحد عناصر الإنتاج ومحدداته، بل هو المؤثر الرئيسي في جميع مكونات التنمية، لأنه أصبح في مقدمة المقاييس الرئيسية لثورة الأمم. وانطلاقا من هذا كله، فالبطالة هي نتاج تفاعل عرض العمل والطلب عليها في سوق الشغل، فإنه من الطبيعي تقييم العوامل الأساسية المؤثرة في العرض والطلب، والعوامل المحددة لنمو قوة العمل من المسائل الديمغرافية والتعليم وعلاقته بسوق العمل[69].
وهنا تكمن لنا حقيقة هذا الأمر، حيث أن القطاع الخاص. يعتمد دائما على أجود الأطر داخل منظومته التي يشتغل فيها، ويعتبر عموما، وجود أشخاص حاصلون على شهادات عالية في ميدان المقاولات عاملا، رئيسيا في تبني التقنيات الجديدة وتعلم العمليات المرتبطة بها[70]، فمنظومة التربية والتكوين هي التي تفرز لنا، كفاءات ذات مردودية وفعالية تساهم بقدراتها في تطوير القدرة التنافسية للقطاع الخاص.
فاعتماد المقاربة المجالية في وضع وتنزيل المشاريع في إطار سياسة شمولية لتأهيل المجال[71]، تعتمد بالأساس على وضع نقطة أساسية ضمن هذه المقاربة المجالية، ألا وهي مدى كفاءة العنصر البشري المحلي الذي هو ثروة الأمم وازدهارها، فتطور النسيج الإنتاجي، الذي يعتمد على تشغيل الكفاءات المنتجة وذات المردودية، لا يهتم فقط في مدى إلمام العامل بالتكنولوجية الحديثة وتطوراتها، بل ضرورة توفر العنصر البشري داخل القطاع الخاص على العديد من اللغات التي ستسهل تواصله مع العالم الخارجي، الذي يستقبل منتوجاته، لأن ما ينتج على المستوى المحلي فهو يسوق على المستوى الوطني والأجنبي، فالتعدد اللغوي للعاملين داخل القطاع الخاص، أمكن تشبيهه بالعملة “الثمينة” التي لا تقدر بثمن.
اللغة أداة قبل كل شيء، فهي ليست قيمة، وإنما تنطوي على قيمة، وامتلاك لغة مثل امتلاك نقود ينطوي على إمكان توسيع مجال الفعل لدى الأفراد . ومن ثم ينطوي على إمكان إغنائهم[72]، لأن اللغة بسبب اختلاف ممارستها فهي تؤثر على الحياة الاقتصادية وتتأثر هي كذلك بها، لأنها دائما تستجيب للمتطلبات الاقتصادية، فالاحتكاك اللغوي بين لغة ولغة أخرى الذي يتم التعامل به داخل القطاع الخاص، يساهم في الدفع بمستوى كفاءة هذا القطاع في توظيفه لعنصر بشري قادر على إشباع حاجيات القطاع وكذلك حاجيات الأفراد العاملين داخل هذا القطاع، والتي تتمثل في نمو وتطور الحياة الوظيفية للغة ونموها لتصبح كمؤسسة متنوعة لها مكانها وفروعها في العديد من المناطق وبالتالي مساهمة منها في تطوير نمط الحياة الاقتصادية المحلية، فبدون لغة لا وجود للاستثمارات الخاصة ولا وجود لعنصر بشري مؤهل لخدمة التنمية المحلية.
التحفيز على المردودية:
تلعب الحوافز دورا كبيرا في التأثير على أداء العاملين داخل القطاع الخاص سواء بشكل إيجابي أو بشكل سلبي، وعدم توفرها وعدم توزيعها بشكل عادل ينعكس مباشرة على أداءهم ، بفعل مجموعة من المتغيرات والتحولات والتطورات التي تعرفها المقاولات الخاصة في الظروف الراهنة، لم يعد معها الأداء العادي لمعالجة آثار هذه التحولات والتطورات، بل أصبحت تقتضي العمل على تنمية الموارد البشرية لتحسين أدائها، لأجل تحقيق نجاحات آنية ومستقبلية، لأن التحفيز هو دافع يدفع الشخص لعمل ما والاستمرار في الأداء الجيد والفعال.
إن عدم توفر الحوافز المادية أو المعنوية المناسبة للعامل المجد داخل القطاع الخاص ، قد يؤثر سلبا على أدائه ويساهم في ضعف إنتاجيته وبالتالي يقلص فرصة تحقيق الأهداف الأساسية للقطاع الخاص.
فالتحفيز يشكل عنصرا أساسيا بالنسبة للفرد داخل القطاع الخاص، حيث أثبتت بعض الإحصائيات، أنه في عام 2007،1% من العاملين الدائمين يفضلون الاشتغال بالقطاع الخاص، باعتبارهم ينظرون إلى الأجور المرتفعة بسبع مرات أكثر من القطاع العادي[73]. وهنا يتجلى تأكيد مسؤولية الفاعلين الخواص في السيطرة على مكافحة الفقر[74]. لذا فالقطاع الخاص يعتبر من بين أهدافه هو تحقيق الربح، فهو يعتمد دائما في تخطيطه على التأثير على العاملين بتحفيزهم لعمل عمل ما، وبالتالي فطريقة توظيف هذه العملية هي أساسية لأجل تحقيق مردودية أكبر ونجاح أوسع وتنمية محلية و وطنية.
إن العلاقة بين التنمية والتحفيز، تظهر من خلال إعلان أصحاب المقاولات الخاصة، عن وضع تحفيزات للعاملين داخل القطاع الخاص، ولهذا يحفزونهم للعمل ويحثونهم عليه عن طريق التنافس[76]، لأجل الظفر بمراتب صاعدة على المستوى المحلي، وتحقيق أرباح مستمرة التي ستؤدي لا محالة لتقوية القطاع الخاص والزيادة في إستثماراته ،لأن في عملية التحفيز هناك ترابط بين الأداء المتميز و تحقيق النتائج وذلك من خلال الشكل التالي[77]:
فبناء على هذا الرسم التوضيحي يتضح جليا أن التحفيز بالنسبة للقطاع الخاص هو جزء لا يتجزأ من منظومة الأسس التي يعتمد عليها هو نفسه، وكذلك مراهنة الجماعات الترابية عليه لأجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المحلي والذي بدون شك سيحقق لنا تنمية وطنية شمولية.
الفقرة الثانية: عصرنة الموارد البشرية خدمة للتنافسية
إن القطاع الخاص، إزاء حركيته في توفير مناصب الشغل وتخفيفه العبء على الجماعات الترابية نتيجة ضعف مواردها البشرية، فإنه لا يعتمد فقط على تشغيل الكفاءات المنتجة و تحفيزها على المردودية، وإنما يستند دائما لأجل تطوير إنتاجاته بنهج سياسة التكوين المستمر، كلما دعت الضرورة إلى ذلك وكلما اقتضتها تطورات التكنولوجية الحديثة.
فالقطاع الخاص، للأجل تطوير سياسته الداخلية، فهو يعتمد على الوسائل المتطورة الحديثة وذلك للأجل السرعة في الإنتاج وتحقيق جودة عالية للمنتوجات التي ينتجها، إلا أنه رغم وجود هذه التكنولوجية الحديثة فالقطاع الخاص ، دائما يقوم بنهج سياسة التكوين المستمر نظرا لظروف تطور الحياة الاقتصادية.
الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة :
لا شك أن الاقتصاد المحلي والوطني اليوم، يتغير تغييرات متسارعة تتفاعل بما هو داخلي وخارجي، حيث أن العديد من القضايا والأمور باتت تتحدى ما يستطيع العنصر البشري القيام به، فالرأسمالية بصفة عامة هي دائما تجدد نفسها وقوتها و تعيد تنظيم علاقاتها الإنتاجية حتى لا تفلت من سيطرتها[78].
إن وسائل الإنتاج في القطاع الخاص اليوم، أصبحت هي كذلك متسارعة ومتطورة نتيجة برمجتها الالكترونية، حيث يعزى السبب في ذلك إلى الجودة العالية والدقة التي توفرها هذه الآلات الإلكترونية إزاء إنتاج منتوج معين أو تقديم خدمة معينة. فبتطور المجتمعات السائرة في طريق النمو إلى مجتمعات أكثر تطورا ( المغرب نموذجا )، فالتكنولوجيا تمنح لهذه البلدان القدرة على تخطي الفقر والمراحل الكلاسيكية في بلورة عملية التنمية، لأن التكنولوجيا الحديثة لا تعد غاية وإنما هي وسيلة لتحقيق التنمية المحلية. إلا أن هذه الوسائل الحديثة هي التي من شأنها أن تقوم بتسريع هذه العملية التنموية، بحيث أضحت جوهر الميزة التنافسية[79]، لكونها تغير من نظام الإنتاج لا من حيث الحجم والجودة وشكل المنتوج الذي هو دائما في تغيير بناءا على طلب الزبون ( المستهلك ) لمواكبة التطورات والتقنيات الجديدة.
لم يعد في الوقت الحالي عامل سعر المنتوجات، هو العامل الديناميكي لسلوك الزبون، بل أصبح الاهتمام بالجودة من أولى اهتماماته، لأن الوسائل المتطورة تساعد القطاع الخاص على توفير جودة قوية لخدماته و بروزه في السوق وذلك من خلال مايلي[80] :
فالدافع نحو التقدم هو قائم على أساس التنمية الاقتصادية للجماعات الترابية أولا، باعتبارها المجال الأوفر حظا، لتكامل كافة المجالات الترابية الأخرى، بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية للدولة ككل، ورفع في مستوى المعيشة والتوسع في الأسواق المحلية والوطنية والعالمية لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح.
نهج سياسة التكوين المستمر:
يشهد القطاع الخاص تطورات هامة، لم تعد تستأنس فقط بالوسائل التكنولوجية الحديثة، بل هو دائما يحاول أن يخلق تفاعلا بين هذه التقنيات الحديثة والعنصر البشري، الذي يزاول مهامه داخل القطاع.
فتنمية القدرات البشرية عن طريق نهج أسلوب التكوين المستمر للعنصر البشري، يمثل أهم العوامل المؤثرة في أداء المؤسسة وتأقلمها مع بيئتها التي تتميز بالتغيير والتعقد والتعقيد[81]، وتتمثل الغاية الضرورية لهذا النظام في تحقيق الاستثمار الفعلي للموارد البشرية، بهدف بلوغ قدرة تنافسية على الأمد الطويل.
إن التكوين المستمر للعنصر البشري داخل القطاع الخاص، يشكل إعدادا للعاملين على تكوين معين لأجل تزويدهم بالقدرات والمهارات والخبرات التي تجعل منهم قادرين على القيام بهذا العمل وكذلك اكتسابهم المعلومات والمعارف التي لم يسبق لهم أن أطلعوا عليها، رغبة من مسيري القطاع الخاص في الرفع من مستوى كفاءة الإنتاج والزيادة في نسبه.
و توجد مجموعة من الدوافع الرئيسية التي تحتم انتهاج أسلوب التكوين المستمر للعاملين في القطاع الخاص وذلك من خلال مايلي[82]:
كما لا يخفى على أن دوافع التكوين المستمر ترتبط هي كذلك بأهداف وجب العمل على تحقيقها نتيجة هذا النهج لا سيما في القطاع الخاص الذي يعتبر ذلك نوعا من الاستثمار الواعد في المستقبل[83].
من خلال تغيير أسلوب التعلم وتوجهاته تغييرا جذريا وجعل نتائجه متفقة مع حاجيات القطاع الخاص للوصول إلى مستويات أعلى من المعرفة والاستيعاب، وذلك من خلال:
1- إمكانية فهم المعلومات المقدمة أثناء التكوين.
2- إمكانية حفظ هذه المعلومات المقدمة أثناء التكوين.
3- تطبيق عملي للمعلومات على أرض الواقع في القطاع الخاص.
4- القدرة على الاستفادة من المعلومات والمعرفة في تصميم المنتجات[84].
يعد تطبيق سياسة التكوين المستمر للعاملين في القطاع الخاص، من بين درجات التقدم الاقتصادي والاجتماعي ومستوى من التطور في القوى المنتجة والمعيشية بشكل كبير ، وذلك من خلال الاستخدام الأمثل للقوى البشرية، فالعمل الجيد كما هو معروف أحد العناصر الأساسية للإنتاج والتنمية.
فدرجة تقدم المجتمعات تقاس بمدى تطور عناصرها ، الذي يعتبر العنصر البشري قوة هذه المجتمعات، عن طريق تشغيله و تأهيله ، وكذلك العمل على تحفيزه لأجل تطوير الإبداع الذي يؤدي إلى إنتاج جديد وقيم من أجل المجتمع[85]. ومنه فإذا كان التعليم والتعلم والتأقلم مع تطورات التكنولوجيا الحديثة التي يشهدها العالم اليوم تعد إعدادا للحياة، فإن التكوين المستمر يعد إعدادا للنشاط الإنتاجي عن طرق تهيئة قدرات الفرد والجماعة للقيام بمهام وأعباء مهنة معينة داخل القطاع الخاص، فهنا تتمثل أهمية القطاع الخاص وإشراكه في العملية التنموية المحلية، إزاء قدراته الاستيعابية لا المالية ولا البشرية، بهدف تحقيق التنافسية بين الوحدات الترابية المحلية والوحدات الإنتاجية.
2- الحجج الداعمة لعدم انفتاح القطاع الخاص
يمكن أن تعزوا الأسباب الداخلية التي تؤثر في مسلسل تطور مسار إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية، إلى مجموعة من الأشياء، رغم ما حاول هذا القطاع من تخطي الصعاب والمشاركة ولو بقدر معين في دعم هذا المسار التنموي، من خلال تخفيفه العبء على الجماعات الترابية، وجاهزيتها لمسايرة قدرات ومؤهلات القطاع الخاص، إلا أن هناك من الأمور الأخرى التي وجب الاهتمام بها لمساعدة القطاع الخاص من أجل مشاركته في التنمية المحلية، ومن الحدود الداخلية التي يعاني منها القطاع الخاص، مشكل ارتفاع تكاليف الإنتاج (أولا) والمتمثل أساسا في تمويل على الخصوص المقاولات الصغرى والمتوسطة زيادة على مشكل الحصول على العقار، إضافة إلى ذلك نجد على أن القطاع الخاص يستثمر دائما لأجل تحقيق الربح دون أن تكون له نظرة تحقيق المصلحة العامة، كما يعاني هذا القطاع من عوامل أخرى ترتبط بتنافسية المقاولات ( ثانيا).
أولا : معيقات التدخل المباشر
الفقرة الأولى : ارتفاع تكاليف الإنتاج
هناك مجموعة من العوامل المرتبطة بارتفاع تكاليف الإنتاج التي لا تساهم بشكل أو بآخر في دعم مشاركة القطاع الخاص في التنمية المحلية، وهذه العوامل تتعلق بمعدل الضريبة المفروضة على القطاع الخاص، وظهور القطاع الغير منظم، إضافة إلى مشكل ضعف الاستفادة من الدعم المالي خاصة بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة ، ناهيك عن صعوبات المتعلقة بالحصول على العقار للأجل توطيد الاستثمارات الخاصة، إن هذه العوامل التي تتجلى في ارتفاع تكاليف الإنتاج تؤثر بكيفية سلبية، على نشاط المقاولات ومحيطها التنافسي[86]، لذلك كانت نظرتنا هو معالجة أهم النقط الأساسية المتعلقة بارتفاع تكاليف الإنتاج، والتي يمكن معالجتها بشكل آني من طرف الدولة والجماعات الترابية على الخصوص والمتعلقة أساسا بمشكل تمويل، و كذلك الصعوبات التي تعترض المقاولات في الحصول على العقار.
الاستفادة من التمويل
إن السمة الأساسية التي تطبع القطاع الخاص بالمغرب، هو كونه عبارة عن تشكيلة تتكون غالبا من المقاولات الصغرى والمتوسطة في حين أن الباقي هو عبارة عن مقاولات أو شركات كبرى محدودة عدديا، وهذا ما جعل دائما المقاولات الصغرى والمتوسطة لا تساهم إلا بقسط متواضع في النشاط[87] الاقتصادي رغم الهيمنة التي تعرفها من حيث ارتفاع عددها، فهي في حقيقة الأمر، تضررت من الناحية المالية مقارنة مع الشركات الكبرى لأنها تصطدم خاصة في مرحلة إنشائها بعدم كفاية رؤوس الأموال الخاصة بإنجاز المشروع، وبالتالي لا يجد المقاولون الخواص في هذه الحالة إلا اللجوء إلى الاقتراض البنكي الذي يوفر القروض للقطاع الخاص لكن وفق ضمانات ، فيبقى هذا الأخير في مأزق عدم الاستمرارية، أو الاستمرارية بالتأرجح إما نحو النجاح أو الإفلاس، ويكون الضعف هنا سببا لصعوبة قيامها بعملية تمويل ذاتي لمشروعها،وهذا هو ما يؤثر على حيوية وديناميكية المقاولة ، ويحد من فعالية أدائها، هكذا إذن يضع ضعف وعدم كفاية الأموال الخاصة المقاولات الصغرى والمتوسطة على الخصوص في وضعية تقلل من جدوى إمكانياتها التطورية فلا تستطيع الاستدانة دون أن ينعكس ذلك سلبا على أوضاعها المالية، فعدم القدرة على التمويل في ظل زيادة التدفق النقدي للاحتياجات خلال كل مرحلة من مراحل التوسع هو أيضا عقبة في سبيل التنمية وروح المبادرة[88].
فالمقاولات الصغرى والمتوسطة تعتبر من الناحية البنيوية وحدات عاجزة لأنها تقترض كثيرا وبالمقابل تقل إيداعاتها لدى البنوك التي اقترضت منها، فرغم السياسات الداعمة للنهوض بهذا النمط من المقاولات .من خلال مجموعة من البرامج كبرنامج “امتياز” الذي وجه للقطاع الخاص المتوفر على خطط ذات أبعاد تنموية، ورغبته في الاستفادة من مساعدة مالية تصل إلى 20% من استثماراتها سواء في الأصول المنقولة وغير المنقولة، وقد يصل الدعم للقطاع الخاص في هذه الحالة إلى 5 ملايين درهم، إضافة إلى ذلك نجد برنامج آخر، وهو برنامج ” مساندة” الذي يرجى منه مساعدة المقاولات الصغرى والمتوسطة على الخصوص في عملية تحديث وتحسين تنافسينها، بالتجديد والابتكار[89].
فهدف هذين المشروعين هو تشجيعي لتطوير المقاولات التي لديها خطط تنموية ،إلا أن إنعاش هذه المقاولات بقي محدودا في مضمونه وأبعاده، لأنه لا يواكب المشاكل اليومية التي يعاني منها القطاع الخاص، خاصة في ظل الظروف الراهنة والتي تزداد معها تكاليف المواد الضرورية للاستثمار مثلا كالزيادات الأخيرة( للمحروقات) التي مست القطاع الخاص وكذلك المواطنين وارتفاع التكاليف وعدم تغطية المصاريف الذاتية والإقتراضية يجعل القطاع الخاص في محك الانسحاب من مشاركته وعدم إستمراريته في إنعاش التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمستوى المحلي الذي هو بصدد إعداده الأعداد العقلني الهادف بمجابهة الاستثمارات المحلية والوطنية للاستثمارات الأجنبية ومنافستها، وهذا يتضح من خلال الرسم المبياني التالي الذي يفسر الاختلاف بين صعوبات من التمويل وبعض المشاكل الأخرى بالنسب المئوية[90]:
فمن خلال هذا الرسم التوضيحي يتضح أن مشكل الاستفادة من التمويل يبقى ذات نسبة مرتفعة مقارنة مع المشاكل الأخرى ( كالرشوة والنقل…).
صعوبة الحصول على العقار
يعتبر العقار، المحرك الأساسي لتحول المدينة وتنميتها، فالقطاع الخاص ولتوطيد مشاريعه يلزمه توافر عقار الذي يعد دون شك كنز ثمين ورهانا كبيرا، فالإنسان يكون دائما في حاجة الأرض من أجل البناء، لكن هو بحاجة إلى الأرض من أجل إستغلالها في مجال الاستثمار، فقلة الحاجيات مقابل كثرة الطلب على العقار في مختلف الوحدات الترابية الأكثر جذبا للاستثمار الخاص، تؤدي إلى غلاء البقع الأرضية، مما يسبب ذلك عائقا أمام العديد من المقاولات سواء الكبرى أو المتوسطة والصغرى إما بشراء عقارات جديدة للاستثمار أو عن طريق الزيادة والتوسع في المساحة، وذلك لأجل الزيادة في الاستثمار والإنتاجية وتوفير فرص شغل أخرى .فتوفير رصيد عقاري لإنجاز المشاريع الإستثمارية هو أمر ليس من السهل، رغم المؤشرات التي حققها هذا القطاع من تطور خلال سنتي 2000 و 2011 والذي يوضح أهم مؤشرات القطاع بين سنة 2000 و 2011[91]، من خلال الجدول التالي:
وكما يظهر من خلال الجدول أعلاه الذي يوضح أهم المؤشرات التي يساهم في تنميتها قطاع العقار ببلدان وعلى مختلف ربوع هذه المملكة، فهو يعطي دون شك حركية خاصة لقطاع العقار وغيره من الأنشطة الاقتصادية الأخرى.
إلا أن الواقع يثبت أنه رغم المجهودات المبذولة في مساعدة القطاع الخاص للآجل الحصول على عقارات لتوطيد استثماراتهم، إلا أنه عامل ارتفاع أسعار العقار من حين للآخر، يؤثر سلبا على جذب الاستثمارات وكذلك التوسع في شأنها، فالعقار يعرف اللامساواة بين الوحدات الترابية المحلية، حيث نجد مستوى ترابي فيه ارتفاع مهول للأسعار العقار، بينما المستوى الترابي الآخر تنخفض فيه الأسعار وهذه من الصعوبات التي تؤدي إلى عزوف المستثمر عن الاستثمار في مجال ترابي محلي، والمساهمة بقدر أوفر في تحقيق التنمية المحلية.
كذلك نجد من بين الأسباب المساهمة بدورها في صعوبة توفير العقار للقطاع الخاص، وهو جمود هذا العقار وضعف الأراضي الكافية، ولاسيما المناسبة والمجهزة لاستقبال الاستثمار، وهذا ما يؤثر سلبا على التوجهات السليمة والفعالة لتدبير العقار وحسن استثماره مستقبلا، حيث يرصد بعض المهتمين أن المشكل يتمثل في سوء تدبير الرصيد العقاري المتواجد حاليا وليس قلته[92]، فالإقبال يكون على أراضي بعينها بحسب تموقعها في النسيج الحضري والذي يلعب دورا أساسيا في غياب ليونة الطلب والعرض في هذا المجال[93].
ولكثرة ما لهذا الموضوع من خصوصية، أصبحت الملكية العقارية تتسم بالسلبية فلم تعد كما كانت في السابق تعبيرا ورمزا للجماعة ولكنها غدت أداة للعزلة وعدم التضامن، حيث تكاد المضاربة العقارية تجعل كل فرد من أفراد الجماعة مضاربا عن دون وعي وذلك تحت وطأة الإرادة المتشبثة بحيازة السكن وهاجس الربح المضمون[94]. وبالتالي فمن خلال المعطيات الإحصائية المنشورة في تقرير اللجنة لإستشارية للجهوية المتقدمة، يتضح بشكل جلي على كون أن القطاع الخاص يعرف مشاكل عقارية مهمة، لا تجعل الحصول على العقار أمر سهلا بالنسبة له، وذلك من خلال ما يلي[95] :
الفقرة الثانية: سيطرة فكرة الربح السريع
ترجع محدودية إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية، إلى مسألتين أساسيتين، وهما تغليب عامل تحقيق الربح السريع لدى القطاع الخاص، دون نظرته إلى تحقيق المصلحة العامة، وتوفير الخدمات للمواطنين بأقل تكاليف ممكنة، خاصة في ما يخص تدبير المرافق العامة المحلية ذات الارتباط اليومي بالمواطنين، والتي جعلت العلاقة بين الطرفين، القطاع الخاص والمواطنين غير متكافئة ومتوازنة (الفقرة الاولى)، زيادة على هذا المشكل نجد دائما القطاع الخاص يستثمر في المجال الحضري دون أن تشمل إستثمارته المجال القروي الذي يتوفر بدوره على مؤهلات تمكنه من لعب دور طلائعي في تنمية الاقتصاد المحلي والوطني وهذا هو ما سنعالجه في (الفقرة الثانية) من هذا الفرع .
تأثير القطاع الخاص على المواطنين
لقد تبين أثناء دراسة هذا الموضوع إشراك القطاع الخاص في التنمية المحلية، هو افتقار هذا الأخير للنظرة العقلانية من حيث الاستثمار والتسيير علاوة على إفتقاره إلى مشروع تنموي اقتصادي يهدف إلى تنمية الاقتصاد المحلي وتطويره وتنافسيته، والواقع أنه قطاع عاش ويعيش بالأساس على المساعدات والتسهيلات التي تقدمها الدولة والجماعات الترابية بكل سخاء، فرغم التسهيلات والإعانات المقدمة للقطاع الخاص، لأجل تحقيق المصلحة العامة على الخصوص مع إبقاء له هامش معين من الربح، والذي يؤثر بطبيعة الحال على المواطنين وارتفاع تكاليف الخدمة المقدمة لهم.
إذا اقتصرنا في تحليلنا هذا على المرافق العامة المحلية باعتبارها من المسائل الضرورية، والتي تتطور بتطوير دور الفرد والمجتمع، والجماعات الترابية والدولة ككل لأن أي تهديد لوجودها يجعل مصالح المواطنين مهدده[96] وبالتالي فمشاركة القطاع الخاص، خاصة في تدبير المرافق العامة المحلية، رغم إيجابيتها فهي أبانت عن توثر العلاقة بين القطاع الخاص والمواطنين، لأن التنمية تمس المواطن بالدرجة الأولى، فالمواطن يحس بالتذمر جراء تخلي الجماعات الترابية عن مجالات تدخلها الحيوية وإسنادها للقطاع الخاص، الذي هو ليس إلا مصدر للربح السريع بدل التركيز على تقديم الخدمات العامة بأقل تكلفة ممكنة[97].
فانتقال المواطن المنتفع من المرفق العام ، من موقعه الإستهلاكي إلى موقعه كزبون، يخضع للطلب الذي يتحقق عن طريق العرض، هذا العرض الذي لا يرعى القدرة الشرائية للمنتفع، فتغليب المصلحة الخاصة على حساب المواطنين يأثر في بلورة علاقة فعلية مبنية على الثقة المتبادلة بين الطرفين ، وبناءا على الدستور المغربي الجديد[98]، الذي ينص على أنه “…يتم تنظيم المرافق العمومية على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، والإستمرارية في أداء الخدمات”.
هذا النص الدستوري يدل على أن المرفق العام أحدث أصلا من أجل أن إشباع حاجيات المواطنين الجماعية، والتي لا يستطيع الفرد لوحده تلبيتها وإشباعها بمفرده، فإحداثه يهدف إلى تحقيق صالح جموع المواطنين داخل مستوى ترابي معين، دون أي تمييز أو اللامساواة، ولا مفر على كون أن الدستور الجديد هو في طريقه لتنزيل الفعلي بإصدار القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية وتكييفها وفق تطور هذا التنظيم الجديد، الذي يجب أن يساير “عدم التميز” القطاع الخاص في تقديم خدماته للمواطنين، حيث أنه أحيانا، يكون المستفيد من أنشطة القطاع الخاص ذات الطبيعة الاقتصادية، يخضع للشروط المتعلقة بتدبير ذلك المرفق وهذا راجع للإعتبار أنه هذه المرافق تعمل وفق مبادئ إحترام القواعد والأعراف التجارية، التي تقتضي التمييز واللامساواة بين المنتفعين وبالتالي يتم التمييز في إختلاف الأسعار. فأسعار الكهرباء للإستعمالات المنزلية تختلف عن نظيرتها ذات الإستخدام الصناعي في المعامل، حتى أنه في بعض الأحيان، يتم التمييز المكاني بين المنتفعين، فمثلا مرفق الكهرباء يفرض على المنتفعين أثمانا مرتفعة في ضواحي المدن لكون أداء الخدمة بالنسبة لهم يستلزم مجهودات كبيرة مقارنة مع المدينة.
ومن هذا المعطى ينبع ضرورة حق المواطن المنتفع من ممارسة الرقابة التعريفية التي وجب أن تراعى فيها شروط المساواة، وأن تكون مبنية على أسس منطقية، فالمبدأ يشكل محاولة حقيقية لتطبيق المساواة في مجتمع لا يتوفر فيه الجميع على نفس الثروات.
إقتصار القطاع الخاص على المجال الحضري
إن ما يزيد من محدودية القطاع الخاص، هو اقتصاره في الاستثمار على المجال الحضري، دون أن تشمل استثماراته المجال القروي، وذلك أن تهميش البوادي المغربية، وتركيز السياسة التنموية بالمدن الكبرى، من شأنه أن يطرح مشاكل حادة، ليس فقط بالنسبة للقرية، كذلك بالنسبة للمدينة وبالتالي للمجتمع المغربي ككل ، لذا فالثروة الوطنية يجب أن توزع بشكل أفضل وأن يستفيد من الازدهار المواطن الحضري وكذلك القروي، وسكان مستوى ترابي محلي معين وسكان مستوى ترابي آخر، ومن تم فأي تأخر في إزدهار مستوى محلي معين، إلا وأنه يلقى بثقله على المستويات المحلية الأخرى، ومن ثم يجب العمل على إدماج متوازن للمقاربتين[99]، وعدم التمييز بين القاعدتين، أي الاستثمار في مستوى محلي معين دون الآخر.
فأغلبية البوادي المغربية تشكو من نقص صارخ في التجهيزات الاجتماعية اللازمة للحياة اليومية ( طرق، مؤسسات تعليمية،صحية ومؤسسات صناعية، وتجارية) في الوقت الذي تحتاج هذه الأخيرة، إلى النهوض بها ودفع القطاع الخاص إلى الاستثمار بالمناطق القروية عوض المناطق الحضرية، فمقولة المغرب النافع والمغرب الغير النافع، لازال يعيش التفاوت سوسيواقتصادي، الشديد نحو التركيز بالمناطق الساحلية[100]، نتج عنها نزوح السكان القرويين إلى العيش في نمط حضاري بحثا عن التقدم والتحضر.
فإيقاف نزيف هجرة السكان القرويين وخاصة الشباب منهم إلى المراكز الكبرى ووضع حد لعدم الاندماج والتخلف الدائم[101]، يقتضي إعادة النظر في التوزيع العادل للنشاط الاقتصادي، الذي يعتبر القطاع الخاص رافع لتنميته وتنمية المجتمع ككل، فوضوح استقرار القطاع الخاص في بعض المناطق دون أخرى، متجلي إذا أخذنا مثلا لتمركز المقاولات الصناعية في بعض جهات المملكة والذي تفسره ظهور إقتصاديات التكتل التي من شأنها أن تؤدي إلى تكريس الفوارق[102].
ثانيا :الحدود المرتبطة بالتنافسية
تعد المستويات المحلية الفاعل الأساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ،فهي كوحدات إدارية متمتعة بالاستقلال المالي والإداري ،يقتضي الأمر منها الانخراط مع كل التقلبات التي يعرفها العالم اليوم ،وبالتالي فمسألة انفتاحها على المحيط الخارجي مسألة ضرورية وحتمية للغاية عن طريق تبيان مؤهلاتها الطبيعية والبشرية ، إلا أن هذه النظرة المغايرة في التدبير تواجهها بعض العوامل المؤثر في فنية هذا التدخل العمومي (الفقرة الأولى)، زيادة على توفير الاحتياجات الضرورية للمستويات المحلية حتى تبين ما تزخر به من موارد بشرية على الخصوص (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : إشكالية التسويق الترابي وسياسة الإعلام والتواصل
إن التسويق الترابي، يحيل على مجموعة الأعمال التواصلية والإعلامية والمجهودات المبذولة من طرف هيئة ترابية من أجل إقناع مقاولة باختيار ترابها موطنا لممارسة أنشطتها[103]، وهذه هي الإمكانية التي يفتقر إليها المغرب بصفة عامة والجماعات الترابية بصفة خاصة،
فالسياسات المحلية لا تعتمد على هذه التقنية بتاتا،رغم ما تقتضيه النظرة الجديد “للجماعات المقاولة” من أجل تلميع صورة التراب والامتيازات التي يخولها للمنشآت الإنتاجية من خلال تقديم معلومات حوله تتميز بالتنوع والتكامل،وتتسم بالانسجام والتنظيم والوضوح[104]، ويمكن تعبئتها واستغلالها في وقت وجيز ومن أماكن مختلفة من طرف مستهدفين متعددين[105].
إضافة إلى ضعف الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة ، على اعتبار أنها تسمح ببناء إدارة ترابية عصرية دائمة الإصغاء لمحيطها ومتفاعلة معه ومع التطورات التي تعمل داخله، وقادرة على توفير المعلومات الكاملة حول خصائص ترابها والامتيازات التي توفرها بالنسبة للوحدات الإنتاجية ، وكذلك طبيعة الإجراءات والمساطر التي يلزمها الإجابة عليها من أجل إخراج مشروعها الاستثماري إلى حيز الوجود، وبذلك يبدو مشروع الإدارة أو “الحكومة الالكترونية” كنتيجة حتمية للتفاعل فنيا بين مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتبسيط المساطر وتوطيد العلاقة مع المقاولة[106]، فبالرغم من أن غالبية الوزارات الكبرى ومصالحها الغير ممركزة أحدثت مواقع إلكترونية لها على الانترنيت وأنها نشرت بنوك للمعطيات القانونية أو معلومات تهم المساطر المعتمدة من طرفها، إضافة إلى بعض مواقع الالكترونية التي تعرف بالإمكانيات الجماعات الترابية ، فإن غالبية هذه المواقع لا توفر سوى معلومات عامة عن الجماعات الترابية والمؤسسات وأنشطتها ، كما أنها تعاني من مشاكل تهم تدبير المحتوى خاصة فيما بتعلق بالتطبيقات المتعلقة بتحيين ونشر المعلومات على هذه المواقع الالكترونية .
زيادة على ذلك فالإدارة الترابية ،لا تعتمد كذلك على الأساليب الموازية،التي تهم أساسا القيام بحملات إشهارية بغية التوجه مباشرة إلى العينات المستهدفة من عملية التسويق وذلك بواسطة تمرير هذه الحملات من خلال وسائل الاتصال الجماهيرية (التلفزة، المذياع… الصحافة) أو عن طريق الندوات المحلية وبعد ذلك الوطنية إلى غاية الوصول للدولية لتبيان المؤهلات المتوفرة.
الفقرة الثانية :إشكالية منظومة التربية والتكوين
إن من أهم الإشكالات المطروحة اليوم بالنسبة للقطاع الخاص ،هو إشكال التربية والتكوين الذي لا يؤطر ويكون الموارد البشرية بالشكل المرغوب فيه، وذلك لما عبر عنه أستاذنا الدكتور بوجمعة بوعزاوي[107]. في إحدى محاضراته على كون أن المغرب هو فقط “يحارب الأمية” ، وهذا راجع بالأساس الى ضعف المستوي التعليمي ببلادنا والذي يتسم بالتفاوت بين الوحدات الترابية من خلال توفير البنيات الأساسية المتعلقة بتوفير هذه الخدمة الضرورية لتطوير مسلسل التنموي ببلادنا ، فبدون الرقي بالمستوى التعليمي لساكنة المحلية .
فاستحواذ الجهات الكبرى للمملكة على أغلبية المؤسسات التعليمة يؤثر بشكل سلبي خاصة على البوادي والقرى، التي يعجز أفراد هذه الجماعات الترابية على تغطية مصاريف الدراسة لأبنائها وهذا راجع للارتفاع التكاليف وبعد المسافة مما يعجز معه بذلك كثرة الهدر المدرسي ، وضياع الجماعات الترابية من الاستفادة من خيرات ومؤهلات وقدرات أبناءها للرفع من أدائها الاقتصادي ، ومجابهة الدول المتقدمة ومنافستها ،فالفقر ،وتفاقم معدلات الهشاشة[108]، وإذا ما قلنا فالوقت الراهن يتطلب توفير الموارد البشرية المؤهلة لتحقيق أعلى مستويات الجودة التنافسية.
كذلك يتجلى الإشكال حاليا في هذه المنظومة، الضعف في التكوين اللغوي الأجنبي خاصة اللغة الفرنسية، والإنجليزية ، فالمغرب لما يحظى به من تموقع جغرافي وقربه من القارة الأوروبية، وجب عليه العمل أكثر لإعطاء المردودية واكتساب اللغات الأجنبية باعتبارها أداة للتواصل ليس فقط خلال الدراسة وإنما خارجها، من هنا يتضح أن المهارات البشرية المتوفرة لدى الجماعات الترابية ،غير القابلة للتسويق وأن الفجوة مابين خريجي الجامعات ومتطلبات اقتصاد السوق ، يراها أصحاب الأعمال من أهم عوائق الأداء والإنتاجية للعمالة الوطنية[109]. فالعمل البشري هو الذي يخلق الثروة وهو الذي يطور الجماعات الترابية و الدولة ، لذا فمن الضرورية أن تكون هناك مساواة بين مختلف الوحدات الترابية في توفير هذه الخدمات الاجتماعية للمواطنين ، من مؤسسات ابتدائية وإعدادية وثانوية وجامعية ،هذا دون أن نغفل دور مراكز التكوين المهني ذات الارتباط المباشر بالقطاع الخاص ،فنقص عددها الذي لا يواكب حاجيات البنيات التقنية التي تحتاج اليها [110]، المقاولات الخاصة وكذلك الجماعات الترابية للأجل تطوير مسارها ، وهذا يتضح من خلال الجدول التالي[111] :
إن كل هذه المشاكل التي يتخبط فيها القطاع الخاص لا تجعله يتطور بتطور الوقت وتطور الجماعات الترابية ومسايرتها للنهج التنموي الحداثي الذي رسمه جلالة الملك محمد السادس.حيث قال: “إنه لا مكان لتنمية اجتماعية بدون تنمية اقتصادية مما يستوجب بناء اقتصاد السوق فهذا لا يعني السعي لإقامة مجتمع السوق، بل يعني اقتصادا اجتماعيا تمتزج فيه الفعالية الاقتصادية بالتضامن الاجتماعي[112] ” ومنه فالتنمية بصفة عامة تتطلب الانطلاق من ماهو محلي لبلوغ الذي بتكامله ستتحقق التنمية المحلية وتنتج لنا تنمية اقتصادية واجتماعية وطنية.
خاتمة :
في الختام لا يسعني إلا أن أقول، فالنهوض بالتنمية المحلية اليوم في بلادنا واجب العمل حقيقة. بإشراك كل مكونات المجتمع بما فيهم القطاع الخاص، وتوفير الأرضية المناسبة له . ومعالجة كل الإشكالات التي تحول دون تطوره في بلادنا وجعله يلعب دوره الأساسي . ألا وهو ” تحقيق التنمية المحلية ” . التي تقتضي الأخذ بعين الاعتبار تنمية الفرد والذي هو بدوره سينمي الأسرة. لينتقل بعد ذلك إلى تنمية المجتمع لنخلص إلى تنمية الدولة ككل. فالفرد داخل القطاع الخاص يجب أن تحقق كل شروط العيش الكريم من أجر حسن، وتغطية صحية، والتعويض عن الساعات الإضافية ، ومعاملة حسنة، حتى يتسنى لهذا الأخير إعطاء المردودية لشخصه ولرب العمل وللمجتمع ككل بتوفير الحاجيات الضرورية للمجتمع ومن ذلك من واجب الدولة كطرف أساسي في بلورة التنمية المحلية وتجسيدها على أرض الواقع ، بجانب الجماعات الترابية على أن تقوم بوضع الأولويات التالية حتى يتسنى للقطاع الخاص القيام فعليا بالدور المنوط به محليا ووطنيا وذلك من خلال الانخراط الجاد في تكييف مناخ العمل الإداري المحلي ليكون فضاءا مناسبا لاستقبال و إنعاش المبادرات وذلك بالحرص على مجموعة من النقاط الأساسية التالية:
– ضرورة خلق بوابات الكترونية خاصة بكل جماعة ترابية وذلك لتوضيح العروض الاستثمارية المحلية و كذا جميع المشاريع و البرامج و المؤهلات على مستوى ترابها، ويمكن الإشارة على وجه الخصوص إلى الشفافية و التواصل والإدارة الالكترونية وتبسيط المساطر الإدارية ، وذلك عن طريق جمع المعطيات المتعلقة بكل مستوى ترابي عوض الإشارة إليه بشكل متفرق، وفي هذا الإطار نشير إلى الأخبار المتعلقة بالاستثمار على مستوى البوابة الوطنية للمملكة و التي تبرز أهم الأخبار و المعلومات الاستثمارية المتعلقة بالقدرات الاستثمارية لكل مستوى ترابي.
إن النظرة الجيدة لتدبير المحلي ، يجب أن تسخر كافة الإمكانيات في سبيل جلب العملة الصعبة بواسطة استقطاب الاستثمارات الأجنبية، مستغلة في ذلك كل التقنيات الحديثة للإعلام والتواصل. غير أنه لتحقيق هذه القفزة النوعية، فمن الضروري تغيير طريقة تسيير الشأن العام المحلي وذلك بالانتقال من النظرة التسييرية الضيقة إلى المقاربة التدبيرية الحديثة والمتجددة وذلك عبر عدة منطلقات ، فمنطق الوصاية إلى منطق المصاحبة و المواكبة، عن طريق الرفع من القوة التقديرية و الاقتراحية للهيئات المحلية والعمل في إطار جماعي و مشترك.مما سيمكنها من إقرار حرية المبادرة و إنعاش الاستثمار المحلي وتجاوز القيود القانونية و الاقتصادية.
ـوكذلك الانتقال من منطق المنافسة إلى منطق التكامل، و ذلك على مستوى الجهات فيما بينها وكذلك بين الجهات و باقي المستويات الترابية الأخرى، بحيث أن كل قرار محلي أو جهوي هو مرتبط لامحالة بباقي الفاعلين و لا يزكيها إلا تكامل عمل كل الفاعلين .
إضافة إلى تقوية البنيات التحتية المحلية ،فمسالة إعداد البنيات التحتية شرطا لازما لتشجيع الاستثمار وبالتالي تحقيق التنمية، لكنها غير كافية ما لم يتم اصطحاب كل ذلك بإستراتيجية تسويقية قادرة على التعريف بمختلف المقومات والإمكانيات التي يزخر بها المجال وكذلك مختلف الفرص الممكنة والمتاحة للاستثمار .فتفرض نظرية التسويق المجالي إعداد سياسة تواصلية للتعريف بصورة الجهة والامتيازات التي تخولها للمنشآت الإنتاجية من خلال تقديم معلومات حولها تتميز بالتنوع والتكامل، وتتسم بالانسجام والتنظيم والتشارك والوضوح لأجل جلب المستثمر -مقاولة أجنبية أو وطنية لتحقيق منافع كبرى على المستوى السياسي “الثقة”، والاقتصادي “إقلاع ” والاجتماعي “خلق فرص شغل” والسياحي، التعريف بالمجال الترابي خارجيا وبلورة خاصية تنافسية له.
إن الارتقاء بالدولة والجماعات الترابية الى مستويات متقدمة لابد من إعادة النظر في الاستراتيجيات التي الاقتصادية التي تقوم بها وذلك حتى لا يصبح المغرب ، كمسرحية تدور أطوارها في المناطق الوسطى (محور الدار البيضاء – القنيطرة ) بينما باقي المناطق الأخرى تبقى مجرد متفرج على أطوار هذه المسرحية، فالتفاوتات و الاختلالات بين المستويات الترابية نتج عنها عدم انجذاب القطاع الخاص لكافة المستويات الترابية للمملكة مما رتب عن ذلك تفاوت “لامركزي صناعي” بين مختلف أنحاء المملكة ، فضعف اللوجستيكي للجماعات الترابية أعاد فكرة “المغرب النافع والغير النافع” .
اترك تعليقاً