القوانين الوضعية
من المعلوم بداهة لدى العارفين أن لا حقائق أزلية ثابتة في هذا الكون الشاسع … فما كان أبيض قد يصبح أسودا تحت تأثير الزمن، و ما كان طيبا حلالا .. قد يصبح خبيثا محرما .. و ما كان واجبا مقدسا ـ قد يصبح -القيام به- جريمة نكراء ..
فكل شيء مخلوق في هذا الكون الشاسع متحول، متغير، و نسبي لا يستقر على قرار .. وهو في حركية دائبة و دائمة منذ الخلق الأول .. كحركية مياه البحر في مدها و جزرها ، قد تجلب لك كنزا يغير حياتك نحو الأفضل ،
و قد تقلب مركبك فتغرقك و تبعث بك إلى العدم و الموت ؟
إن هذه الحقيقة البديهية المعلومة من قبل الجميع هي ما يغفل عنها واضعو القوانين و الدساتير الوضعية التي تتحكم في مختلف دول عالمنا المعاصر ؟
إن فكرة وضع بند من دستور أو قانون .. لا يمكن أن يمر عليه يوم أو بعض يوم حتى يصبح ذلك البند أو القانون الموضوع من قبل المشرع حاجزا كثيفا و مانعا عن رؤية حقائق الحياة المتجددة و المتغيرة بطبعها في كل آن و حين …؟
و بذلك يصبح المشرع الوضعي قد ساهم من حيث لا يدري في حجب حقائق وقائع الحياة المتجددة بوضعه للقوانين الوضعية الثابتة و مكرسا للمظالم بين البشر ..؟
و تصبح القوانين الوضعية التي وضعها المشرع عوائق حقيقية أمام حل قضايا الناس و مشكلاتهم، لأن القاضي الذي سيعتمدها للفصل في قضايا الناس و مشكلاتهم ستشكل له هذه القوانين و الفصول و الثوابت القانونية و الدستورية .. حاجزا يمنعه عن رؤية حقائق قضايا الناس و مشكلاتهم
و حياتهم المتجددة و المتغيرة باستمرار ،و بالتالي لن يتمكن هذا القاضي من الفصل فيها بطريقة عادلة ترضي ضميره و إحساسه و واقع الحال .. و إذا فعل ذلك – أي الفصل في القضية بما يرضي ضميره – يكون قد عرض نفسه لمخالفة القوانين الجاري بها العمل ، و بالتالي يكون قد عرض نفسه للفصل من العمل و اتهامه بجهل القانون المكلف أساسا بالخضوع إليه عند الفصل في مختلف القضايا … ؟
إن نظرة سريعة على واقع عالمنا المعاصر يلمح بيسر ما جلبته و تجلبه هذه الدساتير و القوانين الوضعية من ويلات و مآسي و ما تتسبب به من حروب و صراعات ، و أمراض مزمنة و تلوث بيئي و فقر و بطالة مهلكة و إحن و عداوات … لم يسلم منها أحد من العالمين .
إن القوانين الوضعية و الدساتير البشرية تحول المؤمن بها إلى درويش أعمى لا يبصر من حقائق الوجود شيئا يذكر … حتى إن المواطن البسيط ليعجب كيف يتحول رئيس أقوى دولة في العالم ” أوباما ” إلى أعمى ينحاز بكل ثقله إلى الظلم و الباطل و يتخلى بكامل ارادته عن نصرة الحق كما كان يعد شعبه و كل الشعوب المقهورة التي توهمت نصرته لها في حال فوزه ؟ لذلك لا نعجب إن وجدنا أن ابسط مواطن امريكي .. قد أصبح يرى و يبصر أكثر مما يرى ” أوباما ” و يبصر، لان “أوباما ” قد أصبح ينظر إلى وقائع الحياة و مشكلاتها من خلال الدستور الأمريكي و القوانين التي وضعها المشرعون الأمريكيون منذ عشرات السنين ..
و هذه القوانين الوضعية الثابتة قد صارت تحجب عن “أوباما ” و أمثاله رؤية حقائق الأشياء منذ تقلده لمنصبه في رئاسة الولايات الأمريكية المتحدة ..؟
2 سنن القرآن و نواميسه :
لا تمثل آيات القرآن وسننه ثوابت جامدة كما قد يتوهم المسلم من أول وهلة ، بل هي بمثابة المصابيح المضيئة التي تضيء للمؤمن بها وقائع الحياة و قضاياها المتجددة دون زيادة أو نقصان .. مما يتيح للمسلم اختيار ما يلائم فطرته و طبيعته وقناعاته في اجتراح الأعمال و المكتسبات … فإن كانت طبيعته خيرة حفزته بصائر القرآن على اجتراح الأعمال الخيرة و دفعت به أشواطا إلى الأمام ، و إن كان شريرا زادته آيات القرآن و سننه عمى
و قذفت به أشواطا لارتكاب المعاصي واجتراح المزيد من الشرور و الآثام … و كل واحد من الخلق يجد ضالته في آيات القرآن .. و هنا يكمن سر آخر من أسرار القرآن المعجز ؟ و هذه السمات التي يتسم بها القرآن تتجاوز كل قدرات البشر و كل الخلق أجمعين ، مهما أوتوا من بلاغة القول و الحديث .
يمكن تشبيه آيات القرآن الكريم بالشمس التي تشرق كل صباح و تضيء الكون بأشعتها … فهي لا تضيء نفس الأشياء كل يوم بل قد يتغير ما تضيئه الشمس في كل لحظة … كذلك ما تضيء به آيات القرآن في زمن قد يختلف اختلافا جذريا عما أضاءت به في زمن مختلف … فكل من الشمس و آيات القرآن هي كائنات حية مخلوقة لله رب العالمين … على عكس ما يصنعه الإنسان و ينتجه فهي منتجات تفتقد الحياة … وهي منتجات جامدة بل إن الإنسان نفسه قد يصبح كائنا ميتا دون أن يشعر إذا لم ترتبط روحه بخالقها و تستنير بنوره في الحياة … يقول عز و جل : أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون .
سورة الأنعام الآية 122.
3 الناسخ و المنسوخ في القرآن : ؟
إن ما تراءى للمسلمين القدامى و المحدثين بأن آيات القرآن تنسخ بعضها بعضا ؟ بمعنى أن مواقف القرآن تجاه بعض القضايا البشرية يتطور
و يتغير … ليس صحيحا مطلقا .. كما لم يرد مثل هذا المعنى مطلقا في القرآن و إنما ذكر القرآن المعنى التالي للنسخ : “ما ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير” . سورة البقرة الآية 106
فالله يقر أن نسخ آية يوجب الإتيان بخير من الآية المنسوخة أو بمثيل لها لا تغييرها أو تفنيدها بأخرى … وهو أسلوب معجز لا يقدر الجن و الإنس عن الإتيان بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. و سنسوق أمثلة للنسخ الوارد في القرآن :
يقول الله عز وجل في سورة البقرة الآية 219 : ” يسئلونك عن الخمر
و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما
و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ”
إن ظاهر هذه الآية لا يحرم الخمر و الميسر وهو ما يعتمده ضعيفو الإيمان من المسلمين بدعوى أن النص القرآني لم يذكر أنه قد حرم الخمر
و الميسر .. ؟
و الحقيقة التي يدركها المؤمنون الصادقون و العقلاء من المسلمين أن أي سلوك فيه مجلبة للإثم هو محرما شرعا و لا يجب اقترافه مهما كانت الظروف … و هذا ما وضحه القرآن في آية أخرى من آيات الذكر الحكيم : إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ..” ففي هذه الآية الثانية التي ظنها المسلمون الأوائل و المحدثين ناسخة للآية الأولى هي في الحقيقة قد أعادت التأكيد على تحريم الخمر
و الميسر .. على المسلمين بأسلوب أكثر وضوحا لكن المضمون واحد مع الآية الأولى .. أو هي آية شارحة للآية الأولى بأكثر وضوح .
كذلك كل الآيات التي تراءت للمسلمين القدامى و المحدثين أنها آيات ناسخة بعضها لبعض ما هي إلا آيات قد شرحت بعضها بعضا و لم يحدث أن غيرت آية تالية المعنى الوارد بآية أولى مطلقا … فكل آيات القرآن تبقى صالحة لكل زمان و مكان – و هنا يكمن سر آخر من أسرار إعجاز القرآن الكريم – .
فالآيات التي تحدثت عن تحديد القبلة وجهة للمسلمين لا تنسخ مطلقا الآيات التي تتحدث عن : “فأينما تولوا فثم وجه الله” لأن المسلم قد يحتاج هذه الآية لما يكون في حالة حرب أو سفر .. أو في حالة الأسر.. فإن عدم توجهه للقبلة أثناء الصلاة و ذكر الله لا يفسد صلاته .. بل إن صلاته صحيحة بإذن الله عز وجل.
محمد بن سالم بن عمر
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً