فلسفة الأساس القانوني لجريمة الشيك في القانون السوداني
بقلم
محمد محمود أبو قصيصة
قاضي المحكمة الدستورية
توطئة :
استحدثت جرائم الشيكات في القانون السوداني لأول مرة في سنة 1969م ، وقد دعا إليها مشاكل استخدام الشيكات في التعامل بعد قيام ثورة مايو والإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها حيال كثير من الشركات والبيوتات التجارية الأجنبية والمحلية.
وأضيفت مادة جديدة لقانون العقوبات سنة 1925م هي المادة 362(ب) التي جعلت التعامل في الشيكات جريمة في خمس حالات إذا أعطى شخص شيكاً لآخر وارتد ذلك الشيك ، هذه الحالات هي :
1- عدم وجود حساب عند تقديم الشيك المسحوب عليه.
2- عدم وجود رصيد كاف.
3- إيقاف الشيك دون سبب معقول.
4- أن لا يكون الحساب قابلاً للصرف ، بعلم الساحب.
5- تعمد إصدار الشيك بطريقة غير سليمة تؤدي لأن يرفض المسحوب عليه الشيك.
وعند تطبيق هذه المادة بدت فيها ملاحظات منها أن القانون لم يعرّف الشيك ، وأن القانون جعل إصدار الشيك الذي يرتد جريمة من جرائم المسئولية المطلقة في حالتين هما عدم وجود حساب عند تقديم الشيك للصرف وعدم وجود رصيد كاف ، أما الحالات الأخرى فاعتبرت من الجرائم العمدية وهي التي تتطلب وجود قصد جنائي.
من الناحية الأخرى كان يحكم الشيكات ، وما زال ، قانون الكمبيالات لسنة 1917م ، وتقول المادة 76 من هذا القانون :
“الشيك هو كمبيالة مسحوبة على مصرف ومستحقة الدفع عند الطلب ، وفيما عدا ما نص على خلافه فيما يلي تسري على الشيك أحكام هذا القانون السارية على الكمبيالة الواجبة عند الطلب”.
وتقول المادة 3 (أ) من القانون نفسه :
“الكمبيالة أمر مكتوب موقع عليه من محرره وغير مقيد بشرط موجه منه إلى شخص آخر يكلفه فيه بأن يدفع مبلغاً معيناً من النقود عند الطلب أو في ميعاد معين أو قابل للتعيين إلى شخص معين أو لأمره أو لحامل ذلك الأمر”.
وعند جمع هاتين المادتين ، المادة 76 والمادة 3 من قانون الكمبيالات يكون تعريف الشيك كالآتي :
“الشيك أمر مكتوب موقع عليه من محرره وغير مقيد بشرط موجه منه إلى مصرف ليدفع مبلغاً معيناً من النقود عند الطلب إلى شخص معين أو لأمره أو لحامل ذلك الأمر”.
إذن فالشيك كمبيالة يحكمها قانون الكمبيالات وتنطبق عليه نصوصه من حيث التأخير في تقديم الشيك والإبراء والاحتجاج وغير ذلك . وما زال هذا القانون سارياً وهو يحكم التعامل المدني في الشيكات.
على الصعيد الجنائي عدلت النصوص الجنائية المتعلقة بالشيكات والتي بدأت أول مرة في عام 1969م عندما ألحقت بقانون العقوبات لسنة 1925م ، وكان ذلك نتيجة للملاحظات والنقد الذي أبدى على النص الجنائي الذي أدخل على قانون العقوبات سنة 1925م والذي جعل جريمة الشيك في بعض الأحوال من جرائم المسئولية المطلقة . واستجاب قانون العقوبات الذي صدر في عام 1974م لهذا النقد فأصبحت النصوص المتعلقة بالشيكات كالآتي :
المادة 362(ب) :
كل من أعطى شخصاً شيكاً وفاءً لالتزام أو بمقابل ورفضه المسحوب عليه :
( أ ) لعدم وجود حساب له لدى المسحوب عليه وقت تقديم الشيك للصرف ، أو
(ب) لعدم وجود رصيد كاف له لدى المسحوب عليه مع علمه بذلك ، أو
(ج) لوقفه صرف قيمة الشيك بأمر منه دون سبب معقول ، أو
(د ) كان رصيده غير قابل للسحب مع علمه بذلك ، أو
(هـ) لقصده تحرير الشيك بصورة لا يقبلها المسحوب عليه.
يعاقب بـ…………………..إلخ.
وحمل قانون العقوبات الذي صدر في عام 1983م هذه النصوص نفسها في المادة 362(ب) وهو نفس الرقم في قانون سنة 1974م .
وصدر القانون الجنائي لسنة 1991م وهو يحمل نصوصاً مشابهة لذلك مع اختلاف في ترتيب العبارات وتنسيقها ، فجاء نص المادة 179(1) كالآتي :
يعد مرتكباً جريمة إعطاء صك مردود من يعطي شخصاً صكاً مصرفياً وفاء لالتزام أو بمقابل ويرده المسحوب عليه لأي من الدواعي الآتية :
( أ ) عدم وجود حساب للساحب لدى المسحوب عيه وقت تقديم الصك.
(ب) عدم وجود رصيد للساحب كاف أو قابل للسحب مع علمه بذلك.
(ج) وقف الساحب صرف قيمة الصك بأمر منه أو ممن ينوب عنه دون سبب معقول.
( د) تحرير الساحب للصك بصورة غير معقولة مع علمه بذلك . ويعتبر تظهير الشيك أيضاً جريمة في نفس هذه الأحوال . والتطور الذي حدث في نصـوص جرائم الشيكات ، أن القانون جعل هذه الجرائم جرائم عادية ، أي جرائم تتطلب توفر القصد الجنائي بدلاً من جعلها من جرائم المسئولية المطلقة . وهو تطور مهم تلافى العيب الأساسي في قانون 1925م الذي جعل الجريمة من جرائم المسئولية المطلقة ، إذا كان ثمة وجود محسوس لهذا النوع من الجرائم في الفقه الجنائي الحديث.
البعد عن التجريم :
ظلت مؤتمرات الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة ومعاملة المجرمين ، وهي مؤتمرات تعقد كل خمس سنوات ويشترك فيها كبار رجال وعلماء القانون من كافة أرجاء المعمورة تنادي بالبعد عن التجريم وقد أعدت دراسات موسعة في ذلك قدمت في تلك المؤتمرات . ثم وزعت على نطاق واسع من قسم مكافحة الجريمة في الأمم المتحدة ، وكانت الدعوى إلى التقليل من إصدار تشريعات جنائية جديدة وإلى اللجوء إلى الوسائل المدنية والتنفيذية والإدارية عند وجود ما يدعو إلى تنظيم للمرافق أو للعلاقات الصناعية والتجارية الحديثة أو أية مستجدات تحدث وتتطلب تنظيم السلوك في أحوالها .
ويبدو أن من أهم أركان تلك الدعوة الابتعاد عن الجرائم ذات المسئولية المطلقة . وأن تتجه النظرة نحو الصلح ورأب الصدع والتعويض وإصلاح الضرر إلى غير ذلك . والدواعي إلى ذلك كثيرة منها الناحية الإنسانية والنفسية من أثر التجريم على المواطن في مسائل ليست أخلاقية بالمقام الأول وإنما يمكن معالجتها على أصعدة أخرى . والناحية الثانية توفير الجهد والتقليل من الحجم الهائل لتراكمات العمل الجنائي الذي يشغل الشرطة أو الأجهزة العدلية الأخرى .
والناحية الثالثة التكاليف الباهظة على الدولة من تطبيق العقوبة الجنائية ، خاصة السجن ومراقبة الشرطة وما تستغرقه ميزانيات هذه التكاليف وهي تكاليف تحتاج إليها في مرافق أخرى في ميدان مكافحة الجريمة وحفظ الأمن . وهناك نواحي اجتماعية تربوية غير ذلك مثل إبعاد المواطن عن روح القهر وتربيته لأن يسلك سلوكاً اجتماعياً حسناً . وأصبح الشعار المرفوع بالبعد عن التجريم وعدم استحداث تشريعات جديدة تضاف للقانون الجنائي شعاراً يشغل الدارسين والباحثين في مجال علم الجريمة والفلسفة الجنائية ، فإذا فرض المشرع استخراج شهادات التأمين ، أو تزويد أماكن العمل بأدوات السلامة مثل أجهزة إطفاء الحرائق أو ارتداء ملابس واقية أو تسوير المصانع ، أو غير ذلك من الترتيبات من أجل سلامة وأمن المواطن وخدمته ، فلتكن الوسيلة الأفضل لذلك ليس سيف التجريم وإنما استخدام وسائل أخرى مثل التقليل من الامتيازات أو الحرمان منها أو تعليق الرخص أو سحبها أو فرض جزاءات معينة إلى غير ذلك . ويترك التجريم للأفعال العمدية ذات القصد الجنائي شأن ما عليه الحال في الجرائم التقليدية المعروفة كالقتل والسرقة والتعدي على الأشخاص أو الأموال ونحو ذلك.
ذوو الياقات البيضاء :
بيد أن هنالك مجموعة من الأفعال الجنائية ذات خطر بالغ على المجتمع لا تخطئه العين . هذه هي الأفعال الجنائية المتعلقة بالأموال ، وهذه المجموعة تشمل الاحتيال والتزوير وخيانة الأمانة والرشوة والتهريب والتعامل في المجزورات مثل المخدرات والأسلحة والأنشطة التي أطلق عليها حديثاً اسم غسيل الأموال وهي استخدام ثمرات الجريمة على نحو ما يقرب من جريمة استلام المال المسروق في الجرائم التقليدية ، هذه الياقات البيضاء ، ويزيد من خطورة هذه الجرائم ليس وقوعها في المحيط المحلي وإنما انتقالها في المحيط الدولي ، وأصبحت هذه الجرائم محل اهتمام شديد لدى أجهزة ضبط ومكافحة الجريمة على النطاقين المحلي والخارجي وعن طريق أجهزة البوليس الدولي في الحالة الأخيرة.
ورغم أن اتجاه البعد عن التجريم ما زال ماثلاً ، إلا أن خطورة جرائم ذوي الياقات البيضاء أدت إلى تركيز الاهتمام بها خاصة وقد أصبحت ظواهر تقلق المجتمعات قلقاً شديداً . فالفعل متى أصبح ظاهرة منتشرة بالغة الخطورة أدى إلى الزيادة من التجريم . وتبقى الدعوة للابتعاد عن التجريم دعوة لتطبيقها في الحالات التي تكون أقل خطورة والتي يمكن معالجتها عن غير طريق القانون الجنائي.
وجرائم ذوي الياقات البيضاء يمكن معالجتها عن طريق القضاء الجنائي والقضاء المدني لدى اختيار الشخص المضرور . فيستطيع من كان ضحية فعل يقع تحت تعريف الاحتيال أن يرفع دعوى أمام المحكمة المدنية للإخلال بالعقد بسبب انعدام عنصر الرضا . كما يستطيع أن يرفع الدعوى أمام المحكمة الجنائية ويمكنه أن ينال التعويض من المحكمة الجنائية معاقبة الجاني وفق نصوص القانون الجنائي وتعويض المضرور تحت قانون الإجراءات الجنائية وهكذا دواليك.
أما وقد أصبحت إساءة استخدام الشيكات ظاهرة تدعو للقلق وتعيق المسار التجاري والاقتصادي بفقد الثقة في الشيك فقد عمد المشرع ، في محاولة لإيقاف تلك الظاهرة أو الحد منها ، إلى جعلها جريمة عن طريق التشريع لتنضم إلى قائمة جرائم أصحاب الياقات البيضاء فالظواهر التي تنتشر هي من أهم الدواعي لتدخ القانون الجنائي رغم تقدير القانون الجنائي للدعوة إلى التقليل من التجريم ، ولكل مقام مقال.
وإذا نظرنا إلى هذين الوضعين سوياً ، وهما الاتجاه للبعد عن التجريم من ناحية والاهتمام بجرائم ذوي الياقات البيضاء التي من بينها جرائم الشيكات لما لها من أثر سالب على الاقتصاد وعلى حقوق الأفراد أمكن النظر إلى حاصل الوضع القانوني في الآتي :
1- أنه يجدر البعد عن إصدار تشريعات جنائية جديدة ما أمكن ذلك.
2- أنه في حالة انتشار ظواهر مقلقة يمكن اللجوء للتشريع الجنائي استثناءً.
3- أنه إذا دعت الحالة لإصدار تشريع جنائي فليكن ذلك التشريع للأفعال العمدية أي التي تتطلب قصداً جنائياً.
4- أنه في الجرائم القديمة ، يفضل اختيار الطريق المدني متى كان في ذلك حل كاف للإشكال.
وبالنسبة لقضايا الشيكات فإنه قد يكفي التعامل التجاري العادي استخدام القانون المدني بالرجوع إلى قانون الكمبيالات . وليس هذا هو الذي ترمي إليه النصوص التجريمية في القانون الجنائي . وإنما الذي ترمي إليه هذه النصوص هو استخدام الشيك في وقت يعلم فيه من يحرره أن يرمي الآخرين في حبائل شراكه وهو لا وسيلة له بالوفاء في جو يكون فيه هذا السلوك ظاهرة واسعة الانتشار تستدعي لفت نظر المتعاملين في هذا المجال ، من دائنين ومدينين وأجهزة تطبيق القانون وذوي الاهتمام بالنشاط الاقتصادي.
وينطبق على قانون الشيكات الحديث الفقرة (2) أعلاه وهي وجود القصد الجنائي . وكان من أسباب انتقاد هذه الجريمة عند تضمينها القانون في سنة 1969م أن اعتبرتها السوابق القضائية من جرائم المسئولية المطلقة التي لا تتطلب إثبات القصد الجنائي . وهذا النوع من المسئولية في طريقه إلى الزوال وفق الاتجاهات الحديثة ، وقد أخذ بهذا المشرع السوداني منذ قانون سنة 1925م وعندما نص على أن الخطأ في الوقائع لا يجعل الفعل جريمة إذا أتاه صاحبه بحسن نية.
عند صدور قانون سنة 1974م أضاف النص التجريمي شرطاً وهو أن يكون الشيك بمقابل أو وفاء لالتزام.
ولم يكن لهذا الشرط وجود في النص الذي صدر عام 1974م ثم أضاف نفس قانون سنة 1974م والقانونان التاليان له وهما قانون سنة 1983م وقانون سنة 1991م أن يكون إصدار الشيك في نصوص التجريم بعلم الشخص الذي يصدر الشيك . وبذلك يستجيب القانون السوداني لهذا الجزء من المحاذير المتعلق بالابتعاد عن التجريم ما أمكن ذلك ، بجعله هذه الجرائم من الجرائم العمدية التي ترتكب بعلم الشخص الذي يحرر الشيك أو يظهره.
وغني عن القول أن الجرائم العمدية تتطلب القصد الجنائي . وهو القصد الذي تشير إليه المادة 2 من القانون الجنائي لسنة 1991م . وهو يعرف “قصد” بالآتي :
“يقال عن الشخص أنه سبب الأثر قصداً إذا سببه باستخدام وسائل أراد بها تسبيبه أو باستخدام وسائل كان وقت استخدامها يعلم أنها تسبب ذلك الأمر وكان لديه ما يحمله على الاعتقاد بأنها يحتمل أن تسببه”.
وهي تختصر في القاعدة التي تقول بأن القصد الجنائي هو النية أو تصور حدوث النتيجة.
خلاصة القول أنه يحكم التعامل بالشيكات قانون الكمبيالات لسنة 1917م متى كان التعامل وفق المجرى العادي للتعامل التجاري . أما بالنسبة للذين يتخذون سلوكاً مغايراً يتعمدون فيه إصدار شيك في وقت يعلمون أنهم لا سبيل لهم بالوفاء وعند توفر القصد الجنائي ، فإن الحكم في هذه الحالة يكون للقانون الجنائي لأن من يحرر الشيك في هذه الظروف يخرج التعامل التجاري عن مساره.
وإذ نقول هذا فلا يفوتنا أن نذكر أن في القانون الحالي ثغرتين هما أن القانون الجنائي لم يعرف الشيك (الصك) إذ ليس كل ما ينطبق على الكمبيالة ينطبق على الشيك بنص المادة 76 من قانون الكمبيالات . والثغرة الثانية في المادة 179(أ) التي تقول : “عدم وجود حساب للساحب لدى المسحوب عليه وقت تقديم الصك . والثغرة في هذه الفقرة أنها لم تحدد متى يكون تقديم الصك . فإن كان ميعاد الدفع محدداً في الشيك ، حاضراً أو مستقبلاً ، فلا إشكال . أما إذا لم يكن هنالك ميعاد محدد للدفع فهنا يقع الإشكال . ماذا لو تأخر تقديم الشيك للمصرف تأخيراً غير معقول ؟
في هذه الحاة يحوي قانون الكمبيالات نصوصاً للإبراء في المادتين 44 و 76 . ماذا يحدث إذا قدمت القضية أمام المحكمة الجنائية تحت المادة 179 من القانون الجنائي.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً