الموقف في الأردن من مبدأ التنفيذ العيني الجبري لبيوع العقارات خارج دائرة تسجيل الأراضي
لم يكن موقف المشرع الأردني واضحًا في معالجته لمبدأ التنفيذ العيني الجبري بالنسبة للعقود المبرمة خارج دائرة تسجيل الأراضي. والسبب في ذلك هو اضطراب النصوص القانونية، وعدم اتساقها، مما انعكس أيضًا على دقة القرارًات القضائية في هذا الشأن. فالقانون الأردني ومن ورائه القضاء الأردني لم يقلد الفقه الإسلامي الذي يعتبر العقد رضائيًا على الرغم من تأثر القانون الأردني دائما بهذا الفقه على طول القانون وعرضه، ولم ينتهج نهج القانون والقضاء المصريان اللذان اعتبرا هذا النوع من العقود رضائيًا ويتراخى فيه أثر واحد وهو انتقال الملكية لحين التسجيل. كذلك لم يأخذ بطريقة القانون العراقي التي جاءت واضحة باعتبار التسجيل ركنًا لانعقاد العقد فاستخدمت النصوص القانونية العراقية عبارة “لا ينعقد العقد..الخ”. وحينما وجد المشرع العراقي عقم هذا النهج وعدم عدالته، على الأقل في بعض الأحيان، عدل من موقفه بإعطائه المشتري أحيانًا حق المطالبة بالتنفيذ العيني الجبري متجاوزًا بذلك القاعدة الأساسية التي لا تعطي المشتري هذا الحق.
ولنأتي الآن لتحليل النصوص الأردنية بدءا من أهم مادة معول عليها لدى الشراح والقضاة، وهي المادة ٤١ التي تقول: “في الأماكن التي ٣ من قانون تسوية الأراضي والمياه رقم ( ٤٠ ) لسنة ١٩٥٢ /١٦ تمت التسوية فيها، لا يعتبر البيع والمبادلة والإفراز والمقاسمة في الماء صحيحًا، إلا إذا كانت المعاملة قد جرت في دائرة التسجيل”. ويقصد بعبارة (تسوية الأراضي والميا ه) تسوية جميع المسائل والاختلافات المتعلقة بأي حق تصرف أو حق تملك في الأرض، أو المياه أو حق منفعة فيها، أو أية حقوق متعلقة بها وقابلة للتسجيل. وهذا يعني أن قانون التسوية، جاء بعملية تنظيمية شأنه في ذلك شأن بقية القوانين في العالم. ومن حق المشرع أن يعتبر الحقوق غير المسجلة وفقًا للإجراءات التي جاء بها هذا القانون غير صحيحة، لأن المشرع أراد قطع دابر النزاعات بشأن هذه الحقوق، ووضع العديد من الإجراءات من أجل الوصول إلى دقة القيود الواردة بشأنها. لذلك أعطى قانون التسوية لمدير الأراضي والمساحة أو من يقوم مقامه، الحق في تصحيح الأخطاء التي تحصل في هذه القيود، دون الرجوع إلى أي شخص أو هيئة أخرى عندما يثبت للمدير وقوع خطأ في قيد من قيود سجل الأموال غير المنقولة، نشأ عن سهو كتابي أو سهو في المساحة. كذلك أعطاه الحق في إجراء تغييرات في سجل المياه من وقت لآخر عندما يثبت بما يقنعه وقوع خطأ في التسجيل ناشئ عن سهو كتابي أو سهو في المساحة. وعندما يثبت للمدير وقوع خطأ في جدول الحقوق النهائي، نشأ عن سهو كتابي أو سهو في المساحة أو خطأ في ربط الحدود على الخرائط أثناء عمليات المساحة، يقدم المسألة إلى قاضي محكمة التسوية، وعند غيابه إلى قاضي الصلح ليصدر قرارًا نهائيًا فيها”.
وهذا الأمر التنظيمي لا يختلف عما ورد في دول أخرى لا زالت تعتبر هذا العقد رضائي ًا. ففي المغرب سلك المشرع المغربي نفس الطريق في البيان الذي يتعلق بالضابط العقاري المعروف بضابط، الذي جاء فيه: “أن الضابط العقاري الجديد المعروف بضا بط ) تقييد الأملاك العقارية لعام ١٩١٣ تقييد الأملاك العقارية لعام ١٩١٣ وسائر النصوص التابعة له منوط باتخاذ الكنانيش العقارية وأن المقصود من الضابط المذكور هو تقييد كل عقار بكنانيش خاصة تعرف بالكنانيش العقارية بعد تحديده معاينة بصورة مدققة ويوضع له اسم وعدد خاص به مع الايضًاحات الكافية فيما يتعلق بالأمور الهندسية والقانونية حتى يتضح حق الملكية بصورة ثابتة نهائيًا. وتجمع في كل رسم من رسوم الملكية المحررة على هذه الصورة سائر الحقوق العينية والأداءات المالية التابعة للعقار، وكذلك سائر الانتقالات أو التغييرات المتعلقة به. وأما الرسم العقاري فيكون مبينا لحالة العقار المقيد تبيانًا تامًا.
بحيث يمكن معرفة أصله وحكايته وحالته الحقيقية القانونية بسرعة وبسهولة تامة. وأن الحقوق المقيدة في الكنانيش العقارية تعتبر دون غيرها حجة قاطعة على الغير، ولا يمكن معارضة أي حق غير مقيد من قبل على من له حق مقيد في الكنانيش المذكورة. وعليه فإن هذه الطريقة تضمن للمشترين حقوقهم ضمانا تاما”.
ونفس الشيء لاحظناه في المادة التاسعة من قانون الشهر العقاري المصري رقم ١١٤ لسنة ١٩٤٦ حيث جاء في الفقرتين الثانية والثالثة منه ما يلي: ( ٢-ويترتب على عدم تسجيل الحقوق العينية العقارية الأصلية أن هذه الحقوق لا تنشأ ولا تنتقل ولا تتغير ولا تزول بين ذوي الشأن ولا بالنسبة لغيرهم ٣-ولا يكون للتصرفات غير المسجلة من الأثر سوى الالتزامات الشخصية بين ذوي الشأن). ولقد لاحظنا بأن جانبًا من الفقه والقضاء المصريين كانا يتجهان نحو اعتبار التسجيل وفقًا للنص أعلاه ركنًا لانعقاد العقد ولكنهما صرفا النظر عن هذا الرأي الذي أصبح مهجورًا فيما بعد.
٣ من قانون التسوية الأردني يشير / وعلى هذا الأساس فلا نرى الدليل القاطع على أن نص المادة ١٦ إلى اعتبار عقود البيع التالية لعمليات التسوية المنصبة على عقار عقودًا شكلية لا تنعقد إلا بتسجيلها في دائرة تسجيل الأراضي، لأن القانون حينما يشترط شك ً لا معينًا لانعقاد العقد بدونه يصبح هذا العقد باط ً لا، فإن من المفضل من حيث الدقة القانونية استخدام عبارة “لا ينعقد العقد”، وليس عبارة “لا يعتبر ٣ من قانون تسوية الأراضي الأردني، لأن الشكل مظهر / العقد صحيحًا” التي استخدمتها المادة ١٦ مادي خارجي مقصود لذاته. وفي هذا المجال بالذات يعد إجراء يعلق انعقاد العقد على تمامه، وبدونه يصبح العقد باط ً لا.
ولذلك فليس من العبث أو الصدف القول “لا ينعقد العقد” في المادة ٥٠٨ مدني عراقي والمادة ١٠٣١ مدني مصري، بل وحتى في المادة ١٣٠٢ من القانون المدني الأردني. ٣ من قانون التسوية الأردني، لا / وعلى هذا فإن عبارة “لا يعتبر البيع صحيحًا” الواردة في المادة ١٦ تغني عن القول “لا ينعقد العقد” لأن مفهوم العقد غير الصحيح لا يطابق بالضرورة العقد الباطل. فالعقد غير الصحيح هو العقد الذي أصابه خلل بأن كان أحد المتعاقدين أو كلاهما فاقد الأهلية، أو كان ممن كملت أهليته ولكن القبول لم يطابق الإيجاب، أو كان محل العقد فاقدًا لشرط من شروطه، أو كان سبب الالتزام غير موجود أو كان سبب العقد غير مشروع.
أما العقد الباطل فهو ما ليس مشروعًا بأصله ووصفه بأن اختل ركنه أو محله أو الغرض منه أو الشكل الذي فرضه القانون لانعقاده، ولا يترتب عليه أي أثر ولا ترد عليه الإجازة، ولكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان، وللمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها، ولا تسمع دعوى البطلان بعد مضي ( ١٥ ) سنة من وقت العقد( ٤٧ ) وهذا يعني بوضوح عدم تطابق المفهومين، ولو كان الأمر كذلك لما أورد المشرع الأردني أكثر من نص بهذه المناسبة. كذلك فإن العقد قد ينعقد ويرتب بعض الآثار ومع ذلك لا يعد صحيحًا كما هو الحال بالنسبة للعقد الفاسد.
ولو أراد المشرع الأردني أن يحسم لنا هذا الأمر بشكل قاطع، لوضع لنا نصًا واضحًا في القانون المدني الأردني لعام ١٩٧٦ ، يستخدم نفس المصطلحات التي أشرنا إليها. ولكننا نجد العكس من ذلك، فقد تأثر القانون المدني الأردني بالقانون المصري وخصوصًا المادة ( ١١٤٦ ) التي تقول: “تنتقل الملكية وغيرها من الحقوق العينية في المنقول والعقار بالعقد متى استوفى أركانه وشروطه طبقًا لأحكام القانون”. وجاء في المذكرات الأيضًاحية للقانون المدني الأردني، في معرض شرحها للمادة المذكورة ما يلي: “وإن كانت الملكية في العقار لا تنتقل إلا بالتسجيل إلا أن ذلك لا يمنع من انتقالها بالعقد طبقًا للرأي الراجح ولكن أثره يتراخى إلى وقت التسجيل”. وزادت المادة ( ١١٤٨ ) من الوضع غموضًا وتعقيدًا، إذ نصت على أن “لا تنتقل الملكية ولا الحقوق العينية الأخرى بين المتعاقدين وف ي حق الغير إلا بالتسجيل وفقًا لأحكام القوانين الخاصة به”. وجاءت المذكرات الأيضًاحية للقانون المدني الأردني مؤكدة تأثر القانون الأردني بالقانون المدني المصري عند شرحها لنص المادة ( ١١٤٨) بالقول: “كما نصت المادة ( ١١٤٨ ) على ألا تنتقل الملكية ولا الحقوق العينية في المواد العقارية إلا بالتسجيل ومتى تم التسجيل تعتبر الملكية منتقلة من وقت العقد لا من وقت التسجيل لأن سبب نقل الملكية هو العقد وقد ترك تنظيم أحكام التسجيل إلى القوانين الخاصة به في الأردن”.
يلاحظ القارئ جليًا بأن هذه النصوص وشروحاتها، تؤكد على موضوع انتقال الملكية كأثر يتراخى لحين تسجيل العقد، ولا تتحدث عن انعقاد العقد، وكل ذلك كما أسلفت يأتي من باب التأثر بنهج المشرع المصري.
٣ من قانون التسوية الأردني-كما لاحظنا-دفعنا إلى / وعلى هذا الأساس فإن عدم وضوح المادة ١٦ البحث عن وسائل أخرى لمعرفة موقف القانون الأردني من هذه المسألة الهامة. وحينما انتقلنا إلى القانون المدني لم نجد ضالتنا، وعندها رجعنا إلى المذكرات الأيضًاحية للقانون المدني الأردني التي عادة ما يرجع إليها الباحث عندما يتقصى حقيقة النص ومصدره فوجدناها متأثرة بالقانون المصري الذي يعلق انتقال الملكية على التسجيل (أي لا يأخذ بالشكل للانعقاد أصلا) ولذلك يعتبر البيع وفقًا له صحيحًا ومنتجًا لآثاره بمجرد توافر أركانه (التراضي والمحل والسبب). وعند التخلف عن التسجيل، يستطيع المتعاقد أن يرفع دعوى صحة التعاقد أو دعوى صحة التوقيع.
أما القول بأن المذكرات الأيضًاحية للقانون المدني الأردني منقولة عن المذكرات الأيضًاحية للقانون المدني المصري، وأن النظامين المصري والأردني مختلفان فيما يخص هذه النقطة وبالتالي لا يمكن الاعتماد على المذكرات الأيضًاحية للقانون المدني الأردني للاستنتاج في هذا المجال، فهو رأي لا نتفق معه(.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عاد المشرع الأردني مرة أخرى وخلط علينا أوراق هذه المسألة الهامة عندما نقل نص المادة ( ١١٢٧ ) مدني عراقي نق ً لا حرفيا في نص المادة ( ١١٤٩ ) مدني أردني التي جاء فيها: “التعهد بنقل ملكية عقار يقتصر على الالتزام بالضمان إذا أخل أحد الطرفين بتعهده سواء أكان التعويض قد اشترط في التعهد أم لم يشترط”. ويلاحظ القارئ الكريم هذا المزج غير الموفق للنصوص القانونية الذي يجعل المحلل القانوني في حيرة من أمره في تحديد طبيعة معالجة القانون الأردني لهذا الأمر الخطير*.
وإذا سلمنا بأن القانون الأردني أخذ بنفس نهج المشرع العراقي الذي اعتبر التسجيل في دائرة تسجيل الأراضي ركنًا لانعقاد العقد، بحيث تعتبر العقود المنصبة على عقار خارج هذه الدائرة باطلة، فلماذا كما لاحظنا عن انتقال الملكية بنفس طريقة النصوص الواردة في ، تتحدث المواد ( ١١٤٦ – ١١٤٨ ) القانون المصري؟
وإذا كان المشرع الأردني قد آمن بأن التسجيل ركن للانعقاد ولم يعط المشتري الحق في المطالبة بالتنفيذ العيني الجبري، ويقصر حقه على المطالبة بالتعويض، فلماذا لم يلاحظ مصدره التاريخي، وهو القانون العراقي، الذي حاد عن موقفه السابق وفتح العديد من المنافذ، التي تمكن المشتري من المطالبة بالتنفيذ العيني وعدم الإكتفاء بالتعويض؟
ربما يكون المشرع الأردني قد شعر شيئًا ما بضرورة إعادة النظر في هذه المعادلة غير المنصفة، فقد لاحظنا التعديل الذي طرأ على نص المادة ( ٢١ ) من قانون ملكية الطوابق والشقق رقم ٢٥ لسنة ٥٣ والتي أصبحت بعد التعديل كالتالي: “يعود الفصل في أي ) ١٩٦٨ بالقانون رقم ( ٥) لسنة ١٩٩٠ نزاع يتعلق بالاختلاف حول شروط العقد أو تنفيذه للمحاكم النظامية المختصة، بما في ذلك إصدار القرار بالطلب إلى مدير التسجيل المختص بتسجيل الشقة أو البناية باسم المشتري”.
أما لدى من تولى شرح القانون الأردني من الأساتذة الأفاضل، فقد أصبح من الأمور المسلم بها في الأردن حسب اعتقادهم، أن التسجيل ركن انعقاد في البيع العقاري، أي أن عقد البيع العقاري عقد شكلي لا ينعقد إلا بإتمامه أمام دائرة التسجيل. ومعنى ذلك أن عقد البيع العقاري ليس عقدًا رضائيًا وإذا لم تراع فيه الشكلية المطلوبة فإنه لا ينعقد وليست له قيمة قانونية ولا أثر له.
وقد أكدت هذا الاتجاه قرارًات محكمة التمييز الأردنية، واعتبرت عقود البيع العقارية خارج دائرة تسجيل الأراضي باطلة، إلا أن المتفحص لهذه القرارًات يجدها لا تخلو من التناقض أحيانًا في نظرتها للعلاقة بين البائع والمشتري بالنسبة للآثار التي تترتب على هذه العقود. وسأكتفي هنا بإيراد القرارين التاليين ليلاحظ القارئ الكريم صحة ما نزعمه، فقد جاء في أحد قرارًات محكمة التمييز الأردنية الحديثة ما يلي: “لا يعتبر البيع والمبادلة والإفراز والمقاسمة في الأرض أو الماء التي تمت التسوية فيها صحيحًا إلا إذا جرت المعاملة أمام دائرة التسجيل، وإن تعهد المدعى عليه بنقل ملكية الأرض للمدعي هو في حقيقته عقد بيع لم يسجل أمام دائرة التسجيل ويعد باط ً لا لا يرتب أثرًا وتكون مطالبة المدعي بالمبلغ المتفق عليه كعطل وضرر استنادا للعقد الباطل غير مقبولة ولا أساس لها من القانون”.
وجاء في قرار آخر في نفس العام: “يقتصر التعهد بنقل ملكية عقار على الالتزام بالضمان إذا أخل أحد الطرفين بتعهده سواء اشترط التعويض في التعهد أم لا، ومن الجائز أن يحدد مقدار الضمان سلفا فإذا أخل المتعهد بنقل الملكية فيكون ملزمًا بقيمة التعويض المتفق عليها، ولا يرد القول أن الاتفاق باطل لأنه ناشئ عن عقد بيع باطل، لأن المدعي لا يطالب بتنفيذ عقد البيع وإنما يطالب بالتعويض عن إخلال المتعهد بالتزامه”.
وفي الخلاصة نرى بأن معالجة القوانين الأردنية لهذا الموضوع لم تكن موفقة، ولذلك ندعو بهذه المناسبة المشرع الأردني إلى إعادة النظر بالنصوص المنظمة لهذه المسألة الخطيرة، والاتجاه صوب إعطاء الدائن الحق في المطالبة بالتنفيذ العيني الجبري، حينما يكون ذلك ممكنًا وغير مرهق للمدين، مقتدين بالشريعة والفقه الإسلاميين، وكذلك بالغالبية العظمى من قوانين العالم، ومحققين مبدأ التوازن الاقتصادي والقانوني بين طرفي العلاقة التعاقدية، وهو ما يتمناه المشرع الأردني دائمًا.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً