حق تحصيل الرسم الجمركي متى يتأكد ؟ و كيف يسقط ؟
(1)
أصول الدستور وقانون الجمارك
تقررت الحقوق الدستورية في مصر للفرد والجماعات من عهد تشكيل المحاكم الأهلية في سنة 1882، وإن لم يصدر الدستور إلا في سنة 1923.
أخذ الشارع المصري عن الشارع الفرنسي جميع القوانين بأصولها وفروعها، لم يعدل فيها إلا الشيء القليل فيما لا يتصل بالأصول الكلية..، وكانت تلك القوانين قد قامت على أصول دستورهم، فجاءت القوانين المصرية مبنية على تلك الأسس بدون أن يكون في مصر دستور موضوع على حسب الأحكام المعروفة التي تقررها الدساتير عند الأمم.
لذلك تقرر في قانون تحقيق الجنايات، أن حرية الفرد مكفولة وأن حرمة المنازل، مقدسة، وأن الأسرار الداخلية للناس في جميع أعمالهم، وأحوالهم لا يجوز لأحد أن يتطلع إليها أو يرغب في اكتشافها، فلا تضبط الرسائل والمكاتيب ولا الدفاتر، إلا في الحدود التي يعينها القانون، ولا يجوز للمحققين، ولا لرجال الضبطية القضائية أن يتعرضوا للأفراد، بأي نوع من أنواع التعرض مهما كان خفيفًا، بل لا يجوز لهم أن يسألوا سؤالاً بسيطًا أي فرد عن أي أمر إلا في الحدود المرسومة في القانون، وتعين لرجال الضبطية القضائية، ورجال الجمارك معدودون منهم أن لا يحققوا أو يؤدون أي عمل من أعمال التحقيق إلا في حالة التلبس وما ألحق به بالنص:
وإذا شئت التدقيق التاريخي فإن هذه الحقوق الدستورية قد تقررت في علاقات التجار مع مصلحة الجمارك قبل أن تصدر قوانين المحاكم الأهلية من عهد قديم بل وقبل أن يصدر قانون المحاكم المختلطة أيضًا لأن التجارة بدأت في مصر، واستمرت إلى عهد قريب في يد الأجانب، وكانت الدول حريصة على الاحتفاظ بحريات أفرادها، حرصها عليها في داخل بلادهم فاقتضت من الدولة العليا أن تعقد المعاهدات المقررة لحقوق التجار، والتي تحدد سلطة رجال الجمارك وحدودها، واضطرت الدولة العليا، حماية للتجارة، وهي من عناصر حياة الأمم اضطرت أن تضع تشريعًا للجمارك.. يتفق مع تقرير تلك الحقوق الدستورية، ويمتاز وحده في ذلك العهد القديم باحترام تلك الحقوق على خلاف جميع القوانين الأخرى – بدون استثناء – فإنها كانت تضع الفرد تحت رحمة السلطة التنفيذية، تتصرف في حياته وشرفه كيفما أرادت.
لسنا في حاجة – ونحن في مقام قضائي محدود أن نستعرض المعاهدات القديمة العهد – ومظاهر التشريع العثماني عن الجمارك، ونقارن بين نصوصه، ونصوص التشريع الحالي، ونكتفي في حدود البحث بمواجهة التشريع المصري، لتحديد الأصل الذي عينه وأكده في نصوصه.
لم يكن في مقدور الشارع أن يخرج التجار من حمايته التي كفلها للناس جميعًا، وجعل بها حقوقهم وحرياتهم ومنازلهم وأسرارهم في مأمن دائم، وهم طائفة تعمل لحياة الجماعة لا يجوز أن يحرموا من تلك الحقوق.
لكن المصلحة العامة – في تحصيل الرسوم – تقتضي أن يضع كل ما يمكن من الأنظمة والطرق الموصلة للتحصيل مع رعاية تلك الحقوق الأساسية، لحياة الجماعة.
لتحقيق هاتين الغايتين ضمان التحصيل ومنع التهريب، من ناحية ثم كفالة الحقوق ودفع طغيان السلطة من ناحية أخرى اتخذ الشارع الإجراءات الآتية:
1 – أنشأ لدخول السفن التجارية بما فيها من البضائع أمكنة معينة على سواحل البلاد يقيم فيها المأمورون بالتحصيل، فلا تدخل سفينة إلا من هذا المكان ولا تدخل بضاعة بدون أن تدفع الرسم المقرر.
2 – أنشأ مصلحة لخفارة السواحل مهما اتسعت لعل تاجرًا يحدث نفسه بإدخال بضاعة في مركب صغير أو بأية طريقة يمكن للمحتالين أن يتصوروها.
3 – أعطى لرجال التحصيل عند النزاع في قيمة الرسوم أو عند النزاع في نوع البضائع سلطة التقرير نهائيًا بإلزام التاجر بدفع القيمة التي يقدرونها، ولا يجوز له أن يتظلم أو يرفع دعوى لجهة القضاء.
4 – وأخيرًا، وهنا نجد الخروج عن حدود التشريع العادي فرض عقوبة التهريب فرضًا جعلها أكبر هؤلاء من عقوبات الجنايات، على جميع أنواعها فإن شرك العقوبة أن تقع الجريمة فعلاً أو أن يشرع المتهم في ارتكابها أما القصد المجرد مهما ثبت وتأكد فإنه لا عقوبة عليه.
أما في وقائع التهريب فإن القصد وحده وبدون أي عمل آخر غير التصميم على التهريب، يجعل العقوبة واجبة.
وحتى لا يفتح الشارع بابًا مبهمًا لتظنن في تقرير القصد تراه قد اهتم ببيان الأعمال التي قد تدل على استنتاج هذا القصد بحيث لا يجوز لرجال التحصيل أن يتخذوا من غير الوقائع التي عينها مدفوعين بالغيرة الباطلة أو بغواية الطمع أو بغرور السلطة توقيع العقوبة عبثًا بحرية التاجر مادة (35).
وبعد أن أقام هذه الحصون وتجاوز الحدود المقررة لتوقيع العقوبات عامة، فقررها على مجرد الفكر يستنتجه من باب الظن والاحتمال وقف بعد هذا أمام الحقوق الدستورية موقف الاحترام التام، فحذر مأمورية تحذيرًا متكررًا متواليًا في كل نص أن لا حق لهم في تحصيل الرسم إلا في المنطقة الجمركية، وداخل حدودها المعينة، فإذا ما دخلت البضائع المدينة، فقد دخلت في حماية الدستور لا يسأل أحد ممن يحملها، هل دفع عنها الرسم أو لم يدفع.
ولقد كان الشارع في ذلك حكيمًا لأنه إذا تمكن تاجر بعد تلك الاحتياطات في الموانئ وعلى السواحل….، وبعد أن أخضع التاجر في التقدير إلى سلطة المحصلين، مهما ظلمت، وبعد أن جعل قومسير الحكومة قاضيًا.. لا تنظر السلطة القضائية في أوامره بأية حجة كانت بعد أن فعل هذا كله…، كان من المعقول أن جميع الرسوم ستحصل، وأن ما لا يدفع بسبب التهريب لا بد أن يكون كمية مهملة جدًا يدخل في الندرة الشاذة، والتشريع لا يحيط بالنادر، ولا يوجد تشريع في الحياة الاجتماعية يأخذ في أحكامه نوادر الوقائع، ومن أمثال الحكمة أن من يريد أن يحيط بكل شيء لا يدرك شيئًا.
أمام هذه الوقائع البالغة في الندرة فمن الجلي وكان هذا لا يغيب على شارع أن تقرير الحق للمطالبة بالرسوم بعد أن تتجاوز البضائع المنطقة الجمركية وتتداولها الأيدي إنما يكون تقريرًا لنظام التجسس، والتفتيش القديم، والوشايات وتقريرًا لأبواب الاتهام من باب الظنون، ونشرًا للفزع بين التجار، بل بين الناس جميعًا، وخروجًا، بهم عن حدود الحياة الاجتماعية، فيصبحون في خطر، دائم، محرومين من كل كفالة دستورية يستوي في ذلك من هرب حقيقة، ومن لم يهرب لأن للسلطة أن تقول دائمًا، قد جاءتني الأخبار السرية، التي لا يعرف أحد مصدرها، وللتفتيش أن يدعي أنه علم، ولا يبين كيف علم، وفي هذا رجوع بالناس إلى الخضوع لشهوة الموظفين، وما أريقت الدماء، ولا قامت الدساتير إلا لمنع إذلال الإنسان، للشهوة.
بناءً على هذه الوازنة، لم يكن للشارع أن يتردد، في تقديس الحقوق الدستورية، وإن ضحى، إن كانت هنا تضحية، بذلك الرسم الضئيل الذي يجوز أن يقال، قولاً مرجعه الوهم والظنون. وهي آثمة، أنه لم يدفع !!
إن القاضي الذي يفهم أن التشريع لا بد أن يحيط بكل نادرة، إنما يشذ عن معاني: التشريع وأسسها، بل يتجاهل قواعد الحياة الاجتماعية وأصولها، فإن الحياة تردد بين مصالح مختلفة، وبحث في إشكالات معقدة، وتقدير لوجوه الضرر، وأخذ بالأخف، وتضحية لبعض المصالح الفرعية، حرصًا على ما هو أغلى وأثمن.
قيل لنا مرة وإذا كان هذا حقًا فأية سلطة إذن تكون مختصة بمحاكمة المهربين، الذين يتمكنون (من إدخال البضائع، الأجنبية إلى القطر بشتى الوسائل دون دفع رسوم الجمارك).
(ثم ألا تكون النتيجة أن تضيع على الخزانة العامة القناطير من الأموال).
هذا الاهتمام بتلك (القناطير من الأموال) إنما هو أثر مبالغة الوهم إذا تمكن، ولا ندري حقيقة كيف يكون لهذا الوهم أن يتجسم في نفس صاحبه، كأن الموانئ قد أبطلت، وكأن البضائع قد صرح لها بالدخول من أية جهة، وكأن رجال الجمرك، قد وقفوا عاجزين عن أية مراقبة، أو كأنهم توافقوا جميعًا، على الإهمال من ناحية، وعلى مساعدة المهربين من أخرى فضاعت بذلك (القناطير من الأموال).
تصفح الجداول العشرية للمحاكم المختلطة، والتجارة هناك، تجد وقائع التهريب في العشر سنوات الأخيرة بين واقعتين، وثلاثة، وعند ذلك تجد أن تلك (القناطير من الأموال)، لا تزيد عن بعض القروش سنويًا، وهي لا تقابل تقرير نظام التجسس والفزع.
فلنا بحق أن نرد هذه الصرخة بإجماع التشريع في مكان، فإذا كان هذا الجزع على (قناطير الأموال) أو كانت هذه الغيرة على الفضيلة – بطلب عقوبة المهربين إذا كان هذا مما يستوقف المشرع حقًا فكيف ضل عنه المشرعون في البلاد الأخرى جميعها، وكيف ضل عنه المشرع الفرنسي، وهو أستاذنا في التشريع وقد أخذنا عنه جميع القوانين بلا استثناء !
ثم لماذا لا يفزع الضمير أمام قاعدة سقوط الحق بمضي المدة وليس التمسك بها إلا خروجًا عن واجبات الفضيلة وإلا ضياعًا لحق جزاء على إمهال المدين إمهالاً قد يكون مرجعه المساعدة وعدم الإرهاق.
إن من يطبقون القانون عليهم واجبات لا ينفع فيها الفزع ولا سبيل لأدائها إلا بفهم النصوص وإدراك حكمتها، وتنفيذها كما وضعت وإلا فقد خانوا واجبهم وهم يظنون في هذه الخيانة فخرًا بعد هذا فلنقرأ النصوص:
(2)
نصوص قانون الجمارك
تلك الضرورة الاجتماعية التي بيناها كانت ماثلة أمام الشارع، وهو يضع نصوص القانون الجمركي يستوقفه عند كل كلمة يكتبها يقرر فيها سلطة لمأموري التحصيل كأنه يتوقع منهم إما بحكم العادة وإما لسوء الفهم، وإما لغرور الطمع أن يتجاوزوا حد سلطتهم فأخذ يكرر ويعيد، ويحذر ويضع العناوين التي تلفت النظر، ويضع الخرائط كأنه يحدثهم بلسانهم، وكأنه يرسم لهم حدود ملكهم والحواجز التي تنتهي عندها سلطتهم مما يمثل حية ظاهرة، وخوفًا من الطغيان يكاد أن يكون مقدرًا أمام عينيه !!
تؤكد هذه النصوص صراحةً أن حق تحصيل الرسوم مرتبط بشرطين:
الأول: أن يكون التحصيل في الدائرة الجمركية فقط أما فيما وراء هذه الحدود فليس للخزانة أي حق في تحصيل رسوم.
الثاني: إن هذا الحق يتعلق وجودًا وعدمًا برؤية رجال التحصيل للبضاعة بأعينهم، في حدود دائرتهم أما إذا لم يروا شيئًا بالعين المجردة، فإنه لا يجب على التاجر شيء، وليس للخزانة أي حق قبله.
وإليك التفصيل:
المادة (2):
هذه مادة واحدة – تجد فيها الألفاظ تتوافق لإثبات – تلك الحقيقة:
فأولاً: قبل أن يكتب الشارع نص المادة – وهو سهل الفهم – نراه يسبق النص بهاتين الكلمتين عنوانًا، وما كانت الحاجة تمس إليه.
لكن الشارع يعلم إلى من يكتب، ويعلم شدة السلطة التي يقررها، وخروجها عن كل معنى قضائي، وعن كل معنى من معاني الإنصاف البسيط، ويعلم أنه مضطر آسفًا إلى تقرير هذه السلطة الخارجة عن النظام اضطرارًا، فيشعر في نفسه بحاجة إلى التكرار، والإعادة، والمزيد بما لا ضرورة له لعله يكبح الشهوة بقدر ما يستطيع !!
إذن – يضع للمادة عنوانًا خاصًا – بهذه الألفاظ:
حدود دائرة المراقبة.
تحدد هذه الكلمات الظاهرة أن وظيفة الجمرك كلها لا توجد إلا داخل هذه الحدود !!
كيف يقول من يقرأ هذه الكلمات أن مراقبة رجال الجمارك لتحصيل الرسوم لا حد لها ؟!
وثانيًا: تقول المادة على افتراض أن البضاعة قد خرجت:
تخزين ونقل البضائع التي قطعت خط الجمارك يكونان تحت مراقبة عمال الجمرك على مسافة كيلو متر (أي ألفي متر) من الحدود البرية ومن ساحل البحر.
من العبث أن نعلق على النص أو نبين من جديد أن حق التحصيل يرتبط بهذه الحدود المعينة:
ثالثًا: إلى هنا قد انتهت المادة عند كل مشرع يضع نظامًا !!
لكن الشارع مضطرب، كما قدمنا فيرى واجبًا، أن يعد نصًا آخر في المادة بذاتها، ليضع النتيجة التي يريدها، مرة أخرى وليلفت كل شخص إلى قصده حتى لا يدعى إبهامًا يعتذر به فكتب:
(وفيما وراء هذه الحدود يجوز نقل البضائع بحرية).
رابعًا: لا تقف المادة عند هذا بل أرادت أن تعين الحالة الوحيدة التي يجوز لرجل الجمرك أن يخرج من حدود سجنه فقالت:
(غير أن البضائع المهربة التي يطاردها عمال الحكومة يجوز ضبطها، ولو بعد قطعها حدود دائرة المراقبة).
إذن لا حق للجمرك في طلب الرسم فيما وراء الحد المعين إلا في هذه الحالة الوحيدة ؟!!
وهذا الضبط الوحيد مشروط فيه أن المطاردة قد بدأت فعلاً، ولكن في (حدود دائرة المراقبة) لا خارجًا عنها وهذا ظاهر:
1 – لأن المادة حددت أولاً دائرة المراقبة والمطاردة تنفيذ للمراقبة بل أشد مظهر لها وقاعدة الحرية تحميهم من كل عبث، فلا يمكن أن تبدأ المطاردة خارج الحدود المعينة.
2 – لأن المادة صرحت، محذرة، بأن الناس لا رقابة عليهم فيما وراء هذه الحدود، وقاعدة الحرية تحميهم من كل عبث، فلا يمكن أن تبدأ المطاردة، خارج الحدود المعينة.
3 – لأن هذه الفقرة الأخيرة وضعت صراحةً أن المطاردة بدأت قبل قطع حدود الدائرة، وحرصت أن لا يضع أثر المراقبة، فالمطاردة، وقد بدأت في حدودها المشروعة لمجرد تمكن الهارب بالبضاعة تحت نظر الموظف المختص من قطع الخط المرسوم:
وخامسًا: نصت هذه المادة أيضًا في فقرتها الثالثة بما يأتي:
ويجوز أيضًا أن تضبط في جميع جهات القطر المصري البضائع الممنوعة أو المحتكر بيعها للحكومة، وكذا الدخان والتنباك متى كان تداولهما بوجه مخالف للقانون.
وهذا تأكيدًا لما تقدم قاطع في أن حق التحصيل داخل البلد لا يتصل إلا بهذه البضائع المعينة أما فيما عداها فلا يوجد حق ولا رسم، ولا سلطة تبحث أو تسأل
ومع صراحة النص، فإليك ما جاء في المعاهدات متعلقًا به:
نص المعاهدة الفرنسية:
هذه المعاهدة مؤرخة في 26/ 11/ 1902، وقد صدرت لائحة الجمارك التي تطبق مادتها الثانية بعدها بسبع سنوات، فنقلت حكمها حرفيًا، وهي منشورة في قوانين الجمارك التي طبعتها مصلحة الجمارك سنة 1917 بالفرنسية في صفحة 134.
نص المادة (20) منها كما يأتي:
إذا قامت شبهة التهريب، فإن عمال الجمرك المصري يجوز لهم الدخول وضبط كل
مركبس حمولتها أقل من 200 طن على حدود عشرة كيلو مترات من الميناء المصري.
وفوق هذا فيجوز لهم الضبط فيما وراء هذه المسافة، إذا ابتدأت المطاردة داخل هذه الحدود، واستمرت بدون انقطاع.
ولسنا في حاجة لأن نقول إن كل ما ثبت في معاهدة واحدة إنما هو مقرر بحكم المعاهدات الصريحة لجميع الأمم بدون استثناء كأنه مكتوب بالضبط في معاهدة، خاصة بين مصر وكل أمة منفردة، وهو بذاته التشريع الجمركي في حق التجار المصريين، لأن المصري والأجنبي في هذا الموضوع متساويان.
لذلك نرى أن اشتراط بدء المطاردة، داخل الدائرة الجمركية بحيث لا تجوز بعدها، مقرر بالنص في جميع المعاهدات فتجده:
1 – في معاهدة إنجلترا: 29/ 10/ 1889 مادة (12).
2 – في معاهدة النمسا: 16/ 8/ 1890 مادة (12).
3 – في معاهدة بلجيكا: 24/ 6/ 1891 مادة (12).
4 – في معاهدة إيطاليا: 1/ 2/ 1892 مادة (12).
5 – في معاهدة ألمانيا: 19/ 7/ 1892 مادة (20).
نجد النص في هذه المعاهدات جميعها، باللغة الفرنسية كما يأتي بالحرف.
Pourra être saisi au delà de cette distance si la poursuite a été commencée dans un rayon de dix kilométre
ونجد الترجمة العربية في مجموعة قوانين الجمارك المطبوعة بالنص الآتي:
(إذا ابتدأت مطاردتها في نقطة لا تبعد عن عشرة كيلو مترات) صفحة 13.
وتجد كلمتي sans interruption الواردتين، في المعاهدة الفرنسية، حل محلهما في نص المعاهدة الثانية من اللائحة كلمتا tenues à vue ومدلولهما واحد:
إذن يجب أن تبدأ المطاردة، داخل الدائرة الجمركية، ويجب فوق هذا، بنص المادة (2)، وبنص المعاهدة الفرنسية أن تستمر البضائع تحت نظر المطاردين إلى لحظة ضبطها.
ومن البديهي أن القول بأن حق تحصيل الجمرك حق مستقل باقٍ لا يسقط حتى بعد خروج البضاعة من الجمرك وبعد دخولها المدينة بمدد لا يدريها أحد فللوزارة أن تطالب بالرسوم بعد سنوات، إنما يهدم هذه النصوص جميعها، سواء في قانون الجمارك أو في المعاهدات.
هذا كله فيما يختص بالمادة (2) وحدها.
التشريع الفرنسي:
يقول أصحاب البنديكت، تحت كلمة (جمرك) تفسيرًا للمطاردة، في صفحة 294 فقرة (719) ما يأتي:
(يجوز لعمال الجمرك ضبط البضائع، داخل المدينة بشرط أن يكونوا رأوها في خط الجمرك وطاردوها، بدون انقطاع وبدون أي فاصل من الزمن).
وفي فقرة (7722):
(وحكم بأنه يجوز الضبط داخل المنازل، إذا بدأت مطاردة البضاعة، عند الدخول، ولم تنقطع المطاردة إلا بفعل المهرب وبشرط أن يكون إدخال البضاعة في المنزل ظاهر أنه حديث بأدلته المادية).
وفي صفة 421 فقرة (2812):
(دعوى مصلحة الجمارك، لا تقبل في غير الزمان والمكان المحدد لتحصيل الجمرك، فيجب إثبات أن واقعة الجنحة حصلت في دائرة الجمرك، أو خارج الدائرة وداخل المدينة، ولكن يشترط في هذه الحالة أن يكون عمال الجمرك، رأوا البضاعة بأعينهم ثم طاردوها، من خط الجمرك إلى المكان الذي ضبطت فيه).
نقض 9 مايو سنة 1843.
نقض 12 أغسطس 1859.
نقض 29 فبراير سنة 1887:
وإذن، فحق الرسم، وإلزام التاجر بالدفع، وكل عمل من أعمال موظف الجمرك، وأولها ضبط البضاعة عينًا أو (ضبطها معنويًا)، أو (ضبطها حكمًا)، بضبط الأوراق التي تدل عليها، كل هذا لا وجود له إلا في حدود ذلك المكان المعين.
المادة (32):
تتفق هذه المادة أيضًا مع المادة (2)، وتفيد التأكيد بأن حق التحصيل لا وجود له إلا في حدود المراقبة الجمركية، وأن المطاردة لا بد أن تبتدئ في حدودها، وقد بينا حكمها استطرادًا، فيما تقدم، نقلاً عن المعاهدات فلا حاجة لتكرارها.
غير أننا نلفت النظر إلى الفقرة الخامسة منها وهذا نصها:
(فإذا وجدوا بضائع ممنوع توريدها…..، ويحررون محضرًا، يجب أن يذكر فيه أن السفينة وجدت داخل خط الملاحظة).
ثم تجد في الفقرة التي بعدها.
وإذا طارد عمال الجمارك..، ويجوز استمرار المطاردة وضبط السفينة فيما وراء عشرة كيلو مترات، ومما يجب ملاحظته بيانًا لأهمية هذا الشرط في التشريع، أن القانون الفرنسي، جعل التهريب جنحة خاضعة لاختصاص القضاء العام، ومع ذلك نراه لا يقبل الجنحة، ولا يسمح للقاضي، أن يسمع التهمة، إلا في حكم هذا الشرط، فلا بد أن تكون الواقعة، حاصلة في حدود دائرة الجمرك، ولا بد أن يكون التهريب، مشهودًا، ولا بد من وجود محضر يدل عليه، ولا بد من أن تبدأ المطاردة داخل الحدود.
المادة (41):
هذا نصها:
في حالة وجود شبهة، احتيال، يجوز للمستخدمين، الكشف والتفتيش داخل المساكن والمخازن، ضمن حدود دائرة المراقبة.
بناءً على هذا فلا نجد نصًا، إلا ويفيد كما قلنا حتى لا يبرح من ذهن أحد، أن استحقاق الرسوم، وحق المطالبة بها، كل هذا معلق على شرط، وجود البضاعة في حدود الجمرك، وعلى شرط، أن يرى الموظفون واقعة التهريب بأعينهم، وعلى شرط، المطاردة، في حدود الدائرة الجمركية، وعلى شرط استمرارها بدون انقطاع، حتى تضبط، أو يفر صاحبها من المطاردين.
هل يجوز تعديل الرسوم بحجة الخطأ أو الغش
أقامت مصلحة الجمارك في هذه السنوات الأخيرة، ثورة عامة ضد التجار في القاهرة وفي الإسكندرية، وفي غيرهما تدعى فيها أنها قد اكتشفت في تقديراتها لرسوم الجمرك التي قدرتها هي وقبضتها، ودخلت البضائع المدن اكتشفت بطرق سرية أنها أخطأت في ذلك التقدير القديم وأن الخطأ سببه فعل صدر من التجار بأن قدموا فواتير مزورة، وأن هذا التزوير قد توافر فيه أركان العقوبة الجنائية، فهي تطلب تفتيش محلاتهم بالجملة، لضبط البضائع، أو الدفاتر، أو الفواتير، والتحقيق في هذا التزوير.
اتخذ في هذا السبيل إجراءًا إجماليًا، لا يعرفه القانون ولا عهد للقضاء بمثله، فقدمت المصلحة، بلاغًا واحدًا باتهام خمسة وعشرين تاجرًا، وطلبت تفتيش محلاتهم وضبط دفاترهم، وذلك اعتمادًا على ما علمته من الأخبار السرية، عن تلك الوقائع القديمة.
ومع غرابة الواقعة، بل مع استحالتها، لأنه من المحال أن تصل أخبار سرية في شأن بضائع دفعت الرسوم عنها، واستهلكت، ومضى على هذا سنوات، إلا إذا سلم بأن للمصلحة طرقًا من طرق السحر تدرك بها الغيب بل تدرك بها أنها قد أخطأت فيما مضى من الزمن.
غير أن هذا الطلب نراه غريبًا كان مقدمًا من جهة حكومية، ولا ينتظر من الحكومة أن ترفض طلب الحكومة، فصدر أمر النيابتين المختلطة والأهلية، بالتفتيش والضبط، جزافًا، فإذا بالتجار يهاجمون في وقت واحد كأنه حرب أعلن وغزو قد تقرر.
طالت التحقيقات، ثم تبين للنيابتين أن ذلك كان خطأ فحفظت جميع المحاضر، إداريًا، لعدم الجناية.
أما مصلحة الجمارك، فبعد أن أخفقت في الطريق الجنائي، لجأت إلى الطريق المدني، تدعى أن لها الحق في أن تقدر الآن الرسوم على تلك البضائع التي لا وجود لها، وتطلب من المحاكم أن تحكم لها بما تدعيه.
ليس هذا العمل أقل غرابة من الاتهام الجنائي، فإنه مكابرة في مخالفة القانون وتحكيم للفوضى، وهدم للتشريع القائم، ولمعاني استقلال السلطات القضائية لتعمل كل منها في حدودها.
هو عمل مخالف للنصوص
(1)
تعلن تلك النصوص التي نقلناها في البحث السابق أن مصلحة الجمارك ليس لها أي حق من الحقوق على البضاعة التي قدر عليها الرسم، ودفعة صاحبها ثم خرج بها فعلاً من (حدود دائرة المراقبة)، ووصل بها إلى ما بعد 2 كيلو.
يقطع هذا بطبيعته في أن تقدير الرسوم الجمركية لا يقبل من ناحية المصلحة التي قدرت وقبضت، ولها من ناحية التاجر أي تقدير جديد ما دام أن البضاعة قد خرجت من تلك الدائرة المعروفة، فلا معنى لدعوى المصلحة بأن من حقها أن تقدر تقديرًا جديدًا مهما كانت الأسباب التي تدعيها لذلك.
نصوص أخرى
المادة (7) من اللائحة:
نصت هذه المادة في فقرتها (3) بما يأتي:
(إذا رئي ضرورة لإعادة الكشف، ولو بعد إتمام الكشف الأول، ودفع الرسوم فللجمرك الحق بإجرائه في أي وقت كان هذا النص على صراحته، يقضي بأن الالتجاء إلى المحاكم وطلب تقدير جديد، لأي سبب من الأسباب، لا يجوز قبوله إطلاقًا:
1 – إن النص إنما يسمح بإعادة الكشف وهذه الكلمة تقتضي طبيعة أن البضاعة لا تزال موجودة في دائرة الجمرك، وفي حيازته، فلها إذا لم تكن باقية تحت يده، فمن المستحيل إعادة الكشف عليها.
2 – لم يقل الشارع ولو بعد خروج البضاعة بل قال: (ولو بعد إتمام الكشف الأول)، وكان من المستحيل أن يقول بعد الخروج لأنه لو قال هذا لهدم جميع النصوص السابقة التي تعدم كل سلطة للجمرك بعد خروج البضاعة، من الدائرة المحددة، وحينئذٍ لكانت نصوصه كتلة من التناقض والفوضى الظاهرة، لا يجوز أن تكون من مظاهر التشريع.
3 – على أن تلك النصوص السابقة إنما وضعها الشارع لمصلحة عامة كما قدمنا: وهي حماية التجارة وتأكيد حرية المعاملات، واطمئنان الناس، وليست هذه الحقوق الأصلية الراجعة إلى أصول الدساتير في الجماعات مما يجوز القول بأن الشارع قد هدمها في لائحة قد احترمت تلك الحقوق العامة بنصوصها الصريحة، فإذا بالشارع يريد بعد ذلك هدمها في نفس اللائحة بعد أن قرر احترامها ببرهة لا تقبل احتمال عدوله عن تلك الأسس وهدمها.
4 – على أن مصلحة الجمارك بذاتها تطبع في لائحتها، وتنشر على الناس بأن هذا الحق مرتبط فعلاً بوجود البضاعة في حيازة الجمرك أما بعد خروجها فلا سبيل إلى تقدير رسم جديد، تكتب المصلحة هذا تعليقًا على هذا النص بعينه، فنجد في أسفل الصفحة ما يأتي:
1/ يجوز للجمرك إعادة الكشف الذي يرى لزومًا لغاية خروج البضاعة من المخازن حتى بعد دفع الرسم.
وواضح بلا جلال أن المصلحة إذا طلبت من القضاء أن تقدر رسمًا جديدًا، فهي تقدر بعد أن سقط حق التقدير، وتقدر في غير حدود السلطة، وهذا هو الممنوع صراحةً.
دكريتو 14 فبراير سنة 1930
نصت المادة (8) من هذا الدكريتو بما يأتي:
(لا يجوز مطلقًا الالتجاء إلى الخبرة القانونية للتحكيم إلا فيما يتعلق بالبضائع التي لا تزال في حيازة الجمرك، فإذا ما خرجت البضائع فلا سبيل لتقدير أي رسم جمركي، بأية طريقة من الطرق كذلك نصت المادة (7) من هذا الدكريتو في فقرتها الأخيرة).
(ولا يجوز للمحاكم بأي حال من الأحوال أن تنظر في المنازعات التي من هذا القبيل…..، ولا في القرارات التي تصدر بشأنها.
تأمل إلى قوة هذا المنع، وإلى تأكيد الشارع في شأنه تأكيدًا، ما كان في حاجة إليه بحسب العادة في وضع الصيغ القانونية:
1 – يقول لا يجوز للمحاكم وكانت الجملة كافية تفي بكل ما يراه من المنع لكنه يستمر فيقول.
2 – بأي حال من الأحوال لا معنى لهذه الإضافة الجديدة إلا التأكيد بمنع كل اعتذار يقدم مهما كان نوعه، وكل حيلة تخطر على فكر من يحتال.
ثم التأكيد، بعدم قبول أي دعوى في هذا الموضوع، سواء كانت من التاجر أو من مصلحة الجمارك ولا يكتفي بهذا بل يستمر أيضًا فيقول.
3 – أن ينظر في المنازعات التي من هذا القبيل، وكلمة (المنازعات) تبين نزاع كل من الخصمين معًا، وتسوي بينهما تمامًا، بدون استثناء.
ثم كلمتا (من هذا القبيل) أي من هذا النوع على وجه التعميم والإطلاق، كأن المادة ترجع من جديد، إلى كلمات (بأي حال من الأحوال).
مواقف كل من التاجر والمصلحة قانونًا
يظهر من هذا كله أن موقف التاجر والمصلحة لا يمكن أن يكون موقف متعاقدين كان تقدير الرسوم نتيجة عقد تم بينهما، كما جاء في بعض الأحكام.
1 – موقف الجمارك:
إن مصلحة الجمارك، لا تتعاقد مع التاجر على شيء.
بل هي تقف منه، بمقتضى تلك النصوص المتعددة، وبمقتضى الواقع الذي لا نزاع فيه، موقف سلطة أقامها الشارع، وخصها وحدها بتقدير الرسوم وبمحض سلطتها؛ وجعل قراره نهائيًا لا يقبل اعتراضًا، من التاجر، بأي وجه من الوجوه، ومنع السلطة القضائية العامة من التدخل في تقدير الرسم الذي تقدره تلك السلطة الإدارية لأي سبب وبأي حال من الأحوال.
إذن موقف التاجر لدى الجمرك، إنما هو موقف فرد، خاضع يجب عليه أن ينفذ ولا موقف له غير هذا.
لو أن التاجر ظلمته المصلحة ومهما كان الظلم بعيد الغور، ظاهر الأركان فإنه لا يجوز للتاجر أن يلجأ إلى القضاء لرفع هذا الظلم الواضح.
ولو قدر موظف الجمرك رسمًا على اعتبار أن البضاعة من نوع الحرير؛ وهي (بفتة سمراء) ظاهرة للعيان، لا يستطيع التاجر أن يقول للقاضي أن يلقي نظرة مجردة إلى البضاعة ليكشف هذا الظلم المجسم !!!
القول إن عملية الجمرك عقد، إنما هو خروج بها عن عناصرها، وموقف كل من الفريقين فيها وعن نصوص القانون أيضًا.
الواقع أن دعوى المصلحة بالرجوع عن تقديرها، بعد أن قبضت وضاعت البضاعة إنما هي ثورة على عملها بذاتها، سواء تصف عملها بأنها قد أخطأت فيه أو قصرت عن تأدية واجبها.
أما كلمة الغش فهي كلمة يراد بها إخفاء أن الموظف قصر في واجبه، إذا كان قد قصر حقيقة فالمصلحة تعتذر لنفسها، وما كان الممثل لسلطة نافذة أن يطلب إلغاء قراره، وما كان له طبيعة إذا طلب إلغاء قراره إلا أن يدعى بأنه كان ضحية غش وقع عليه فضله لأنه لا يوجد مخلوق يطعن على نفسه بأنه قصر في واجبه، أو كان عديم الأهلية لتنفيذ سلطته أو كان ذاهلاً أو قصد الإهمال لرشوة أو حظوة أرادها، فالقول بالغش قول سهل يستر به انحطاطه أو عدم أهليته.
طبيعة حق الجمرك:
هو في ذاته حق استثنائي تقرر على خلاف القواعد، وعلى مصادرة الحرية العامة للتجارة لمصلحة أرادها الشارع، فإن الأصل أن يتمتع الفرد بحرية المعاملة في البضاعة التي يريدها، وهذا يقتضي إدخال كل بضاعة يريد أن يتعامل في شأنها، ولهذه المسألة نظريات اقتصادية معروفة، فقد ينتقل التشريع في الدولة الواحدة من قاعدة حرية التجارة ورفع الحواجز الجمركية إلى قاعدة التضييق في هذه الحرية وضرب الرسوم الفادحة على حسب ما تدعو إليه السياسة العامة ولو خطأ وضلالاً، ولا يجهل أحد هذا التقلب في مسائل الجمارك في مختلف البلاد، فقد انتقلت الرسوم الجمركية في مصر من القليل إلى الكثير بل من العدم إلى التقدير الفاحش في بعض البضائع.
لذلك يكون حق الجمرك حقًا استثنائيًا في طبيعته فيجب أن نطبق نصوص القوانين التي تقرره في حدودها الضيقة من ناحية، ثم من ناحية أخرى وهي الأهم في القهر ومصادرة الحرية لا يجوز تأويل هذا الحق إلى نقيضه، فيقال إنه عقد مصدره الإنفاق والرضا، فيطبق عليه أسباب بطلان العقود.
ويجب من ناحية ثالثة أن تضع أمامك أن التاجر الذي تصادر حريته في حق من حقوقه الأصلية إنما هو ضحية حقيقية له كل الحقوق التي تلازم هذه الصفة وأولها وعلى رأسها أن يدافع عن نفسه ضد هذه السلطة التي إذا طعنته بما تريد، فلا مغيث له ولا مجير، ولا قضاء يأخذ بيده أو يدفع عنه بعض ما ظلم به.
هو إذن صيد في يد المصلحة تفترسه بقوته طالما أن بضاعته في يدها، وفي حدود سلطانها أما إذا خرج فقد دخل في ميدان القوانين العامة، ورجعت إليه حريته، ودخل في ظل الحماية العامة لأمواله ولبضاعته، وقد نجا من هول تلك السلطة الاستثنائية التي لا توجد إلا حيث قررها الشارع.
إذا تقرر ذلك فمن التناقض طبيعة وقانونًا، ولا يوجد قانون يخالف الطبيعة أن يفرض على هذا التاجر أن يكون عونًا على من يظلمه ليقدم له أسلحة يمعن بها في ظلمه.
ومن التناقض طبيعة أن تطلب منه أن لا يدافع عن نفسه بما يستطيع صدقًا أو كذبًا.
خذ على سبيل القياس موقف متهم أمام قاضي والموقفان يختلفان كل الاختلاف، وموقف التاجر أقرب إلى الحق كما سنرى وهب أن هذا المتهم كذب على قاضيه، ثم كذب واحتال ثم احتال، وأحكم الحيلة فخدع القاضي وحكم ببراءته فمن يستطيع يا ترى أن يرجع إلى الاتهام من جديد بدعوى أنه قد تبين أن دفاع المتهم كان احتيالاً وغشًا.
تأمل ترى أن موقف التاجر أقدس في ذاته لأنه يطالب بحق استثنائي كما قدمنا، ولأن الذي يقدر في حقه هو بنفسه خصمه لا قاضٍ يفصل بين الناس، ولأنه أمام ذلك الخصم، فرض عليه الصمت، وضرب عليه الكذب، وأعطى للسلطة التي تقدر أن لا تسمع ما يقول ولو قدم لها من المستندات ما يقنع !!
تقديم فواتير مزورة:
قيل في أحد الأحكام إن تقديم الفواتير المزورة قد يضلل عامل الجمرك فيخطئ في التقدير هذا قول لا ينقص شيئًا من قوة المبادئ التي تقدمت، بل نقول بكل قوة أنه ثورة على التشريع، أو هو تشريع جديد يظن القاضي مدفوعًا بغيرته على مصلحة الخزانة أنه يفسر به القانون وهو يبطله ويستبدله بتشريع من عنده.
الجملة في ذاتها تكرير لكلمة أنه قد حصل غش في التقدير والغش واقعته أنه تقدمت فاتورة كاذبة للموظف الذي قدر فليس هذا القول دليلاً جديدًا بل هو إعادة للاستدلال بالغش، فظن أنه قد اكتشف به دليلاً جديدًا وهو يدور حول وهمه الخاطئ لا يتقدم قيد أنملة.
وإذا تقرر المبدأ الأصلي وخرجت عملية الجمرك من حدود التعاقد الذي يبطله الغش، فلا يردها إلى تلك الحدود بيان واقعة الغش، لأن الواقعة لا تخلق قانونًا، بل الوقائع تخضع إلى القانون يجب تطبيقه على كل واقعة مهما كانت.
نصوص اللائحة أيضًا:
على أن اللائحة لم تترك مسألة تقديم الفواتير لتضليل الظنون وثبات الأوهام، بل نصت صراحةً على أن التاجر له الحرية التامة في أن يقدم الفواتير، وفي أن لا يقدمها ونصت على أن هذه الفواتير لا قيمة لها، ولا تؤثر على الموظف المختص بشيء.
وإذا خرجت الفاتورة من عناصر التقدير بالنص الصريح، فلا معنى لاعتبارها أساسًا للتقدير إلا إذا تيسر للقاضي أيضًا استبدال هذه النصوص بنقيضها.
جاء في المادة (18) من اللائحة فقرة (2).
(يتحتم على التاجر أن يوضح في الشهادة قيمة البضائع، وإذا لم يقبل الجمرك اعتبار القيمة التي أوضحها التاجر أساسًا لتحصيل الرسوم، فيجوز له أن يطلب منه تقديم جميع المستندات التي تبعث عادةً عند إرسال البضائع كالفواتير وبوالص التأمين، والمحررات إلخ.
ثم وإذا لم يقدم التاجر هذه المستندات، أو رئي أنها غير كافية، فيجوز للجمرك أن يعين من تلقاء نفسه قيمة البضائع.
ثم فإذا أبى التاجر دفع الرسوم نقدًا على واقع ثمن الجمرك تحصل الرسوم عينًا.
حينئذٍ قطع النص، في أن التاجر له الحرية التامة في أن يقدم الفواتير أولا يقدمها
وقطع في أنه إذا قدمها فلا تعتبر عنصرًا من عناصر التقدير، بل للمصلحة أن تقدر على خلافها.
وقطع ثالثًا: في أن المصلحة تقدرها على خلاف الفواتير وليس للتاجر إلا أن يخضع وينفذ وإلا نفذ عليه التقدير قهرًا، ومن البضاعة عينًا.
فالقول بكذب أو خطأ في الفاتورة قول ترده هذه المادة، كما ترده طبيعة العمل وصفته القانونية كما تقدم.
موضوع التقدير وأساسه
إن مأمورية التقدير لا ترجع إلى ثمن الشراء المبين في الفاتورة:
جاء في الجزء الأول من قانون مصلحة الجمارك في صفحة 110، ومادة (160) ما يأتي:
(القيمة الواجب توضيحها في الشهادات فيما يختص بالواردات هي التي تساويها البضاعة في محل شحنها أو في محل مشتراها في وقت تقديم الشهادة للجمرك، مضافة إليها مصاريف النقل.
إذن فالمطلوب من التاجر أن يبين قيمته ليس هو ثمن البضاعة الذي اشترى به، فإن هذا لا يدخل في التقدير ولا هو أساسه بل ما تساويه البضاعة، في لحظة دفع الرسم.
النص يستبعد حينئذٍ الفاتورة ويطلب تقديرًا مستقلاً عنها في الزمن، وفي الدليل أي يطلب من عامل الجمرك أن يصدر حكمًا هو حر في تكوين عناصره، لا يضع أي سبب من الأسباب ولا يسنده إلى أي عنصر من العناصر، ولا يسأل عن الظروف التي قام عليها تقديره، فمن الإعنات حقيقة أن يقول هذا العامل بعد أن فرغ من تقديره بحكم سلطته المطلقة الاستبدادية، وبعد أن تنقضي سلطة التقدير، وبعد أن تصبح البضاعة حرة بحكم النصوص أن يقول لقد كانت أسباب تقديري كذا وكذا، ولقد ظهر أني أخطأت فمن حقي أن أعدل.
وإذا جاز التعديل مرة فلم يا ترى لا يجوز مرة أخرى فيرجع إلى القول بأن العناصر التي اكتشفها في المرة الأولى كانت ناقصة، وقد ظهرت له عناصر جديدة تقتضي الزيادة أيضًا، فلا بد له أن يزيد، ولا ندري متى ينتهي تقديره، بل متى ينتهي حق إزعاجه للناس ؟!!
هي مسألة تقديرية صرفه، يقدرها عامل الجمرك، طبقًا لفنه، وللوسائل الكثيرة المعدة عند المصلحة للتقدير، والتي اعتبر الشارع أنها كافية للحرص على الرسوم التي قدرها، وقدر الشارع تقديرًا اعتباريًا، أن العمال المختصين، معصومون من الغلط، ومن الظلم، وقد حل هذا الاعتبار عنده إلى مقام حكم، فمنع التاجر من التظلم من تقدير الجمرك، ومنع القضاء من النظر في هذا الظلم مهما كان سببه.
هذه العصمة التي اقترحها الشارع لعمل الجمرك منع التاجر من المناقشة فيها منع مصلحة الجمارك من باب أولى أن تطعن في عملها، وأن تتقدم للقضاء تطلب إليه أن ينظر في تقدير ما كان لأحد أن يطلب إعادة النظر فيه.
وإن كل نص جعل عملاً من الأعمال نافذًا لا يقبل الطعن فإنما يجعله كذلك، في حق كل من اشترك فيه، فما بالك وهو صادر هنا من نفس المصلحة بحكم سلطتها ولم تشترك فيه التاجر أي اشتراك ما دام أن النص يؤكد أن كل قول أو عمل للتاجر لا قيمة ولا وزن له !!
استحالة وجود مأمورية قضائية
تعرض على القضاء
يخرج بنا هذا الطلب من طبيعة الخصومة القضائية فلا تجد فيها لا موقف مدعٍ ولا مدعى عليه، ولا صفة النزاع القضائي، ولا طريق فيها لإدراك سلطة القاضي، ومعنى القضاء.
أما من جهة مصلحة الجمارك فإنا نسميها (مدعية) خطأ وبحكم العادة، والواقع أنها ليست مدعيًا يعرض دعواه، مثلها مثل كل من يتقدم بدعواه للقضاء.
المدعي مكلف بإثبات دعواه، بجميع عناصرها، والعنصر الجوهري هنا، إنما هو تقدير الرسم الجمركي، وهذا لا يختص به، إلا المصلحة، فهي ليست مدعيًا مكلفًا بتقديم الدليل بل هي سلطة تحكم وتفرض حكمها على القاضي فرضًا لازمًا، لا يستطيع القاضي أن يطلب منها دليلاً على صحة تقديرها لأنه لا يختص بالنظر في هذا التقدير بحكم اللائحة.
ولا يستطيع أن يسأل المصلحة عن الدليل ولا أن يراجعها فيه، أو يلاحظ عليها بأية ملاحظة لأن دكريتو فبراير سنة 1930 يمنعه من ذلك منعًا مطلقًا.
وإذا كان لا يوجد مدعٍ بمعناه القضائي فلا سبيل لتصور الخصومة القضائية، ولا لنزاع يحكم فيه قاضي.
أما من جهة التاجر، فلا سبيل لاعتباره مدعى عليه له الحقوق المقررة، لموقفه في كل خصومة من الدفاع عن حقه في كل نقطة يوجهها المدعي.
أنه لا يستطيع أن يقدم للقاضي دليلاً على بطلان تقدير المصلحة، لأن القاضي ممنوع من النظر في هذا التقدير وهو كل موضوع الدعوى، فيجب على المدعى عليه أن يخضع.
ومن جهة القاضي أخيرًا، فإنه لا سلطة له ولا سبيل لديه سوى أن يخضع لتقدير المصلحة وليس هذا من مأمورية قاضٍ أيًا كان.
الطلب يسمى خصومة قضائية كذبًا، ويعرض على القاضي نفاقًا واحتيالاً على القوانين، أنه يخلق مراكز لا تدخل في حدود التصور القضائي فإذا من يسمى نفسه مدعيًا هو الذي يحكم وإذا بالمدعى عليه محروم من حق الدفاع، إذا بالقاضي محروم من سلطته لا يسأل ولا يقدر بل يخضع لكلمة المدعي فيضع عليها صيغة حكم نافذ ما كان لذلك المدعي بحكم القوانين أن يصل إليه.
وإذا رجعت إلى قوانين الجمارك رأيت نصًا يمنع القاضي من أن ينظر، ورأيت نصًا آخر يمنع تقدير الرسوم إذا خرجت البضاعة، ورأيت نصًا ثالثًا يمنع عند النزاع في الرسوم تقديرها من جديد إلا بوجود البضاعة وعرضها على التحكيم، ثم رأيت نصًا رابعًا يمنع التحكيم الجمركي، إلا إذا كانت البضاعة لا تزال في حوزة الجمرك.
إذا رأيت هذا كله، فلا يتردد أحد في أن موقف المصلحة، فيما تسميه دعوى هو موقف مكذوب.
إنما هو تقدير رسم في غير تلك الحدود جميعها، ومع عدم وجود البضاعة، ولو ليراها القومسير المختص في دكريتو سنة 1930 لتقدير الرسوم من جديد، فإنه بعد أن رأى بعينه وأصبح مسؤولاً يدرك مسؤوليته، ولعل من الشعور بالمسؤولية ما يهدئ روع التاجر ولو قليلاً، وما يؤمن القاضي ولو إلى حد محدود، على أن المسألة بعيدة عن الشهوات، أو صدر فيها قرار من الموظف المختص، بعد اتباع الإجراءات التي قررها القانون.
تأمل هنا تجد التاجر محاط بظلم لا حد له غير استبداد المصلحة بكل حق.
إن من حق التاجر طبقًا للنصوص الجمركية أن ينازع في تقدير الرسم، ولو كانت البضاعة لا تزال في دائرة الجمرك، وله الحق في أن يختار خبيرًا من عنده ليجتمع بخبير الجمرك على أن يكون الفصل أخيرًا لقومسير المصلحة، والتاجر الآن لا يستطيع أن يتخذ من هذه الإجراءات شيئًا فلا دفاع لديه، ولا سلطة تحميه، فحالته الآن أسوأ من حالته في وقت خضوع لسلطة الجمرك وهذا غريب حقًا.
قد يقول من لا يدري الأصول الفقهية أن التاجر هو الذي وضع نفسه في هذا الموقف لأنه قد ارتكب غشًا فلا يحميه القانون.
هو حقيقة قول من لا يروض نفسه على التأمل فإنه يفترض بهذا الاعتراض أن المسألة محلولة على ما يهوي ميله للخزينة أو للمصلحة الوهمية، وأن تلك النصوص كلها لا توجد، وأن التاجر قد صدر منه غش فعلاً، وأن التقدير عقد وأن القاضي قد أثبت الغش أو سيتحققه، وكل هذا لا وجود له إلا من الوهم الباطل، ومن مجال الغيرة وهي لا عرف ضابطًا وهو قول الذي لا يعرف معنى الخصومة القضائية وأركانها الثابتة وسلطة القضاء في شأنها.
إنما تحاول المصلحة أن تجعل مجلس القاضي دائرة جمركية تأمر بتقدير قيمة الرسم، تأمر بما تريد وليس لطلبها معنى غير أنها تجعل طيشها القديم في التقدير حقًا يخضع له القاضي، ومن يدري فلعل الدعوى الجديدة طيش جديد، لا يسند إليه حق.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
مرقص فهمي
المحامي