شرح المادة (376) من لائحة المحاكم الشرعية
نصت المادة (376) من لائحة إجراءات المحاكم الشرعية على ما يأتي:
(القضاة ممنوعون من سماع الدعوى التي مضى عليها خمس عشرة سنة مع تمكن المدعي من رفعها وعدم العذر الشرعي فيه عدم إقامتها إلا في الإرث والوقف فإنه لا يمنع من سماعها إلا بعد ثلاث وثلاثين سنة مع التمكن وعدم العذر الشرعي وهذا كله مع الإنكار للحق في تلك المدة).
الحق لا يسقط بالتقادم مهما طال الزمان، فلو ترك شخص الدعوى بحقه مدة طويلة ثم اعترف به المدعى عليه أمر بأدائه وإن تمسك بترك المدعي لدعواه هذه المدة، إذ لا يتصور التزوير والاحتيال مع إقرار المدعى عليه ومما يدل كذلك على عدم سقوط الحق بالتقادم أنه يجوز سماع الدعوى التي مضت عليها المدة الطويلة إذا أذن ولي الأمر للقضاة بسماعها في بعض الحالات كما سيجيء.
غير أن ترك الدعوى مدة طويلة مع التمكن من إقامتها يدل على عدم الحق ظاهرًا وعلى أن المدعي محتال فيما يدعيه، وهذا ما حدا بالفقهاء إلى منع سماع الدعوى بعد المدة الطويلة وحمل أولياء الأمر على استعمال ما لهم من الحق في تخصيص القضاء بالنهي عن سماع بعض الدعاوى بعد مدة خاصة.
المدة الطويلة – اختلف الفقهاء في المدة التي لا تسمع بعدها الدعوى في أصل الوقف والإرث والمختار أنها ثلاث وثلاثون سنة وبه أخذت اللائحة.
أما في غير الوقف والإرث ومنه دعوى الاستحقاق في الوقف فأصل المدة الطويلة فيه ما ذكر في أصل الوقف والإرث ولكن بعض السلاطين أنزلها إلى خمس عشرة سنة وجرت اللائحة فيه على هذا التقدير ولكون النهي في هذه الحالة عن سماع الدعوى بعد خمس عشرة سنة من جانب ولي الأمر جاز له أن يأذن بسماعها فإن من يملك النهي يملك الترخيص وهذا إذا لم يمضِ ثلاث وثلاثون سنة فإن المنع بعدها حكم اجتهادي نص عليه الفقهاء.
وتحتسب المدة الطويلة بالسنين القمرية لنص الفقهاء على أحكامها غير أن عدم السماع في جميع ما سبق مقيد بالشروط الآتية:
الشرط الأول: إنكار المدعى عليه للحق المدعى به فإذا أقر عومل بإقراره فتسمع الدعوى ويحكم عليه.
الشرط الثاني: ترك الدعوى مع التمكن من رفعها حتى مضت المدة الطويلة والمراد بتركها ألا يطالب المدعى عليه بحقه في مجلس القضاء ولا عبرة بمطالبته في غيره فلو ادعى في أثناء هذه المدة ولو أمام محكمة غير مختصة ثم ترك دعواه قبل الفصل فيها كان ذلك قاطعًا لسريان المدة ويجب لمنعه بعد ذلك أن يتجدد سريانها بتمامها من وقت تركه لدعواه، ومما يجب التنبيه له أن الإعلان متى كان صحيحًا يقطع سريان المدة ولو لم تقيد الدعوى في نظر واضع اللائحة على ما ذكره شراحها كما أنه لم يجعل لرفع الدعوى هذا الأثر في حالتين:
الأولى: إذا حكم ببطلان الإجراءات التي حصلت فيها لعدم استيفاء ما نص عليه في المواد (36) و(37) و(40) و(41) و(42) من اللائحة مادة (49).
الثانية: إذا حكم باعتبار القضية كأن لم تكن على ما هو مدون بالمواد (110) و(113) و(243) من اللائحة.
بيان المدة الطويلة تبتدئ المدة الطويلة من الوقت الذي تتوافر فيه الشروط الآتية:
1 – ثبوت حق المطالبة للمدعي فلو مات زوج امرأة أو طلقها بعد أن عاشرها عشرين سنة مثلاً من وقت عقد النكاح كان لها طلب مؤخر الصداق المؤجل للموت أو الطلاق لأن حقها في طلبه إنما يثبت لها بعدهما.
2 – ظهور واضع اليد على العين بمظهر المالك لها، فإذا وضع يده مقرًا بالإجارة أو نحوها لا تسقط الدعوى مهما طالت المدة، ويشترط في كون الظهور بمظهر المالك مانعًا من سماع الدعوى بعد المدة الطويلة ألا يقترن بما يدل على تناقض المدعي إذا طالبه بما تحت يده، فإذا رأى المدعي المدعى عليه يتصرف في العين زرعًا وبناءً وهدمًا ثم ترك دعواه ولو مدة قصيرة لم تسمع دعواه بها، إذ يعتبر سكوته عند مشاهدته التصرف كالإفصاح منه بأنه لا حق له فيها، وكذا إذا حضر المدعي تصرف قريبه في المدعى به بالبيع أو غيره ثم سكت وهو يعلم بذلك كان سكوته ولو مدة قصيرة مانعًا من سماع الدعوى إذ قربه من المدعى عليه وإطلاعه على أحواله يرجح أن سكوته لعلمه أنه لا حق له فيه بخلاف الأجنبي فإنه لا بد من أن يرى المدعى عليه يتصرف في العين على نحو ما سبق، وجعلوا الزوجة كالقريب والجار الملاصق كالأجنبي في هذه الأحكام.
3 – تمكن المدعي من رفع دعواه فإذا قام به أو بغيره ما حال بينه وبين الدعوى بحقه بدأت المدة من وقت زوال المانع له من رفعها وتقدير هذه الموانع متروك إلى القضاء، إذ ما ذكره الفقهاء لم يورد إلا على سبيل التمثيل ومن هذه الموانع فقد أهلية صاحب الحق ولا ولي له ولا وصي كالصبي والمجنون وغيبته مسافة القصر وبدء المدة الطويلة بالنسبة لهؤلاء يكون بعد زوال المانع فتبتدئ المدة من وقت بلوغ الصبي وإفاقة المجنون وحضور الغائب، ومن الموانع أن يكون المدعى عليه حاكمًا تخشى صولته أو غائبًا مسافة القصر أو ثابت الإعسار شرعًا، وبدء المدة في هذه الحالة يكون من وقت زوال صولته وعودته وزوال إعساره، ومنها أن يكون المدعى به وقفًا ليس له مثول أو تعطل المحاكم لحرب أو شبهها، وبدء المدة في هذه الحالة يكون من وقت تولية ناظر على الوقف وعودة المحاكم لمباشرة أعمالها.
فإذا تحققت هذه الشروط ومضت المدة الطويلة لم تسمع دعوى المدعي بعدها ولا دعوة وارثه بعد موته، وكذا إذا كانت المدة التي تركت فيها المطالبة من المورث ووارثه تبلغ المدة الطويلة لم تسمع الدعوى ولا فرق في ذلك أيضًا بين أن يكون واضع اليد على العقار واحدًا أو تعاقب عليه اثنان فأكثر.
بحث ختامي:
لم أرَ في كتب الفقه بحثًا خاصًا في ماهية الحقوق التي تتناولها الأحكام السابقة من سماع الدعوى بها أو عدم سماعها: أهي الحقوق كافة سواء أكانت ثابتة ثبوتًا شرعيًا أم غير ثابتة من أصلها أم يراد بالحقوق التي تسري عليها هذه الأحكام هي الحقوق التي لم يفصل فيها القضاء ولم تتقرر بطريق شرعي ؟ وذلك أن الحقوق قسمان قسم فصل فيه القضاء أو تقرر بطريق شرعي وآخر لم يتأيد بأحد هذين الأمرين، ومن أمثلة الأول ما إذا طالبت الزوجة بمؤخر صداقها أو بفرض نفقة لها ثم حصلت على حكم بالصداق أو النفقة، ومنها أن يكون هناك كتاب بوقفية عين وقد حرر هذا الكتاب على مقتضى الأنظمة القضائية فضبط وسجل ومن أمثلة الثاني ما إذ طالبت الزوجة ابتداءً بمؤخر صداقها أو ادعى أن عينًا من الأعيان موقوفة من غير أن يكون هناك مثل السند الأول، فهل يكون مضي المدة مانعًا من سماع الدعوى بهذه الحقوق كلها على السواء أو أن التي تأيدت غير خاضعة لهذه الأحكام لبعد من يدعي بها عن التزوير والاحتيال ؟ فالمرأة التي تتقدم إلى تركة زوجها وبيدها حكم شرعي بمؤخر صداقها مضى عليه أكثر من خمس عشرة سنة محفوظ أصله بالسجلات المصونة لا يمكن أن يقال لها إنك تحتالين على ما ليس لك وأنك تدعين بهتانًا وزورًا، وكذا من بيده كتاب وقف إذا طلب الحكم بجريان عين من أعيانه في الوقف وكانت في يد آخر أكثر من ثلاث وثلاثين سنة لا يتصور فيه التزوير والاحتيال لاعتماده على كتاب مسجل محفوظ.
والذي يؤدي إليه النظر أن الحق إن كان ثابتًا ثبوتًا شرعيًا لم تسرِ عليه أحكام المدة الطويلة وإن كان متنازعًا في وجوده كان خاضعًا لأحكامها، وقد كان هذا فيما يظهر رأي واضع لائحة (1880) فقد جاء في نص المادة (14) التي نصت على عدم سماع الدعوى بعد المدة الطويلة (ومع ذلك فكل سند شرعي صادر من المحاكم الشرعية مسجل بالسجل المصان مطابق لما في سجله المحفوظ مستوفٍ شرائطه الشرعية لا يكون مانعًا من سماع دعوى من يدعي حقًا بوجه شرعي فيما تحرر به هذا السند إلى آخر ما جاء بالمادة) غير أن هذا الجزء الأخير لم يرد بمادة (96) من لائحة سنة 1897 التي نصت على عدم سماع الدعوى بعد المدة الطويلة وإن كان قد وزع مع الإضافة إليه على المواد (33) و(34) و(35) من هذه اللائحة، أما لائحة سنة 1910 فلم تنص على ذلك، والظاهر أن هذا العدول لم يكن عدولاً عن الفكرة من أصلها وإنما رأى واضع اللائحة أن المطالبة بالحقوق المؤيدة أقرب إلى التطبيق والتنفيذ منه إلى الدعوى بمعناها الحقيقي، إذ هي تقتضي النزاع في أصل الحق أما هذا النوع من الحقوق فلا نزاع في أصله وإذا حدث لم يكن نزاعًا معتدًا به لقيام الحجة عليه.
حسن العطار
المحامي الشرعي
إعادة نشر بواسظة محاماة نت