المطلب الثاني: جريمة قتل الطفل حديث الولادة من غير الأم :
قد لا تنحصر صفة الفاعل على الأم التي تقدم على قتل وليدها، و إنما يمكن أن تنصرف هذه الصفة إلى الغير كذلك، إذ قد يكون هذا الغير إما قريبا من ناحية القرابة الدموية للطفل حديث الولادة المجني عليه بنفس درجة قرابة الأم له كالأب الذي يزهق روح وليده لسبب من الأسباب( الفقرة الأولى)، و إما أن يكون هذا الغير بعيدا عن الأسرة ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: جريمة قتل الأب لطفله الوليد
من خلال قراءة الفقرة الثانية من الفصل 397 من القانون الجنائي يتبين أن المشرع المغربي لم يمتع الأب الذي يزهق روح ابنه عمدا بأية مقتضيات زجرية خاصة يستفيد منها في تخفيف العقوبة، وإنما اعتبره بمثابة الشخص الذي لا تربطه أية علاقة بالضحية في تقدير العقوبة الجنائية.
و بصفة عامة فإن أب الطفل الضحية لا يستفيد مثل الأم من ظروف التخفيف التي قررها القانون الجنائي لفائدتها للمبررات التي سبق شرحها، وذلك مهما كان دوره في تنفيذ جريمته في حق الابن، سواء كان فاعلا أصليا فيها أو مساهما أو مشاركا.
أما بخصوص التشريعات المقارنة و لاسيما العربية منها فخلافا للمشرع المغربي فقد تناولت موضوع قتل الأب لطفله من زاوية أخرى لا تتعلق بمدى تمتعه بعذر مخفف للعقاب من عدمه، ولكن بمدى تشديد العقوبة في حقه من عدمه، بحيث انقسمت هذه التشريعات حول طبيعة العقوبة المقررة للأب الذي يقتل ابنه، فمنها القانون السوري و العماني و اللبناني و الليبي و التشريع الجزائري الذي اتجه نحو تشديد هذه العقوبة إذا ما وقع القتل العمد ضد أحد الفروع، بينما هناك من التشريعات من لم يرى على ضرورة لتشديد هذه العقوبة معتبرا إياها جريمة عادية ، وهذا ما أخذ به كل من التشريع المغربي كما سبق الذكر و المصري و العراقي و التونسي و القطري و القانون الاتحادي الإماراتي.
وهناك من يعتبر ظرف تشديد العقوبة في حق الأب مبنيا على أساس رابطة القرابة التي تجمع الجاني بالمجني عليه ، وأن تبرير هذا التشديد هو إقدامه على قتل ولده فهو بذلك يدخل في دائرة المجرمين الذين لا أمل في إصلاحهم ، لكونه تنكر لأعمق الوشائح و أقوى الأواصر البشرية ألا وهي أواصر الدم، وخرق حرمة مشاعر الأبوة، وهي مشاعر إنسانية متجدرة ، إذ ينعدم فيه حنان الأصل نحو الفرع.
و لتفعيل ظرف تشديد العقوبة في حق الأب في بعض التشريعات يتعين توفر شروط خاصة يمكن إجمالها فيما يلي:
الشرط الأول: أن يتم إزهاق روح الطفل الوليد:
بحيث يتعين أن يقوم الأصل الجاني بفعل من أفعال الاعتداء قصد إزهاق روح الفرع بصفة عمدية.
الشرط الثاني: ضرورة وجود صلة قرابة تربط الجاني بالمجني عليه:
ويتحقق هذا الشرط من خلال كون المجني عليه أحد فروع الجاني ، فالقرابة التي يجب توافرها بين الأصل و الفرع لتشديد العقوبة المقررة للقتل العمد هي القرابة المباشرة ، و بذلك فلا يجوز التوسع في مفهوم هذه القرابة لتشتمل غير الآباء، فبمفهوم النص لا يجوز مثلا أن يشتمل الأصل الجاني الجد الذي يأتي بعد مرتبة الأب و إن على. وذلك تماشيا مع القواعد العامة المنصوص عليها في القانون الجنائي و التي لا تجير التوسع في تفسير مقتضياتها.
الشرط الثالث: ضرورة تحقق القصد الجنائي:
إن القصد الجنائي المتطلب في جريمة قتل الأصل للفرع يثير بعض الإشكاليات القانونية ، فالقصد الجنائي أو النية الإجرامية الواجب توفرها في هذا النوع من القتل العمدي ينبغي أن يكون مزدوجا أو مضاعفا ، بمعنى أخر يجب توفر قصد جنائي عام و قصد جنائي خاص ، فالأول يقصد به أن يقرر الجاني بصفة إرادية إزهاق روح الضحية ، بينما الثاني يعني علم هذا الجاني أن الضحية المراد قتلها تربطه بها علاقة قرابة الأبوة ، بحيث يستحضر خلالها الجاني في صميم شعوره الذاتي و وجدانه هذه الرابطة التي تصله بالمجني عليه أثناء قتل هذا الأخير.
أما فيما يتعلق بأحكام جريمة قتل الأب لابنه عمدا في الشريعة الإسلامية، فإن أساس مشروعية تحريم هذه الجريمة يستمد مباشرة من الكتاب و السنة، وبعدهما من الأحكام المستخلصة من الإجماع و العقل.
و قد جاء في قوله عز وجل في كتابه الجليل ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما “، وقوله تعالى ” من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكما قتل الناس جميعا”، وقوله تعالى ” و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
ومن أساس تحريم القتل في السنة النبوية قوله صلى الله عليه و سلم ” أول ما يقتضي بين الناس يوم القيامة في الدماء” ، و قوله عليه الصلاة و السلام ” لا تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل” ، وقوله في حجة الوداع ” فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب”.
أما عن الإجماع فإنه كان قائما على تحريم القتل العمد عموما ، و العقل و الحكمة يقضيان كذلك بشرعية تحريمه لأنه يفضي إلى الفناء و انتشار الفساد في الأرض، لأن المحافظة على النفس من أوكد الضروريات التي راعتها كافة الشعوب و الأديان. و لم يكتف عز وجل على تحريم صور القتل على وجه العموم و إنما عمد إلى تحريم كافة صور قتل الأب لابنه، و ما ذلك إلا لتجنب سفك الدماء بدون مبرر أو وجه شرعي، سيما و أن جرائم قتل الآباء لأبنائهم كانت تقترف بالكثرة على اختلاف المراحل التاريخية المتعاقبة ، إذ كانت أسبابها تعود إما إلى فساد الطباع أو لانتشار العادات و التقاليد التي تشجع هذا القتل.
و من خلال ما سبق حري بنا ذكر الأدلة الشرعية التي جاء بها سبحانه و تعالى لتأكيد تحريم قتل الأبناء، وهكذا جاء في القرآن الكريم قوله تعالى ” و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم “، و قوله تعالى ” و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا “، وقوله عز و جل ” و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت “، و قوله تعالى ” و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل و جهه مسودا و هو كظيم و يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون “، قوله تعالى ” و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم و ليلبسوا عليهم دينهم و لو شاء الله ما فعلوه فذرهم و ما يفترون “.
و قد أرجع سبحانه و تعالى سبب قتل الآباء لأبنائهم إلى حالة التخلف التي كانت غالبة على تقاليدهم و عاداتهم و طباعهم ، و بذلك يقول عز و جل في هذا الموضوع ” قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم .
و إذا ما تأملنا في الحالات التي أوردها الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم و التي تتعلق بقتل الأب لابنه نجدها لا تخرج عن الحالات التالية:
– الحالة الأولى القتل بسبب الفقر :
إن سبب القتل في هذه الحالة يعود إلى فقر الأب و خشيته من عدم القدرة على الإنفاق على أولاده ، فالأب هنا و تجنبا لذلك يقوم بقتل ابنه الوليد بالرغم من كون هذا الفعل متعارضا مع القيم الإسلامية السمحة مصداقا لقوله تعالى ” و ما من دابة في الأرض إلا و على الله رزقها “.[45]
– الحالة الثانية : القتل بسبب جنس الوليد:
و يعود سبب القتل في هذه الحالة إلى كون الوليد من جنس أنثى ، بحيث كان الآباء في عهد الجاهلية يقومون بقتل المولود الأنثى و ذلك بدفنها حية فور ولادتها، إذ كانوا يعتبرون أنه إذا ما رزقوا بمولود أنثى فإن الحظ السيئ سيخيم عليهم ، و بأن آلهتهم التي كانوا يعبدونها ستغضب عليهم . كما كانوا يعتقدون أنه إذا أزداد فراشهم أنثى سيعتبرون ناقصي الفحولة،الشيء الذي قد يؤثر سلبا على مكانتهم الاجتماعية داخل قبائلهم.
– الحالة الثالثة: القتل بسبب ديانة الإبن:
و بخصوص هذه الحالة فلا يمكن تصور حدوثها لأن الوليد لا يمكنه الخروج عن دين والده نظرا لعدم نضجه العقلي و الفكري. و يمكن تلخيص هذه الحالة أن دافع قتل الأب لابنه يرجع إلى اعتناق هذا الأخير للدين الإسلامي، خلافا للديانة الوثنية التي يدينها أبويه، إذ يعود ذلك إلى الإلحاد و الكفر الذين غشي الآباء فحادوا بالتالي عن الطريق المستقيم.[47]
الفقرة الثانية: جريمة قتل الطفل الوليد من طرف الغير:
لقد تعامل المشرع المغربي مع الجناة من الغير في جرائم القتل العمد التي يرتكبونها في حق الطفل الوليد بصرامة ملحوظة ، و ذلك بمناسبة تحديده عقوباتها ، بالرغم من عدم وجود أية علاقة قرابة عائلية تجمعهم بهذا الطفل. و يتجلى ذلك من خلال معاقبته على هذه الجرائم بنفس العقوبات المخصصة لجرائم القتل المرتكبة ضد الرشداء. وهذا ما تترجمه الفقرة الأولى من الفصل 397 من القانون الجنائي التي تحيل على مقتضيات الفصلين 392 و 393 من نفس القانون بخصوص العقوبة المقررة لهذه الجرائم.
و بالرجوع إلى مقتضيات الفصلين 392 و 393 المذكورين نجد أن المشرع قد عاقب كل من تسبب عمدا في قتل غيره بعقوبة تتراوح ما بين السجن المؤبد و الإعدام، وذلك حسب مدى توفر ظروف التشديد المشار إليها في الفصلين المذكورين.
وجدير بالذكر أن المشرع المغربي لما جرم القتل العمد المرتكب ضد الأطفال حديثي الولادة لم يجعل من الدافع لارتكاب هذه الجريمة معيارا يعتمد في تفريد العقوبة ، إذ أنه مهما كانت دوافع الجاني لإزهاق روح الطفل الوليد فإنه يعاقب في جميع الأحوال بنفس العقوبة المقررة قانونا، ولو كانت هذه الدوافع ذات أبعاد إنسانية أو اجتماعية كما لو كان المجني عليه يعاني من تشوهات خلقية تعيق نموه بشكل خطير، أو كان لو تم ارتكاب القتل بدافع اتقاء العار و الفضيحة عن العائلة في الحالة التي يزداد فيها الوليد خارج الإطار الشرعي.
وبخلاف التشريع المغربي الذي لم يقم بتمتيع الجناة بأي ظرف من ظروف التخفيف بمناسبة ارتكابهم للجريمة السالفة الذكر، ماعدا الأعذار القانونية المخففة للعقوبة و التي يتوقف إعمالها على توفر شروطها، فإن هناك من التشريعات المقارنة من قام بتوسيع دائرة الأشخاص المستفيدين من ظروف التخفيف الذين ارتكبوا جرائم قتل في حق الأطفال حديثي الولادة ، فبالإضافة إلى الأم تسري هذه الظروف كذلك على كل من الأب و الأخ و الأخت و العم و الخال بشرط أن يتم اقترافهم لهذه الجرائم من أجل حماية شرف العائلة و عرض الأم . و هذا أخذ به كل من التشريع الجنائي الليبي، و التشريع الجنائي الإيطالي، بحيث خفف هذا الأخير العقوبة في حق الأغيار متى قاموا بإزهاق روح طفل وليد مزداد في إطار غير شرعي شريطة أن يكون هدفهم من ذلك هو التخلص من العار الذي نجم عن ولادته و لحق بشرف العائلة، إذ أفرد لهم في هذه الحالة عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة تتراوح من ثلاثة إلى عشر سنوات سجنا، و ذلك بدلا من العقوبة المقررة في جريمة القتل العادية المحددة في الأشغال المؤبدة .
وكما سبقت الإشارة فإن نفس المنحى سار عليه التشريع الجنائي الليبي بتخفيفه عقوبة قتل الوليد في حق ذوي القربى من جهة الأم ، الذين ارتكبوا هذه الجريمة بدافع المحافظة على عرض الأم و شرف العائلة ، إلا أن الملاحظ هو أنه لم يمدد هذا العذر المخفف للعقوبة ليشمل الأب أيضا بخلاف التشريع الإيطالي.