التهرب الضريبي الدولي وآثاره على الاقتصاد العالمي
لقد نشأت ظاهرة التهرب الضريبي اولا على المستوى الوطني ، لذا كانت التشريعات الداخلية سبّاقة الى ادراك مدى خطورتها على الاقتصاديات الوطنية باعتبار الضريبة تشكل جزء مهما من ايراد الدولة ، والتي تساعدها عى مواجهة العديد من المشاكل الاقتصادية التي تتعرض لها .
ولم تنتقل هذه الظاهرة الى المستوى الدولي الا منذ بداية القرن الماضي وبصورة أكثر تحديدا بعد انتشار عمليات الانتاج والتسويق الا منذ بداية القرن الماضي وبصورة أكثر تحديدا بعد انتشار عمليات الانتاج والتسويق والتقسيم العمل الدولي بحيث اصبح العالم كأنه وحدة انتاجية متكاملة ومتجانسة .
ولما كانت الدول النامية في حاجة مستمرة لرؤوس الاموال الاجنبية للاسراع بمعدلات التنمية الاقتصادية واللحاق بالدول الصناعية المتقدمة ، فقد تنافست فيما بينها من اجل جذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة الى اقاليمها بتقرير العديد من المزايا .
وأخطر تلك المزايا وأهمها على الاطلاق هي المزايا الضريبية التي تتمثل في ذلك الحكم الهائل من الاعفاءات والضمانات والامتيازات الضريبية ، واذا كان التهرب الدولي هو ما يشغل بال العديد من المفكرين الاقتصاديين ، فانه يرتبط في حقيقة الامر بالشركات دولية النشاط أو المتعددة الجنسيات التي انتشرت بصورة مكثفة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، واصبحت هي الاصل في كافة المعاملات الدولية ، ولا نبالغ في القول عندما نؤكد أنها تسيطر على أكثر من نصف التجارة الدولية ، فهذه الشركات لا يقتصر نشاطها على اقتصاد دولة واحدة بل تشعبت في اكثر من دولة ، للبحث عن أفضل الظروف من اجل تعظيم أرباحها لتحكم بذلك سيطرتها على التجارة الدولية وأسواق العالم باسره .
ويقصد بظاهرة التهرب الضريبي ، التهرب الذي يترتب عليه فقدان أو خسارة الدولة لجزء هام من ايرادها نتيجة للكم الهائل من الامتيازات والاعفاءات الضريبيبة بغض النظر ما اذا كان هذا التهرب يشكل انتهاكا لاحكام القانون من عدمه . والاصل انه لا يوجد تشريعات داخلية تواجه ظاهرة التهرب الضريبي بمعناه الاقتصادي على المستوى الدولي تواجه ظاهرة التهرب الضريبي .
وبالتالي ، يقصد بالتهرب الضريبي الدولي استخدام المكلف طرقا احتيالية غير مشروعة لنقل كل أو جزء من الارباح أو الايرادات والتي كان من المفروض خضوعها في داخل الدولة للضريبة ، الى دولة أخرى لا تخضع هذه الارباح أو الايرادات والتي كان من المفروض خضوعها في داخل الدولة للضريبة ، الى دولة اخرى لا تخضع ذه الارباح او الايرادات في الغالب للضرائب او تخضها لنوع اقل وطئا على المكلف من التي يخضع لها في الدولة الأولى .
هذا التعريف هو من منظور قانوني ، الا ان التهرب الضريبي الدولي يمكن تعريفه بمفهوم اقتصادي ،
فقد ذهب بعض الفقه الى القول بان التهرب الضريبي الدولي هو كل ايراداتها ، سواء سلك المشروع دولي النشاط طرقا مشروعة أو غير مشروعة أو سواء توافرت لديه ارادة التهرب ام لا ، و ايا كان التشريع الضريبي الذي يختاره مستفيدا من تباين الانظمة والتشريعات الضريبية للدول من اجل التوصل الى هدفه نحو تخفيف عبئه الضريبي أو اسقاطه تمام .
فمن خلال التعريف الاقتصادي هذا يتبين لنا ان التهرب الضريبي الدولي يتحقق في دولة ما من الناحية الاقتصادية سواء أكان المكلف قاتصدا تلك النتيجة أو لا باعتبار أن في كلتا الحالتين هناك هدر لايرادات مفترضة للدولة .
اما أسباب التهرب الضريبي الدولي فيكمن ايرادها بالتالي :
1- ان ازياد الحاجة للتعاون الدولي خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية قد دفع الدول على انشاء شركات مشتركة بشكل واسع لها حرية انتقال الاموال مما يساعد على التهرب الضريبي الدولي .
2- عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي في بعض الدول الذي دفع الافراد الى تهريب الاموال باي طريق ، فقد لجات الدول الى نقل مشرعاتها الى الخارج ، الامر الذي دفع الافراد الى التهرب .
3- عدم وضع اتفاقيات الازدواج الضريبي موضع التنفيذ ، أو عدم الاتفاق على وضع اتفاقيات منع الزدواج ، حيث يجد المكلف ذو النشاط الدولي انه بسبيل الخضوع للضرائب مرتين ، مرة للدولة المحصل منها الايراد أو الربح ، ومرة ثانية في دولته الاصلية ، الامر الذي يدفعه الى التهرب وفي الغالب يتم التهرب من السعر الاعلى في الضريبة ، أو الاقل أحكاما في التنفيذ .
4- ارتفاع أسعار الضرائب الوطنية ، مثل فرض ضرائب تركات تصاعدية كبيرة ، أو ضرائب دخل ذات سعر عال ، أو الاخذ بمبدأ الاقليمية أو التبعية .
5- الرغبة في وجود عملة اجنبية قابلة للتداول نقدها في الخارج ، فاذا سنحت الفرصة للمكلف لاخفاء جزء من أرباحه يكون قد تهرب بجزء من الضرائب وحقق جزءا بالعملة الاجنبية يسمح له بالاطمئنان .
لا تقتصر آثار التهرب الضريبي الدولي على الدول النامية فقط، بل تمتد جذور إلى التأثير على الاقتصاد الدولي، نظرا لوجود علاقة وطيدة بين اقتصاد الدول النامية والدول المتقدمة، وبالتالي يبقى التهرب الضريبي الدولي عامل مدعم للتخلف على المستوى الدولي
بحيث أكد خبراء الاقتصاد على أن التهرب الضريبي الدولي أضحى يؤثر على إستراتيجية التنمية الدولية، من خلال التأثير على التوزيع العادل للثروات بين الأفراد مما يؤدي ذالك إلى اللامساواة الدولية أمام الضريبة كما أنه يمس بنية المبادلات التجارية بين الدول المتقدمة والدول النامية باعتباره يعيق عملية التنمية ويحرم الخزينة العامة للدول من جزء مهم من الموارد المالية التي تنتعش بها الشركات المتعددة الجنسية والأشخاص الطبيعيون من جراء ممارستهم للتهرب الضريبي.
وهكذا يبقى التهرب الضريبي الدولي تلك الفجوة التي تخلق تباعدا على مستوى التوازن الاقتصادي الدولي بين دول الشمال ودول الجنوب التي تبقى دائما في مرتبة أدنى على مستوى التقدم، باعتبار الدول المتقدمة تحتكر التكنولوجيا الحديثة والصناعات المتطورة بل حتى من الناحية الجغرافيا فإنها تحتل ثلث مساحة الأرض ويقطن بها ما يعادل ربع سكان العالم، كما تحتكر دول الشمال مجمل النشاط الصناعي والتجاري والمالي في العالم.
فمن الناحية الصناعية أصبحت الدول المتقدمة تتحكم في 90% من الإنتاج الصناعي العالمي، ومن الناحية التجارية تحتكر 80% من الأرصدة والأوراق النقدية والعملات الأجنبية واحتياطات الذهب في العالم.
وتأسيسا على ذلك نرى أن عدم التوازن الاقتصادي بين الدول النامية والدول المتخلفة يزيد من حدته التهرب الضريبي الذي يبقى عاملا مساعدا على التخلف الاقتصادي، وبالتالي لا يمكن الحديث عن ازدهار التجارة الدولية دون الأخذ بعين الاعتبار اقتصاد الدول النامية.
ولكن من جهة أخرى فالدول نفسها لم تسلم من ظاهرة التهرب الضريبي الدولي والسبب في ذلك هو التناقض بين تطور وظائف الدولة المتطلب لمزيد من الموارد الجبائية، ثم حاجة المقاولات لماليتها والحفاظ على توازنها الاقتصادي ثم هناك عامل آخر يتمثل في التناقض بين مبدأ تشجيع الاستثمار ومبدأ المساواة في تحمل التكاليف الضريبية، وأخيرا التعارض بين ضرورة الوضوح القانوني وتعقيدات القانون الضريبي، وهكذا فقد أكدت بعض التقديرات حول حجم التهرب الضريبي الدولي للدول الغربية وجود خسائر جسيمة تتمثل في الجدول التالي.
الدولة | حجم الخسائر من جراء التهرب الضريبي الدولي |
ألمانيا | 5% من إجمالي مداخيلها الجبائية |
أمريكا | 8% من ناتجها الداخلي الإجمالي |
السويد | 6% من ناتجها الداخلي الإجمالي |
سويسرا | 10% من إجمالي مداخيلها الجبائية |
فرنسا | 10 ملايير فرنك فرنسي سنويا |
فلندا | 3% من إجمالي مداخيلها |
بلجيكا | 200 مليار فرنك بلجيكي سنويا |
يتضح إذن أن التهرب الضريبي الدولي يمتد إلى الدول الغربية أيضا ولكن في الآونة الأخيرة تصدت له عبر مجموعة من الإجراءات القانونية تتمثل في تجريمه واعتباره جناية معاقب عليها قانونا.
وعليه فالضريبة لم تعد ظاهرة جبائية بل أضحت ظاهرة اقتصادية، وأي خلل يشوبها إلا ويؤثر على نظرية اقتصاد العرض حسب المدرسة الكلاسيكية التي تعتبر أن النماذج الاقتصادية المعاصرة تتجاهل آثار الضريبة على تحفيز الأفراد على العمل والادخار وعلى الاستثمار، وتؤكد هذه النظرية على أن الأثر السلبي للضريبة لا يمس الموارد الجبائية الكبرى،
بل يشمل المستويات الأخرى مثل الدخول المتوسطة والضعيفة وهذه النظرية التي يتزعمها ” آرثرلافر” في إطار الاقتصاد الجزئي والتي وجدت مجال تطبيقها في عهد الرئيس الأمريكي رغان تذهب عكس السياسة الاقتصادية الكنزية التي لم تعد قادرة على محاربة البطالة والحد من التضخم، وعليه فقد ناضل ” آرثرلافر” من أجل التخلي عن التصور الكنزي للدورة الاقتصادية والرجوع إلى دورة جان باتست سي، التي تعتمد على سياسة العرض عوض سياسة الطلب التي نادى بها كينز، وطبق ذلك على الضريبة بارتباطها بالضغط الجبائي كسبب من أٍسباب التهرب الضريبي.