بحث قانوني هام عن نظرية الظروف الطارئة بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني الجزائري
مقدمة
تقضي المادة 106 من ق م ج أن « العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه، ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون » ومعنى ذلك أن العقد هو القانون الإتفاقي الذي يلزم به المتعاقدين، فهو يقوم مقام القانون في تنظيم العلاقة العقدية، ويطبقه القاضي عليهما كما يطبق القانون، وبذلك فإن الإرادة المشتركة التي أنشأت العقد هي وحدها التي تستطيع إنهاء العقد أو تعديل العلاقة المتولدة عنه.
وطبقا لهذا المبدأ العام، يجب على كل طرف أن ينفد الالتزامات الملقاة على عاتقه وفقا لمضمون العقد مع مراعاة حسن النية م 1/107 ق م ج.
ويظهر من خلال نص المادة 106 من ق م ج، أن أحد المتعاقدين أو حتى القاضي لا يملك أن ينقض العقد أو يعدل منه، ذلك أن العقد ثمرة اتفاق بين إرادتين، غير أنه قد يجيز القانون في بعض العقود لأي من المتعاقدين أن يستقل بنقض العقد كما في الوديعة م 594 ق م ج، والوكالة م 588 ق م ج. وفي عقود أخرى يجيز القانون لواحد من المتعاقدين فقط أن يستقل بنقض العقد كما في الهبة م 2/202 ق م ج.
كما أن هناك حالات استثنائية يجيز القانون أن يعدل العقد لاعتبارات تتعلق بالعدالة، من أمثلتها النصوص القانونية التي تعطي للقاضي سلطة تعديل العقد، كالمادة 110 من ق م ج التي تمنح للقاضي سلطة تعديل الشروط التعسفية في عقد الإذعان والإعفاء منه، والمادة 2/184 من ذات القانون التي تخول للقاضي تخفيض الشرط الجزائي إذا كان مبالغا فيه، وغير ذلك من النصوص .
أما ما يهم في هذا الموضوع، فهو مراجعة العقد لحوادث استثنائية طرأت عليه بعد إبرامه، أو ما يسمى بنظرية الظروف الطارئة، والتي سنحاول أن نقف عليها بالتعرض إلى التعريف بنظرية الظروف الطارئة وتطورها التاريخي ( أولا )، لننتقل بعد ذلك إلى موقف كل من الشريعة الإسلامية والقانون المدني الجزائري من هذه النظرية (ثانيا):
أولا: التعريف بنظرية الظروف الطارئة وتطورها التاريخي:
1/- التعريف بالنظرية:
إن تسمية هذه النظرية بهذا الاسم، فيه الدلالة الكافية على معناها، حيث تفترض هذه النظرية أن عقدا يتراخى تنفيذه إلى أجال كعقد التوريد، وعند حلول أجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت تغيرا فجائيا لم يكن منظورا وقت إبرام العقد، فيصبح الوفاء بالالتزامات الناشئة من العقد لا مستحيلا استحالة تامة ينقضي بها الالتزام كالاستحالة التي تنشأ من القوة القاهرة مثلا، وإنما يصبح مرهقا للمدين بحيث يؤدي إجباره عليه إلى إفلاسه أو ينزل به على الأقل خسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف، فما مصير هذا العقد وما ينبغي أن يكون موقف المشرع أو القاضي من هذا المدين الذي ابرم العقد وهو عازم على تنفيذه بأمانة وحسن نية، إلا أن ظروف باغتته لم تكن في الحسبان طرأت به، أعاقته عن تنفيذ التزامه وهددته بخسارة فادحة ؟ .
تقول نظرية الظروف الطارئة بأن الالتزام لا ينقضي لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى هذا الالتزام كما هو لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطيق المدين تنفيذه، بحيث يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق، وهذا بالرغم من تشبث الدائن بالقوة الملزمة للعقد وتمسكه بمطالبة المدين بوفاء التزاماته كاملة، متجاهلا ما تغير من الظروف وما يلحق بالمدين من خسارة لو اكره على التنفيذ .
2/- التطور التاريخي لنظرية الظروف الطارئة:
ليس لنظرية الظروف الطارئة تاريخ مستقل، وإنما يتصل تاريخها بتاريخ الالتزام وتطور مفهومه وتأثير مبدأ العدالة فيه على قاعدة العقد شريعة المتعاقدين. ولما كان هذا المبدأ من الأسس الرئيسية في الدين، فإن ظهوره غير مستغرب في القوانين المشبعة بالدين، فقد ظهر في العصور الوسطى في القانون الكنسي حيث عرف هذا الأخير بعض التطبيقات الفرعية لهذه النظرية استمدها من المبادئ المسيحية الداعية إلى التراحم والتآخي، ذلك أن الكنيسة لم تضع نظرية مستقلة للحوادث الطارئة، إنما وضعت قواعد لحماية الطرف الضعيف في العقد.
أما القانون الروماني فكان يخلو من مبدأ عام يصلح كأساس لنظرية الظروف الطارئة لأسباب عدة، من أهمها تمسكه بالشكليات المفروضة وعدم جواز تعديل العقد، ثم أن هذه النظرية تمثل ثغرة ينفد منها القاضي إلى العقد فينال من قوته الملزمة، حيت يستطيع تعديل العقد بطلب من أحد المتعاقدان دون رضاء الآخر.
وعلى هذا الحال بقي القانون الفرنسي، خاصة بعد ازدهار مبدأ سلطان الإرادة، فاعتبر العقد شريعة للمتعاقدين وحصل التشدد في التقيد به وفي عدم جواز تعديله أو نقضه مهما كانت الظروف التي أبرم فيها ومهما طرأ عليه من ظروف لم تكن في الحسبان ومهما أثرت هذه الظروف على كيانه الاقتصادي. وبذلك غابت هذه النظرية عن الأنظار في دائرة القانون الخاص .
ولقد دعم الاجتهاد المدني الفرنسي لمحكمة النقض الوصول إلى هذا الاندثار، حيث أرست اجتهادات هذه الأخيرة رفض النظرية كلما عرضت عليها، وذلك مند صدور القانون الفرنسي، ونذكر هنا على سبيل المثال ثلاث قضايا هي:
– قضية البدل الشخصي في الخدمة العسكرية -Contrat de remplacement militaire- بتاريخ 9 يناير 1856.
– قضية قنال كاربون – -Canal de Carpon بتاريخ 9 مارس 1879.
– قضية إجازة الماشية – -Cheptel بتاريخ 6 يونيو 1921.
على أن نظرية الظروف الطارئة بالرغم من اندثارها في القانون الخاص، ازدهرت في القانون العام، حيث بدأت في القانون الدولي العام كشرط ضمنيا مفروضا في المعاهدات الدولية، فهي تنقضي بتغير الظروف، ثم انتقلت من القانون الدولي العام إلى القانون الإداري، وكانت الحرب العالمية الأولى هي المناسبة التي أتاحت لمجلس الدولة الفرنسي الأخذ بها في قضية الغاز المعروفة، ذلك أن شركة الغاز في مدينة بوردو كانت ملزمة بتوريد الغاز للمدينة بسعر معين، ثم ارتفع السعر عند نشوب الحرب من 28 فرنك للطن في سنة 1913 إلى 73 فرنك في سنة 1915، ولما رفع الأمر إلى مجلس الدولة قضى بتعديل العقد مما يتناسب مع السعر الجديد في القرار الصادر بتاريخ 30 مايو 1916، حيث كان أول قرار صدر بهذا الشأن، ثم أعقب هذا الحكم أحكاما أخرى من القضاء الإداري في هذا المعنى.
وقد أخد القضاء الإداري دون القضاء المدني بنظرية الحوادث الطارئة لسببين:
– أولهما أن القضية التي تعرض على القضاء الإداري تتصل اتصالا وثيقا بالصالح العام فهي تتعلق بالمرافق العامة. ولذلك يحرص القضاء الإداري على التوفيق بين التطبيق الصحيح للقاعدة القانونية وبين مقتضيات المصلحة العامة. فإذا رفعت أمامها قضية وجب أن تحسب حسابا للخدمة العامة التي تقدمها الشركة للجمهور، أما القضاء المدني فأكثر أقضيته تتعلق بمصالح الأفراد دون أن يكون لها مساس بالمصلحة العامة.
– ثانيهما أن القضاء الإداري غير مقيد بنصوص تشريعية كالتقنين المدني فهو يتمتع بكثير من الحرية التي تجعل بعض أحكامه أقرب إلى التشريع، مما ييسر له أن يتماشى مع تطور الظروف.
“والواقع أن مجلس الدولة لم يأخذ بنظرية الظروف الطارئة على أساس مبدأ العدالة الذي يبني مؤيدو النظرية من فقهاء القانون المدني قواعدها عليه، وإنما بناها على أساس ) قانون استمرار الخدمة العامة La loi de continuité des services publics (، الذي يقضي باستمرار هذه الخدمات في أداء مهمتها بانتظام، فإذا طرأت ظروف طارئة من شأنها أن تخل باستمرارها وتعيقها عن أداء مهمتها، فالإدارة ملزمة بأن تسعى إلى معونة المتعاقد معها وإسعافه”.
وما تجدر الإشارة إليه هنا أن تبدل الأوضاع الاقتصادية إثر الحربين العالميتين من جهة، ومسايرة القضاء الفرنسي لهذا التبدل من جهة أخرى، اضطر المشرع الفرنسي إلى إصدار قوانين لحالات خاصة أوجد فيها حلول صريحة تقوم على تطبيق نظرية الظروف الطارئة، خاصة أن مثل هذه الحالات ما تزال في ازدياد ليس في فرنسا فحسب، بل في جميع الدول التي أخذت تتدخل فيها الدول لتنظيم الاقتصاد وتوجيهه. وعلى ذلك أصدر المشرع الفرنسي بعض القوانين في نص فيها صراحة على فسخ العقود أو تعديله بسبب تبدل الظروف الاقتصادية، نذكر منها:
– القانون المسمى بقانون فايو Loi Faillot الصادر في أعقاب الحرب العالمية الأولى بتاريخ 1918/1/21، حيث أجاز للقاضي أن يحكم بفسخ عقود التوريد وجميع العقود التجارية الأخرى المعقودة قبل 1914/8/1، إذا أدى تنفيذها إلى إرهاق احد المتعاقدين أو تحميله خسارة فادحة، ولقد أخد المشرع في هدا القانون بمبدأ الفسخ ولم يأخذ بمبدأ التعديل.
– القوانين المتعلقة بالإيجار، حيث نص منها على تمديد مدة العقد )كالقانون الصادر بتاريخ 1925/7/6 والقانون الصادر بتاريخ (1927/6/9 …الخ.
– اضطر المشرع الفرنسي أن يتدخل من جديد إثر إعلان الحرب العالمية الثانية ، فأصدر بتاريخ /4/231949، قانونا يشبه قانون فايو السابق، وطبقه على جميع العقود المعقودة قبل 1949/9/2 إذا تضمنت التزامات متعاقبة أو مؤجلة التنفيذ.
ثم إذا كان القانون المدني في فرنسا لا يأخذ بنظرية الحوادث الطارئة كنظرية عامة، فإن كثيرا من التشريعات أخذت بها، وبذلك أصبحت تظهر أخيرا في دائرة القانون الخاص، خاصة في التقنينات المدنية الحديثة. فظهرت في تقنين الالتزامات البولوني فهو أول تقنين حديث اشتمل على نص عام في نظرية الظروف الطارئة فنص في المادة 269 منه على أنه « إذا وجدت حوادث استثنائية، كحرب أو وباء أو هلك المحصول هلاكا كليا، أو غير ذلك من النوازل الطبيعية فأصبح تنفيذ الالتزام محوطا بصعوبات شديدة أو صار يهدد أحد المتعاقدين بخسارة فادحة لم يكن المتعاقدان يستطيعان توقعها وقت إبرام العقد، جاز للمحكمة إذا رأت ضرورة لذلك، تطبيقا لمبادئ حسن النية، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن تعين طريقة تنفيذ الالتزام أو أن تحدد مقداره، بل وأن تقضي بفسخ العقد ». ثم تلى تقنين الالتزامات البولوني التقنين المدني الإيطالي فنص عليها في المادة 1467 منه.
أما ألمانيا وسويسرا، فبالرغم من أن تشريعاتها لم تأخذ بهذه النظرية، إلا أنها قبلت تطبيقها عن طريق الاجتهاد القضائي حيث كانت هده النظرية معروفة في القوانين الجرمانية مند القرون الوسطى، وكانت تطبق وفقا لمبدأ العدالة المؤسس على قاعدة تغير الظروف.
ثانيا: نظرية الظروف الطارئة في الشريعة الإسلامية والقانون المدني الجزائري:
1/- نظرية الظروف الطارئة في الشريعة الإسلامية:
تعتبر نظرية الظروف الطارئة من صميم الفقه الإسلامي، فهي تقوم على أساس الضرورة، والعدل ،والإحسان …
فانطلاقا من ذلك تنبه فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أثر الظروف الاقتصادية، ومجافاة هذا الوضع لقواعد العدالة، فاسندوا نظرية الظروف الطارئة إلى نظرية العذر، ونظرية الحوائج، ونظرية الضرورة ، وكلها نظريات تتماشى مع أحدث النظريات القانونية في هذا المجال.
ولقد جاء في كتب الفقه الإسلامي الكثير من القواعد الكلية والمبادئ الفقهية التي تقوم على أساس نظرية الضرورة، ويتفرع عن هذه النظرية جملة من القواعد تدخل ضمنها ‘لا ضرر ولا ضرار’، ‘المشقة تجلب التيسير’، ‘الضرر يزال’، ‘الضرورات تبيح المحظورات’، ‘الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف’، ‘الضرر الخاص لدفع الضرر العام’، ‘ درء المفاسد أولى من جلب المصالح’، ‘الضرورات تقدر بمقدارها’، وغيرها من القواعد الكلية التي تجيز تغير العقود وتعديلها .
وبالرغم من معرفة الفقه الإسلامي لتطبيقات متنوعة لهذه النظرية، إلا أنه يصعب القول بأن الفقه الإسلامي أشاد نظرية متماسكة الأطراف للحوادث الطارئة، حيث حال دون ذلك سببين:
1- أن الفقه الإسلامي لا في نظرية الظروف الطارئة ولا في غيرها من النظريات أَلِف وضع النظريات العامة المتماسكة. ذلك أن الفقه الإسلامي يعالج المسائل مسألة مسألة، ويضع لها حلول عملية عادلة يناسب فيها تيارا خفيا من المنطق القانوني المتسق. وعلى الباحث أن يكشف على هذا التيار وان يشيد نظرية متماسكة يسودها منطق قانوني سليم من الحلول المتفرقة للمسائل المختلفة، وهكذا يبني بهذه الأحجار بناءا راسخ الأركان.
2- أن الفقه الغربي اضطر إلى وضع نظرية عامة للحوادث الطارئة لأن قوة العقد الملزمة فيه قد بولغ فيها مبالغة دعت إلى إيجاد وسائل تخفف منها نزولا عند مقتضيات العادلة، فكانت المبالغة تحت تأثير المذاهب الفردية، والتخفيف تحت تأثير مذهب التضامن الاجتماعي. أما الفقه الإسلامي حيث مقتضيات العدالة تسود دائما عند تعارضها مع القوة الملزمة للعقد، فقد أمكن في ضوء هذه المقتضيات فتح ثغرات مختلفة في القوة الملزمة للعقد دون أن يرى الفقهاء داعيا لوضع نظرية يرجع إليها في تبرير ذلك، ما دامت مقتضيات العدالة هي التي يلجأ إليه عادة في هذا التبرير .
وبالرجوع إلى تطبيقات نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي، نجدها مختلفة ومتنوعة نذكر منها، الأعذار في الإيجار، والجوائح في بيع الثمار.
أ/- الأعذار في عقد الإيجار:
لم تتفق المذاهب المختلفة على حكم واحد في فسخ الإيجار بالعذر، فمنها من توسع في ذلك توسعا كبيرا، وهذا هو المذهب الحنفي، ومنها من ضيق مع تفاوت في هذا التضييق، وهذه هي المذاهب الفقهية الثلاثة الأخرى.
والمراد بالعذر في هذا المذهب الحنفي هو العجز عن المضي على موجب العقد إلا بتحمل ضرر غير مستحق به، أي بعقد الإجارة، والمقصود بالمستحق بالعقد ما يكون ناشئا مما يوجبه التزام الطرفين، فكل ضرر يحصل لأحد المتعاقدين من بقاء العقد على اللزوم، وينشئ من سبب خارج عن نطاق الالتزام، فهو عذر.
ويفسخ الإيجار عنده لعذر يقوم في جانب المستأجر، أو لعذر يقوم في جانب المؤجر، أو لعذر يقوم بالنسبة للعين المؤجرة.
– العذر في جانب المستأجر: كأن يفلس المستأجر فيخرج من السوق، ويكون هذا عذر لفسخ الإجارة، وكذلك لو أراد المستأجر السفر لمصلحة لا يستطيع تفويتها إلا بمضرة.
– العذر في جانب المؤجر: نحو أن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن بيع العين المؤجرة، ذلك أن بيع العين لا ينفذ إلا بإجازة المستأجر، فيكون هذا عذرا لفسخ الإجارة.
– العذر بالنسبة لعين المؤجرة: ومثاله لو أجر أب صبي له ثم بلغ الولد أثناء الإجارة وأنف من خدمة الناس، كان ذلك عذرا لفسخها، لأن في إبقاء العقد بعد البلوغ ضررا للصبي.
ب/- الأعذار في عقد البيع:
كما أن الحنفية يفسحون المجال لنظرية الفسخ بالعذر في عقد الإيجار، كذلك يلاحظ على المالكية توسعهم في نظرية إنقاص الثمن للجوائح في بيع الثمار الخضار، ويتفق الحنابلة مع المالكية في نظرية الجوائح، أما الشافعية والحنفية فلا يقرون هذه النظرية.
والجائحة هي كل آفة لا صنع لآدمي فيها و لا يستطيع الدفع لها والاحتراز منها، ولقد قال مالك بأن الجوائح من ضمان البائع وأن للمشتري أن يرجع عليه بما أحدته من التلف، واشترط أن يبلغ المجاح الثلث فأكثر، ووقتها عنده هو ما يتطلبه بقاء الثمر على الشجر دون قطف حتى يستوفي طيبه، وقد استند مالك في مذهبه إلى ما روي عن النبي ص أنه قال” إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بما تأخذ من مال أخيك بغير حق” .
ذلك أن طبيعة الثمار تقتضي بيعها قبل جنيها، سواء ما ظهر منها أو لم يظهر، أن تصاب بآفات تقلل من قيمتها أو كميتها، وقد تكون الخسارة كبيرة خارجة عن النطاق الذي يدخله المتعاقد في حسابه، فهل يحتمل المشتري هذه الخسارة ويلتزم بالضرر وهذا هو المذهب الحنفي، والشافعي، أو أن يرجع بها على البائع وهذا هو المذهب المالكي- كما تقدم- والحنبلي في حدود معينة.
ثم أن أساس الاختلاف بين الفئتين يعود في الأصل إلى بيع ما لم يظهر من المحصول تبعا لما ظهر منه، فعند مالك مثلا أن بدو الصلاح في الصنف الواحد هو وجود الإزهار في بعضه لا في كله إذا كان الإزهار متتابع.
وما تجدر الإشارة إليه هنا أن ابن القيم الجوزية وهو من فقهاء الحنابلة المتأخرين، لم يقل بجواز هذا البيع فحسب، بل هاجم بعنف الرأي القائل بعدم جوازه، وذكر أن النهي الذي ورد بالسنة – حديث عبد الله بن عمر أن “رسول الله ص نهى عن بيع الثمار، حتى يبدو صلاحها”- هو النهي عن بيع الضرر، وهو ما يقدر على تسليمه سواء أكان موجودا أو معدوما.
ومن ذلك يظهر بوضوح كيف أن الضرورة قضت بالخروج على مبدأ عدم جواز المعدوم، وإقرار بيع ما هو غير موجود تبعا للموجود، لاعتبارات الحاجة والتعامل.
وختاما لتنظيم الشريعة الإسلامية لنظرية الظروف الطارئة، تجدر الإشارة إلى أن الفقيه الكبير الأستاذ ‘ إدوارد لامبير ‘ أكد في المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد بلاهاي سنة 1932 بأن ” نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي تعبر بصورة أكيدة ومثالية عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام في نظرية الظروف المتغيرة، وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة، وفي القضاء الإنجليزي فيما أدخله من المرونة على نظرية استحالة تنفيذ الالتزام تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي نشأت بسبب الحرب، وفي القضاء الدستوري الأمريكي في نظرية الحوادث المفاجئة ” .
كما أن الأستاذ السنهوري قد أخد بهذا الرأي، فأشار إليه في المقال الدي نشره عام 1936 بعنوان ( وجوب تنقيح القانون المدني المصري) حيث قال” إن نظرية الظروف الطارئة عادلة، ويمكن للمشرع المصري في تقنينه الجديد أن يأخذ بها استنادا إلى نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية، وهي نظرية فسيحة المدى خصبة النتائج تتسع لنظرية الظروف الطارئة ولها تطبيقات كثيرة منها نظرية العذر في فسخ الإيجار، وقد أصبحت نظرية الضرورة من النظريات الأساسية في الشريعة الإسلامية، وهي تتماشى مع احدث النظريات القانونية في هذا الموضوع”، ولما قبل مشروع تنقيح القانون المدني المصري نظرية الحوادث الطارئة، بينت مذكرته الإيضاحية، أن الأخذ بهذه النظرية كان استنادا إلى نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي”.
2: نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني الجزائري:
تقضي المادة 3/107 من ق م على: « غير أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وان لم يصبح مستحيلا، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ».
وعليه يجوز تعديل العقد إذا طرأت بعد إبرامه حوادث استثنائية لم تكن متوقعة جعلت تنفيذ الالتزام مرهقة على المدين. وهذه نظرية الظروف الطارئة التي استمدها المشرع الجزائري من الشريعة الإسلامية ولم يأخذ بها القانون الفرنسي، حيث عمل الفقه الإسلامي بهذه النظرية من قبل أن تعرف في الفقه الغربي بأربعة عشر قرنا .
أ- شروط تطبيق النظرية:
يتضح من خلال المادة 3/107 من ق م أن تطبيق نظرية الظروف الطارئة يتطلب توافر ثلاثة شروط وهي:
1- أن يكون العقد الذي تثار النظرية في شأنه عقدا متراخيا: وذلك سواء أن العقد من أصل طبيعته من عقود المدة ( كعقد الإيجار)، أو العقود المستمرة، أو العقود الفورية ذات التنفيذ المؤجل. أما العقود التي يتم تنفيذها فور انعقادها، فلا يتصور فيها وجود هذه النظرية، بل يؤخذ فيها بنظرية الاستغلال، ولا تنطبق هذه النظرية على العقود الاحتمالية إذ هي بطبيعتها تعرض المتعاقد إلى كسب كبير أو لخسارة جسيمة.
2- أن يطرأ حادث استثنائي عام ومفاجئ : أي خارج عن المألوف بحيث لا يمكن للرجل العادي أن يتوقعه عند إبرام العقد، فالمعيار هنا هو معيار موضوعي، ومثاله الحرب أو الزلزال، أو إضراب مفاجئ، أو قيام تسعيرة رسمية أو إلغائها، أو ارتفاع باهظ في الأسعار أو نزول فاحش فيها، أو وباء أو جراد يزحف سرابا، ويجب ألا تكون هذه الحوادث خاصة بالمدين بل يجب أن تكون عامة شاملة لطائفة من الناس .
3- أن يصبح تنفيذ الالتزام مرهقا للمدين وليس مستحيلا: ومن هنا يظهر الفرق بين الحادث الطارئ والقوة القاهرة، فالأول يجعل التنفيذ مرهقا أما الثانية فتجعله مستحيلا، ومن تم تجعل القوة القاهرة الالتزام ينقضي لاستحالة التنفيذ، أما الحادث الطارئ فلا يقضي الالتزام بل يرده إلى الحد المعقول، فتوزع الخسارة بين الدين والدائن.
ب- حكم الظروف الطارئة :
متى توفرت الشروط الثلاثة المتقدمة كان للقاضي تبعا للظروف وبعد المقارنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول وله أن يعدل العقد في حدود مهمته العادية وهي التفسير، كما له أن يختار بين أكثر من وسيلة لهذا التعديل إذ المهم أن يعيد التوازن، وعليه تتمثل سلطة القاضي وفقا لهذه النظرية في :
– أن يأمر بتنفيذ العقد حتى يزول الحادث إذا كان مؤقتا يرجى زواله (م2/281 ).
– أن ينقص التزام المدين المرهق .
– أن يؤخذ من التزام الدائن بما يؤدي إلى توزيع الخسارة بين الدائن والمدين.
– أن يجمع بين إنقاص الالتزام المرهق، وزيادة الالتزام المقابل أي أن يوزع الزيادة على عاتق طرفي العقد.
ويلاحظ في هذا المجال أنه ليس للقاضي أن يفسخ العقد. وهنا يختلف القانون الجزائري عن الشريعة الإسلامية التي تجيز فسخ العقد للضرر. ويعتبر تطبيق نظرية الظروف الطارئة إذا تحققت شروطها من النظام العام، يقع كل اتفاق على مخالفتها باطلا.
ج- بعض التطبيقات التشريعية لنظرية الظروف الطارئة:
لم يكتف المشرع المدني الجزائري بتقرير المبدأ العام لنظرية الظروف الطارئة في المادة 3/107، وتحديد شروطها ومدى سلطة القاضي في تعديل أحكام العقد بناءا عليها، بل ذهب إلى تطبيقها في حالات تشريعية كثيرة بنصوص خاصة ترخص فيها في بعض شروط النظرية العامة أو أقر بنفسه ما رتبه من أثر على بعض الحوادث التي تطرأ بعد العقد وتخل بتوازنه.
فترخص في شرط العموم الذي يجب توافره في الحادث الطارئ الاستثنائي، فاعتبر بعض الحوادث الطارئة الاستثنائية ولو كانت خاصة بأحد المتعاقدين ولم تتوافر لها صفة العموم، مبررا لتعديل أحكام العقد. فمن هذا القبيل ما نص عليه مثلا في عقد الإيجار بالمادتين 510و 513 من القانون المدني، حيث اكتفى المشرع بوقوع حادث فردي خاص بالمدين بدلا من شرط العموم وأنه حدد الأثر الذي يترتب على وقوع هذا الحادث فلم يتركه لتقدير القاضي. ومن الحالات الخاصة أيضا ما ورد في القانون المدني في حق الارتفاق في المادة 881 وعقد المقاولة في المادتين 561و 562، وهي حالات تخضع للحالات الواردة في شأنها، وكثيرا ما تختلف عن المبدأ العام المنصوص عليه في المادة 3/107 من ذات القانون .
خاتمة
أما ما يمكن أن نختم به هذا المقال، فهو الإشارة إلى كون نظرية الظروف لطارئة، نظرية حديثة أخذت بها جل القوانين العربية مستمدة إياها من الشريعة الإسلامية، وخالفت بذلك ما استقر عليه القضاء المدني الفرنسي والقوانين الغربية مند عهد طويل، فالعقد عندهم شريعة للمتعاقدين لا يجوز تعديله إلا باتفاق المتعاقدين، وعلى ذلك فنظرية الظروف الطارئة تعتبر استثناءا يرد على المبدأ، ولذا أوردها القانون المصري كاستثناء في فقرة ثانية على كون العقد شريعة للمتعاقدين ( 147 ق م م)، وعلى خطى هذا الأخير سارت جل القوانين المدنية العربية.
أما القانون المدني الجزائري، فحتى وإن نقل الفقرة الثانية من المادة 107 نقلا حرفيا من المشرع المصري، إلا أنه بفعله هذا يكون قد شد على الاتجاه السابق، ذلك أن نظرية الظروف الطارئة التي تقتضي تعديل العقد قضاء، جاءت استثناءا لعدم جواز تعديله، وليس استثناءا لوجوب تنفيذه بحسن نية، حيث لا ينظر في تحقق هذه النظرية لحسن نية المدين أو سوئها، إذ أن المدين لا دخل له في حدوث هذه النظرية التي قد تحدث وهو حسن النية، فهي نظرية تقاس بمعيار مجرد لا بمعيار ذاتي، وعلى ذلك يجب تصحيح هذا الخطأ بنقل الفقرة الثالثة للمادة 107 إلى فقرة ثانية للمادة 106 التي تنص على أن العقد شريعة للمتعاقدين،الخ .
وبالإضافة أيضا لهذا الخطأ، يلاحظ أن المشرع ج نص في المادة 106 على«…جاز للقاضي تبعا للظروف أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول…» بينما يستعمل النص الفرنسي لهذه الفقرة كلمة Reduir بدلا من يرد، وقد كان المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري يستعمل فعل ينقص، فقامت مناقشة حادة حول ما إذا كانت سلطة القاضي تقتصر على الحكم بإنقاص التزام المدين فقط، أو تمتد إلى الحكم بزيادة التزام الدائن، بحيث يتعادل مع التزام المدين؟ وانتهى الرأي إلى أنه يجوز للقاضي الحكم بأحد الأمرين ، وثم إبدال فعل ينقص بفعل يرد حتى يطبق على الإنقاص وعلى الزيادة على السواء، وعلى دلك يظهر أن النص العربي لفعل يرد موفق ، بينما فعل Reduir قد وقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه الترجمة الفرنسي ل المادة 2/147 ق م.
ثم ما تجب الدعوة إليه بعد ما سبق، فهو القضاء الفعلي على التبعية القانونية وظواهر الاقتباس والتقليد، التي تربط مصيرنا القانوني بعجلة القوانين الدخيلة، مما يقتضي عدم الوقوف عند إدخال بعض الأحكام الفقهية في قوانيننا الداخلية، بل ضرورة تجاوز ذلك بجعل الفقه الإسلامي هو الأساس لقانوننا المدني خاصة، ولفروع القانون الجزائري عامة، وذلك لن يتم إلا بإحياء دور الشريعة الإسلامية.
وتجدر الإشارة في هذا المجال، إلى دور العلامة الأستاذ ‘ عبد الرزاق أحمد السنهوري’، حيث أكد على أهمية المنهاج المقارن بين الشريعة الإسلامية والمنظومات القانونية الأخرى، كعامل أساسي من عوامل بعث هذه الشريعة، وفتح باب الاجتهاد فيها..
فالهدف ليس استدعاء الشريعة لتوضع في “متحف” المفاخر والنعم التي نعمت بها هذه الأمة، وإنما استدعاؤها لتكون المرجعية الحاكمة للقوانين الجزائرية، والبديل لهذه القوانين الوافدة من الغرب الاستعماري، دون أن ننسى ما نحتاجه من هذه الأخيرة من فن الصياغة والتقنين.
ولذلك لا بد من الدراسات المقارنة، التي تثبت لكل المنظومات القانونية، أن هذه الشريعة هي الأرقى، وهي الأنفع والأوفى، إذا ما قورنت بالمنظومات القانونية الأخرى، وذلك فضلا عن أنها هي تاريخ أمتنا، ومظهر عظمتها، وتجسيد عبقريتها وعزتها.
تلك الشريعة التي يقول عنا السنهوري” لو وطئت أكنافها، وعبدت سبلها، لكان لنا من هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وفي قضائنا وفي تشريعنا، ثم لأشرفنا نطالع بهذا النور الجديد، فنضيء به جانبا من جوانب الثقافة العالمية في القانون”.
اترك تعليقاً