دور النيابة العامة في حماية الزوجة على ضوء مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة
ذ كريم آيت بلا
نائب وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بخنيفرة
تقديم :
تعتبر مقتضيات الظهير الشريف رقم 1.04.22 المؤرخ في 3 فبراير 2004 الصادر بتنفيذ القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة من أهم المستجدات التشريعية التي عرفتها
بلادنا، وذلك بالنظر لحجم التعديلات التي حملتها هذه المدونة في طياتها، وبالنظر أيضا للجهات العليا التي سهرت على إعدادها واضعة بعين الاعتبار في المقام الأول إنصاف المرأة وحماية حقوق الطفل وصيانة كرامة الرجل، في تشبث تام بمقاصد الإسلام السمحة، وانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم.[1]
وإن اختيار اسم “مدونة الأسرة” للقانون الجديد لم يأت اعتباطا بل جاء لإبراز الصفة المؤسسية للأسرة[2] وما يترتب عن ذلك من اعتبارها محور الاهتمام بحفظ كيانها وصيانة حق كل فرد من أفرادها في إطار توازن صعب ودقيق بين الحقوق والالتزامات، كما أن إطلاق هذا الاسم جاء لغاية قانونية، ومصلحة مجتمعية يمكن تلخيصها في كون الأحكام الواردة في القانون رقم 70.03 بمثابة مدونة الأسرة لا يتعلق بمعالجة الأحوال الشخصية لكل فرد من أفراد الأسرة على حدة، بل تتعلق أحكامها بتنظيم شؤون الأسرة كلها[3]، وارتباطا بالموضوع الذي اخترته والذي يتعلق بدور النيابة العامة في حماية الزوجة على ضوء مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة، فإنه يمكن القول أن للنيابة العامة دورا حيويا في تفعيل النصوص القانونية وتنفيذ الأحكام القضائية لذلك خولها المشرع في مدونة الأسرة، اختصاصات مهمة بدءا من إبرام عقد الزواج ومرورا بمختلف المشاكل التي يمكن أن تمر بها العلاقة الزوجية من طلاق ونفقة وحضانة ونسب وغيبة، وصولا إلى تصفية التركة عند الوفاة، ويمكن القول تبعا لذلك أن دور النيابة العامة لدى القضاء الأسري كما يرى ذلك بعض الباحثين يتراوح بين الدور الرئيسي أحيانا، والدور الوقائي والحمائي أحيانا أخرى[4].
وهذا ما يدفعنا إلى طرح التساؤل حول الصلاحيات المخولة للنيابة العامة في حماية الزوجة بصورة عامة، وحمايتها بموجب مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة على وجه الخصوص؟ وعن مدى مسؤولية النيابة العامة على تطبيق مقتضيات المادة المذكورة، خاصة أن مضمونها دفع مجموعة من الباحثين إلى التساؤل حول الطبيعة القانونية لعمل النيابة العامة أثناء تطبيق المادة 53 من مدونة الأسرة، وفي أية خانة يمكن تصنيف الإجراءات الكفيلة بأمن وحماية الزوج المطرود من بيت الزوجية؟ وهكذا سنتولى في محور أول التطرق بعجالة إلى دواعي التنصيص على المادة 53 من مدونة الأسرة، في حين نتولى في محور ثان التطرق لمختلف الإشكالات العملية التي تطرحها هذه المادة عند وضعها موضع التطبيق.
المحور الأول: دواعي التنصيص على المادة 53 من مدونة الأسرة:
تنص المادة 53 من مدونة الأسرة على ما يلي: “إذا قام أحد الزوجين بإخراج الآخر من بيت الزوجية دون مبرر، تدخلت النيابة العامة من أجل إرجاع المطرود إلى بيت الزوجية حالا، مع اتخاذ الإجراءات الكفيلة بأمنه وحمايته” فمنطوق هذا الفصل يعالج حالة اجتماعية كثيرة الحدوث في الواقع العملي، وتتمثل في حالة طرد الزوجة أو الزوج من بيت الزوجية، وإن كانت حالات طرد الزوجة هي الأكثر شيوعا. ففي ظل الفراغ الذي كان يؤثث المشهد القانوني قبل صدور مدونة الأسرة، كانت الزوجة تلجأ إلى بيت أسرتها في انتظار هدوء العاصفة وتدخل ذوي النيات الحسنة من الأقارب والجيران أو تتوجه للسلطات القضائية وخاصة النيابة العامة من أجل التشكي والتظلم، لكنها تفاجئ بحفظ جميع الشكايات المتعلقة بطردها من بيت الزوجية، وذلك لانعدام العنصر الجرمي، ويبقى وكيل الملك مكتوف الأيدي في معالجة هذه الإشكالات الاجتماعية وذلك أمام غياب المقتضى القانوني الذي يسعفه من أجل التدخل. فأحكام المادة 53 من مدونة الأسرة إذن، وكما جاء في الدليل العملي لمدونة الأسرة جاءت لمواجهة حالات واقعية من علاقات الزوجين لم يكن لها حل عملي في القانون، وخولت للنيابة العامة صلاحية إرجاع المطرود إلى بيت الزوجية من علمت بواقعة الطرد.[5]
وإذا كانت معرفة أسباب نزول أي نص قانوني، يتم بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية والمناقشات التي جرت بالجهاز التشريعي، فإن بحثنا في هذا الاتجاه لم يسفر عن معلومات كثيرة أو مناقشات غنية أو اعتماد نصوص قانونية مقارنة، ويمكن القول تبعا لذلك إن السياق العام لصدور مدونة الأسرة، والهاجس الذي انتاب المشرع والمتمثل في إقرار مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة، إضافة إلى توفير الحماية القانونية لهذه الأخيرة، وتكريس الاحترام المتبادل والالتزام المتبادل بالحقوق والواجبات المنصوص عليها في المادة 51 من مدونة الأسرة، هي الدوافع الأساسية لمثل هذا المنتوج التشريعي الطموح في مضمونه، والرامي إلى الحفاظ على كيان الأسرة.
فالاختصاص المنوط بالنيابة العامة بموجب المادة 53 من مدونة الأسرة، يدخل ضمن زمرة الاختصاصات المتعددة التي أصبحت موكولة للنيابة العامة لدى القضاء الأسري، ويمكن التطرق لها باختصار شديد كما يلي:
* تدخل النيابة العامة في مسطرة الطلاق، سواء في مرحلة الصلح[6] حيث يتم إخطار الزوجة التي توصلت شخصيا بالاستدعاء ولم تحضر عن طريق النيابة بأنها إذا لم تحضر فسيتم البث في الملف، كذلك إذا كان عنوان الزوجة مجهولا فإن المحكمة تستعين بالنيابة العامة للوصول إلى الحقيقة، وإذا ثبت تحايل الزوج فإنه يخضع لمقتضيات المادة 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة كذلك فإنه في حالات التطليق للغيبة، إذا كان محل غيبة الزوج مجهولا فإن المحكمة تتأكد من ذلك بمساعدة من النيابة العامة[7]، كذلك فإن النيابة العامة تلعب دورا هاما لحماية حقوق المحضون حيث خولها المشرع صلاحية اختيار الأصلح للحضانة من أقارب المحضون أو غيرهم من المؤسسات المؤهلة لذلك، وذلك عند عدم وجود من يقبل الحضانة من بين مستحقيها أو عند عدم توفر الراغب في الحضانة على الشروط القانونية اللازمة لاستحقاقها، كما للنيابات العامة المطالبة بإسقاط الحضانة بموجب المادة 177 من مدونة الأسرة.
كذلك تلعب النيابة العامة دورا هاما في القضايا المتعلقة بالأهلية والنيابة الشرعية وتصفية التركة، وفي ظل قانون كفالة الأطفال المهملين وقضايا الحالة المدنية[8]، بالإضافة للاختصاصات السالفة الذكر فإن المشرع كلف النيابة العامة بالسهر على مراقبة تنفيذ الأحكام المنصوص عليها في المادة 54 من مدونة الأسرة والمتعلقة بالحقوق الخاصة بالأبناء إزاء آبائهم، خاصة ما يتعلق بسلامة الأطفال الجسدية والنفسية، والتوجيه الديني والتربية على السلوك القويم، واجتناب العنف المفضي إلى الإضرار الجسدي والمعنوي، وتوفير الظروف الملائمة للأبناء لمتابعة دراستهم حسب استعدادهم الفكري والبدني.
وتشترك كل الاختصاصات المنوطة بالنيابة العامة والتي أتينا على ذكرها سالفا في شيء مهم وهو العمل على إقرار مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة وإعطاء الطفل الغربي مكانته اللائقة وسط العائلة وفق المعايير والاتفاقيات الدولية.[9]
وإذ كان المحور الأول من هذا العرض قد خصص للدواعي العامة للتنصيص على مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة والتي لا تخرج من وجهة نظرنا من الإطار الكبير المتعلق بأسباب صدور مدونة الأسرة بصورة عامة، فإن المحور اللاحق وهو الأهم سنخصصه للإشكالات العملية التي يفرزها تطبيق مقتضيات المادة 53 من طرف وكيل الملك.
المحور الثاني: الإشكالات العملية لتطبيق المادة 53 من مدونة الأسرة
يثير صدور مقتضيات قانونية جديدة دائما نقاشات حادة، وردود فعل متباينة تتراوح بين اتجاه مهلل للمقتضى القانوني الجديد ومبرز لإيجابياته ومحاسنه، واتجاه ثان منتقد للمستجد القانوني ومبرز لنقاط ضعفه ومساوئه، وهي نفس ردود الفعل التي أثارتها مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة، خاصة بين قضاة النيابة العامة، باعتبارهم المخاطبين المباشرين بهذا المقتضى القانوني الجديد.
فبموجب المادة 53 من مدونة الأسرة فإن وكيل الملك يتدخل لإرجاع الزوج المطرود بدون مبرر إلى بيت الزوجية حالا. ويتخذ جميع التدابير والإجراءات الكفيلة بأمنه وحمايته، فأول ملاحظة تثيرها مقتضيات المادة المذكورة هي كون المشرع تفادى صيغة الوجوب أو الاختيار في إبراز دور وكيل الملك واكتفى باستخدام كلمة “تدخلت” وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول ما إذا كانت النيابة العامة ملزمة بالطلب المقدم إليها من طرف الزوجة المطرودة الرامي إلى إرجاعها لبيت الزوجية أم أن للنيابة العامة سلطة ملاءمة بخصوص الطلب المذكور، على غرار سلطة الملاءمة المخولة لها بموجب قانون المسطرة الجنائية بخصوص تحريك المتابعة من عدمها، كما يطرح التساؤل حول ما إذا كان وكيل الملك ملزم قبل إصدار الأمر بإرجاع الزوجة إلى بيت الزوجية على إجراء بحث قصد التحقق من توفر القرار بالإرجاع على الشروط القانونية أو العناصر المكونة للمادة 53 من مدونة الأسرة، والمبررة لهذا الأمر القاضي بالإرجاع والمتمثلة أساسا في:
الشرط 1: إخراج الزوجة من بيت الزوجية بنية الطرد.
الشرط 2: انعدام مبرر لإخراج الزوجة.
أم أن وكيل الملك يأمر الضابطة القضائية مباشرة بناء على طلب الزوجة الرامي إلى إرجاعها إلى بيت الزوجية، بإرجاعها طبقا للمادة 53 من مدونة الأسرة، وهذا ما يجري به العمل لدى جل النيابات العامة بمحاكم المملكة الشريفة.
هذا فضلا عما يثيره، الشرط الثاني المشار إليه أعلاه من إشكاليات، تتعلق أساسا بالسلطة التي يتوفر عليها وكيل الملك لتحديد وجود المبرر من عدمه، علما أن المشرع اكتفى بعبارة “بدون مبرر” دون أن يسبغ عليه صفة المشروعية أو عدم المشروعية، والحال أنه لا يعقل عقلا منطقا إقدام الزوج على طرد زوجته دون توفر مبرر ولو كان غير مشروع.
كذلك فإن إحدى أهم الإشكالات التي تواجه تطبيق مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة تتعلق بتعارض هذا المقتضى القانوني بإحدى الحقوق الدستورية السامية وهو حق الملكية المنصوص عليه في الفصل ( 15 ) من الدستور. ففي الحالة التي يكون فيها الزوج هو المالك للمنزل خاصة إذا كانت ملكيته سابقة لإبرام عقد الزواج، فإنه لا يتصور إجباره على إرجاع الزوجة لتعيش معه رغما عنه، فضلا على أن حق الملكية يخوله التصرف في ماله بكل حرية وبكل أنواع التصرفات القانونية. كما أن المادة 49 من مدونة الأسرة تنص على
أنه ” لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما في إطار تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيان الزوجية، الإنفاق على استثمارها وتوزيعها…”[10].
كذلك يثور التساؤل حول المقصود بالإجراءات التي يمكن للنيابة العامة اتخاذها لأجل ضمان الأمن والحماية للزوجة المطرودة عند إرجاعها لبيت الزوجية. فهل يمكن لوكيل الملك مثلا أن يقوم بعد إرجاع الزوجة المطرودة بإخراج الزوج من بيت الزوجية للمدة التي يراها كفيلة بتوفير الحماية للزوجة ولضمان سلامتها من أي اعتداء قد يصدر من الزوج، وهل يمكن أيضا لوكيل الملك أن يأمر الضابطة القضائية بفرض حراسة على بيت الزوجية ويأمرهم بالتدخل لفك ما قد ينشب بين الزوجين من نزاع ضمانا لسلامة الطرفين، وإذا نجم عن قرار وكيل الملك بإرجاع الزوجة إلى بيت الزوجية تعرض هذه الأخيرة لاعتداء سواء اتخذ صبغة ضرب وجرح عادي أم جريمة قتل، فما هي حدود مسؤولية وكيل الملك إزاء الضحية في هذه الحالة. وهل مبدأ عدم مسؤولية عضو النيابة العامة المتعارف عليه لدى فقه المسطرة الجنائية ينطبق على هذا الإشكال خاصة أن الدليل العملي لمدونة الأسرة يلزم وكيل الملك بأن يتدخل بحكمه وتعقل. فما هو معيار هذه الحكمة والتعقل؟
إضافة إلى الإشكاليات العملية السالفة الذكر، فإن النيابة العامة قد تواجه برفض الزوج إرجاع زوجته المطرودة لبيت الزوجية؟ فما هو الجزاء القانوني اللازم اتخاذه ضد الزوج المذكور. وهل موافقته ضرورية لإرجاع الزوجة أم أن وكيل الملك بما له من سلطة وإشراف على الضابطة القضائية له صلاحية إرجاع الزوجة ولو دون موافقة ورضى زوجها، خاصة عندما يكون للزوجة أبناء، ويصبح واجب النيابة العامة في هذه الحالة مضاعفا طبقا للمادة 54 من مدونة الأسرة التي تلزمها باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحماية الأطفال وضمان حقوقهم ورعايتها طبقا للقانون.
تلك إذن جملة من الإشكالات العملية أو الأسئلة التي تواجه تطبيق مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة، ولا ندعي من خلال هذا العرض المتواضع القدرة على الإجابة عليها، وإنما نود لفت نظر الباحثين القانونيين إليها وفتح نقاش عام حولها، لتوحيد عمل النيابات العامة على صعيد مختلف محاكم المملكة بخصوصها. ولكن هذا لا يمنعنا من إبداء وجهة نظرنا بخصوصها وذلك عبر بسط الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: إن هناك هوة شاسعة بين النظرية والتطبيق وحكمة المشرع ينبغي أن تتجلى في وضع نصوص قانونية قابلة للتطبيق على الواقع ومستوعبة لعقلية الأشخاص المخاطبين بها، واعتقد أن هذا ما غاب عن واضعي مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة، فبقدر سمو القاعدة القانونية ومظهرها الذي يوحي بحماية فورية وقانونية الزوجة المطرودة، بقدر ما تطرحه من مشاكل على مستوى التطبيق تجعلها مادة معطلة نسبيا. كما أن غياب عنصر الجزاء غالبا ما يشكل مجرة عترة أمام تطبيقها وهو السؤال الذي طرح على السيد وزير العدل أثناء مناقشة مشروع المدونة أمام مجلسي البرلمان فكان جواب سيادته أن الرجوع إلى مقتضيات القانون الجنائي يغني عن ذلك[11] والحال أن مجرد طرد الزوجة بدون مبرر ورفض إرجاعها لا يشكل في حدود معرفتنا للقانون الجنائي أي خرف لهذا الأخير. وبالتالي لا يقع تحت طائلته التجريم والعقاب.
الملاحظة الثانية: يبدو أن المشرع عول كثيرا على قدرة السيد وكيل الملك على إصلاح ذات البين بين الزوجين، واعتماد سلطته الزجرية ومنصبه الرفيع في المجتمع لتليين أسباب الخلاف، وفرض الأمر الواقع على كلا الزوجين استنادا للمادة 53 من مدونة الأسرة، وهو أمر نعتقد أن فيه الكثير من المجازفة على أساس أن هناك قواعد قانونية راسخة لا يمكن خرقها إرضاء لأحد الأطراف على حساب الطرف الآخر، وهذه الملاحظة ربما هي التي دفعت السيد وزير العدل في معرض جوابه عن سؤال أثناء مناقشة مدونة الأسرة بالبرلمان حول كيفية إرجاع أحد الزوجين المطرود إلى بيت الزوجية إلى القول أن النيابة العامة هي التي تسهر على تنفيذ القانون وعلى حسن تطبيقه وما نصت عليه المادة 53 يدخل تنفيذه في اختصاصها[12].
الملاحظة الثالثة: عند تتبعنا لمختلف القرارات الصادرة عن النيابات العامة بمحاكم المملكة تبين لنا أن وكلاء الملك يعمدون إلى حفظ المسطرة في حق الزوج الذي يرفض إرجاع زوجته إلى بيت الزوجية بعد طردها وذلك لانعدام العنصر الجرمي، ما دام أن عملية الطرد لم تواكبها اعتداء جسدي بواسطة الضرب أوالجرح، يبرر المتابعة من أجل العنف، وإن كان هذا الأخير يعتبر حسب الإعلان العالمي حول القضاء على العنف ضد النساء الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر 1993 ذو مفهوم واسع ذلك أن العنف ضد النساء حسب الإعلان السالف الذكر هو “كل أعمال العنف الموجهة ضد النساء والتي تسبب لهن ضررا أو من الممكن أن تسبب لهن آلما جسمية ونفسية بما في ذلك التهديد بتلك الأعمال ومختلف أنواع الضغط والإكراه النفسي والحرمان مر الحرية سواء في الحياة العامة أو الحياة الخاصة”.
وحسب هذا التعريف للعنف ضد النساء فإننا نعتقد أن الطرد من بيت الزوجية بدون مبرر يدخل في إطاره ويمكن المتابعة من أجله.
الملاحظة الرابعة: يفرض الفهم السليم لمقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة. من وجهة نظرنا على النيابة العامة قبل اتخاذ أي قرار بإرجاع الزوجة المطرودة إلى بيت الزوجية أن تأمر الضابطة القضائية الموضوعة تحت إشرافها بإجراء بحث وذلك بالاستماع للزوج والزوجة ولكل شاهد مفيد في الموضوع وذلك حتى يتأكد للنيابة العامة كون الزوج عرض فعلا زوجته للطرد وليست هي من غادر المنزل أو بيت الزوجية تلقائيا كما ينبغي أن تتأكد للنيابة العامة من كون الطرد كان دون مبرر مشروع، وذلك تطبيقا للشروط المنصوص عليها في المادة 53 ذلك أن التعاطف مع المرأة التي ينظر إليها على أساس أنها الطرف الضعيف في العلاقة لا ينبغي أن يقود إلى اتخاذ قرار مشوب بعدم ارتكازه على أساس قانوني سليم فلا وجود لحماية قضائية في ظل غياب حماية قانونية.
الملاحظة الخامسة: إذا كان الإتجاه السائد حاليا نحو العدالة التصالحية قد خفف شيئا ما من نظرة المتقاضي للنيابة العامة كخصم يسعى إلى الإدانة والزجر والمطالبة بأقصى العقوبات، إلى اقتراح الصلح والتماس إيقاف سير الدعوى العمومية في ظل قانون المسطرة الجنائية فإن دور وكيل الملك في حل مشاكل الأسرة ليس بالأمر الهين ويدفعنا إلى طرح إشكال أكثر عمقا يتعلق بمدى قابلية العلاقات الإنسانية بين الزوجين للتقنين؟ فكيف يمكن إجبار الزوج على معاشرة زوجته بواسطة القوة العمومية أو العكس، وإذا كان الحكم الصادر عن القضاء الجالس بالرجوع إلى بيت الزوجية لا يرتب أي آثار بالنسبة للزوجة في حالة امتناعها سوى تخويل الزوج سلوك مسطرة إيقاف النفقة فإن قرار وكيل الملك الرامي لإرجاع الزوجة المطرودة لا يرتب في حالة امتناع الزوج أي آثر إلا ما سبقت الإشارة إليه من إمكانية متابعة الزوج من أجل العنف طبقا لمفهوم هذا الأخير في الإتفاقية الدولية للقضاء على العنف ضد النساء.
الملاحظة السادسة: يرى بعض الباحثين[13] أن النيابة العامة عندما تقوم بإرجاع الزوجة إلى بيت الزوجية فإنها تقوم بدور وقائي وحمائي، كما أنها عندما تسخر القوة العمومية فإنها تمارس مهامها في إطار الشرطة الإدارية، وبالتالي يعتبر قرارها قرارا إداريا كما أن مسؤوليتها تعتبر إدارية في حالة ارتكاب خطأ من طرف الساهرين على التنفيذ.ولا نشاطر هذا الرأي على أساس أن قرار وكيل الملك لا يعتبر قرارا إداريا لأنه عندما يتدخل لإرجاع الزوجة المطرودة دون مبرر لبيت الزوجية، إنما ينفذ قاعدة قانونية ملزمة في إطار السلطات القضائية المخولة له، وله في إطار سلطة الملاءمة التي يتوفر عليها أن يأمر بإجراء كل الأبحاث الضرورية وتقديم الزوج أمامه إن اقتضى الأمر ذلك، فهو يمارس ويصدر قرارات قضائية لا تقبل أي طعن أمام القضاء الإداري، فضلا عن كون إضفاء الصبغة الإدارية على قرارات النيابة العامة بخصوص إرجاع الزوجة المطرودة لبيت الزوجية سيفتح المجال لإشكاليات من نوع آخر كأثر الطعون المقدمة ضد هذه القرارات على نفاذها هل توقف التنفيذ أم لا، وفي حالة إلغاء القرار هل تتصدى المحكمة الإدارية في الموضوع وما حدود مسؤولية وكيل الملك عند إلغاء مقرر صادر عنه…؟
كما سبقت الإشارة إلى ذلك فإننا لا ندعي من خلال هذا العرض المتواضع الإجابة على الإشكاليات التي قمنا بطرحها بخصوص المادة 53 من مدونة الأسرة، وإنما قمنا بإبداء ملاحظات عامة حاولنا فيها من خلال تأملاتنا في المادة المذكورة استقراء نية المشرع وأهدافه من تبني مقتضيات هذه المادة، واصطدامها بواقع عملي صعب خاصة ما يتعلق بالأسرة وعلاقات الزوجين التي يصعب إخضاعها لتقنين وضعي محكم لأنها ترتبط بمشاعر إنسانية ينبغي أن تستمد قوتها وتماسكها من ديننا الإسلامي الحنيف ومن الكتاب والسنة النبوية مصداقا لقوله تعالى ” و خلقنا لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعلنا بينكم مودة ورحمة ”
وقول الرسول (ص) : ” لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم “
[1] – “قانون الأسرة” منشورات المجلة الغربية لقانون الأعمال والمقاولات، الطبعة الأولى 33، صفحة 12.
[2] – مشروع دليل عملي لمدونة الأسرة محرم 1425/ مارس 2004 صفحة 2.
[3] – ذ عبد العالي العبودي “التوضيح الموجز لبعض مواد مدونة الأسرة” الأيام الدراسية حول مدونة الأسرة 5 سلسلة الندوات واللقاءات والأيام الدراسية شتنبر 2004 ، صفحة 6.
[4] – ذ. عبد العالي المومني “تأملات حول عمل النيابة العامة من خلال الفصل الثالث من مدونة الأسرة” مقال منشور مجلة القسطاس العدد الخامس.
[5] – دليل عملي لمدونة الأسرة. العدد 1. منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائيةـ، سلسلة شروح
ودلائل صفحة: 47.
[6] – انظر مقتضيات المادة 81 من مدونة الأسرة.
[7] – انظر مقتضيات المادة 103 من مدونة الأسرة.
[8] – انظر بهذا الخصوص “ذة كزوري مليكة” “دور النيابة العامة في القضاء الأسري” مداخلة في إطار برنامج الحلقات الدراسية الجهوية المنظمة لفائدة قضاة الأسرة أيام 7و8و9و10 فبراير 2006 بإفران.
[9] – “مدونة الأسرة ودور الوساطة” مداخلة رابطة التربية على حقوق الإنسان في برنامج الحلقات الدراسية الجهوية المنظمة لفائدة قضاة الأسرة بإفران.
[10] – للمزيد من المعلومات حول مقتضيات المادة 49 من مدونة الأسرة، أنظر ذة زهور الحر “حق الزوجة في الاستفادة من الثروة بين السند الشرعي والرأي الفقهي والعمل القضائي” الأيام الدراسية حول مدونة الأسرة 5 شتنبر 2004 صفحة 101 وما يليها.
[11] – انظر بهذا الخصوص المقتضيات الجديدة لمدونة الأسرة من خلال أجوبة السيد وزير العدل والسيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية من الأمثلة والاستفسارات المثارة أثناء مناقشة مشروع المدونة أمام مجلسي البرلمان. منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الشروح والدلائل العدد 4، 2004، الطبعة الأولى، صفحة 102.
[12] – نفس المرجع السابق صفحة 102.
[13] – ذ. عبد العالي المومني، المرجع السابق، والذي اعتمد لتبرير الرأي المشار إليه أعلاه على أحد قرارات المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 16/10/2003 الذي اعتبر أن الإجراءات المتعلقة بتسخير القوة العمومية الصادرة عن وكيل الملك لمساعدة كتابة الضبط على تنفيذ الأحكام المدنية ليست إجراءات قضائية إنما إدارية ترتبط بميدان الشرطة الإدارية وتختص بالنظر في مشروعيتها المحكمة الإدارية.
اترك تعليقاً