_ أولاً : المقصود بالجنون كمانع للمسؤولية الجنائية :
الجنون هو فقدان الشخص لملكاته العقلية على نحو يترتب عليه تجرده من الوعي والقدرة على التمييز ، وكانت المادة 62 من قانون العقوبات المصري قبل تعديلها في عام 2009 تنص على أنه ” لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل … لجنون أو عاهة العقل ” وقد كان المشرع بذلك يعتبر الجنون أو عاهة العقل مانعاً من موانع المسؤولية الجنائية بالنظر لما يترتب عليهما من فقد الشعور أو الاختيار أي الارادة . ولئن كان الجنون يحول دون مساءلة الشخص جنائياً أو توقيع العقوبة عليه فهو لا يمنع من اعتباره خطراً اجرامياً ويخضع بهذا الوصف لتدابير احترازية كايداعه في مصحة عقلية .
ولكن المشرع المصري أجرى تعديلاً هاماً على نص المادة 62 من قانون العقوبات فأضاف الاضطراب النفسي الى الجنون كمانع من موانع المسؤولية الجنائية . كما أصبح المشرع يفرق منذ التعديل الذي تم في عام 2009 بين فرضين أولهما أن يترتب على الاضطراب النفسي أو العقلي ” فقدان ” الادراك أو الاختيار لدى فاعل الجريمة أي انعدامها تماماً لديه ، وفي هذا الفرض تمتنع المسؤولية الجنائية لدى الفاعل . اما الفرض الثاني ففيه يترتب على الاضطراب النفسي أو العقلي ” انقاص ” الادراك أو الاختيار لدى فاعل الجريمة وليس انعدامها كليةً ، وهنا يظل الفاعل مسؤولاً مسؤولية جنائية ولكن تأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة . ومعنى ذلك هو اعتبار انتقاص الادراك أو الاختيار سبباً لتحفيف العقوبة من حيث مقدارها .
_ ثانياً : الشروط الواجب توافرها لامتناع المسؤولية الجنائية :
تنص المادة 62 من قانون العقوبات بعد تعديلها في عام 2009 على أنه لا يسأل جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الادراك أو الاختيار … ويظل مسؤولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى الى انقاص ادراكه أو اختياره ، وتأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة .
ويستخلص من النص السابق ثلاثة شروط لامتناع المسؤولية الجنائية :
1- اصابة المتهم باضطراب عقلي أو نفسي .
2- فقد الادراك أو الاختيار .
3- معاصرة فقد الادراك أو الاختيار لارتكاب الجريمة .
1- اصابة المتهم باضطراب نفسي أو عقلي :
ساوى المشرع بين الاضطراب العقلي والنفسي واعتبر أن أياً منهما يتحقق به امتناع المسؤولية الجنائية للشخص . والاضطراب العقلي هو مرادف لما كان المشرع يعتبره من قبيل الجنون قبل تعديل عام 2009 . ولهذا الاضطراب العقلي معنى طبي يتعلق بالمخ . لكن الثابت أن المشرع آثر الافصاح عن الجنون في معناه القانوني على نحو يشمل كافة صور اضطراب القوى الذهنية لدى الشخص بما يفقده الادراك أو حرية الاختيار . ولهذا فلا يتقيد القاضي بالمعني الطبي الدقيق للجنون وما يقتضيه ذلك من البحث عن الأمراض العقلية وأنواعها ، بل يكفي أن يتحقق من زوال الادراك أو حرية الاختيار لدى الشخص لحظة ارتكابه الجريمة . ويستوي أن يكون فقد الادراك أو الاختيار راجعاً الى مرض يصيب المخ ” وهو الجنون في معناه الطبي ” أو خلل يتعلق بالجهاز العصبي للشخص أو اضطراب صحته النفسية .
وبموجب التعديل الذي طرأ على المادة 62 من قانون العقوبات بالقانون رقم 71 لسنة 2009 باصدار قانون رعاية المريض النفسي لم يتردد القضاء في اعتبار الاضطراب النفسي مانعاً من موانع المسؤولية الجنائية شأنه شأن الجنون ، ومن صور هذا الاضطراب النفسي مثلما كشف عنه التقرير الطبي وجود اضطراب بالشخصية يتميز بارتفاع السمات العصبية والعدوانية الاجرامية مع اضطراب في السلوك .
2- فقد الادراك أو الاختيار :
لا يترتب على مجرد الاصابة بالاضطراب العقلي أو النفسي امتناع المسؤولية الجنائية اذا لم يكن من شأنهما فقد الشعور أو الاختيار لدى الجاني . وقد قضى تطبيقاً لذلك بأنه اذا كانت العاهة لا تؤدي الى فقد الشعور أو الاختيار كالحمق والسفه فان المسؤولية الجنائية لا تمتنع. ومن الملاحظ أن فقد الشعور أو الاختيار ليس المقصود بهما زوال التمييز أو الاختيار لدى الشخص تماماً بل يكفي اضعافهما والانتقاص منهما الى حد التأثير على ارادة الشخص . وعلى أية حال فان تحديد مدى ما يتمتع به الجاني من التمييز والاختيار مسألة متروكة لقاضي الموضوع الذي يحق له الاستعانة بخبير في هذا الشأن .
3- معاصرة فقد الادراك أو الاختيار لارتكاب الجريمة :
ينبغي لامتناع المسؤولية الجنائية أن يكون فقد الادراك ” الشعور ” أو الاختيار معاصراً لوقت وقوع الجريمة . ويترتب على ذلك أنه لا أهمية لما قبل ذلك أو لما بعده فاذا كان الشخص فاقداً للشعور أو الاختيار قبل وقوع الجريمة ثم صار متمتعاً بهما لحظة وقوعها فانه يساءل جنائياً . كما يظل مسؤولاً جنائياً متى كان متمتعاً بالشعور والاختيار وقت وقوع الجريمة ولو تجرد منهما بعد ذلك . ولكن يترتب على الجنون اللاحق على ارتكاب الجريمة عدم جواز السير في الدعوى الجنائية وامتناع تطبيق العقوبة المقررة على الشخص . وفي هذا المعنى تنص المادة 342 من قانون الاجراءات الجنائية على أنه ” اذا صدر أمر بأن لا وجه لاقامة الدعوى أو حكم بالبراءة للمتهم وكان ذلك بسبب اضطراب عقلي تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم اذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض النفسية الى أن تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم بالافراج عنه وذلك بعد الاطلاع على تقرير مدير المحل وسماع أقوال النيابة العامة واجراء ما تراه لازماً للتثبت من أن المتهم قد عاد الى رشده ” . والهدف من هذا التدبير هو وقاية المجتمع من خطورة هذا الشخص . ولكن يشترط أن تكون الجريمة قد ارتكبت بالفعل . وهذا التدبير الزامي لا تملك المحكمة أن تغفل الأمر به والا كان حكمها مشوباً بالخطأ في تطبيق القانون .
_ ثالثاً : الأثر القانوني المترتب على امتناع المسؤولية :
يترتب على توافر الشروط السابقة امتناع المسؤولية الجنائية للشخص واستحالة توقيع العقوبة المقررة عليه . ويجب على سلطة التحقيق أن تمتنع عن السير في اجراءات الدعوى وتصدر قراراً وتصدر قراراً بألا وجه لاقامتها . فاذا كانت الدعوى قد أحيلت الى المحكمة وجب على الأخيرة أن تصدر حكماً بالبراءة . وامتناع المسؤولية الجنائية ذو طابع شخصي لا يستفيد منه الا من توافر فيه فقط ، فاذا كان للشخص شركاء آخرون فانهم لا يستفيدون من امتناع المسؤولية ويظل جائزاً محاكمتهم ومعاقبتهم .
ولقاضي الموضوع سلطة التحقق من توافر شروط امتناع المسؤولية الجنائية ولا رقابة لمحكمة النقض على ما يثبته قاضي الموضوع في شأن قبول أو رفض امتناع المسؤولية متى كان الحكم الصادر بذلك قد سبب تسبيباً كافياً . ويمتنع الدفع بامتناع المسؤولية لأول مرة أمام محكمة النقض . أما اذا اقتصر الأمر على مجرد الانتقاص من الادراك أو الاختيار لدى فاعل الجريمة فانه يظل مسؤولاً مسؤولية جنائية ولكن يكون للمحكمة أن تحكم بتخفيف العقوبة المقررة لجريمته .
اترك تعليقاً