رهن ملك الغير
أميمة عباس
باحثة في القانون العقاري
إن تعدد المعاملات الاقتصادية و تنوعها استدعى ضرورة توثقتها بالضمانات الكافية حتى يتلافى خطر عدم الاستخلاص و هو ما عزز ظهور التأمينات التي تلعب دورا فعالا في مختلف هذه العمليات الاقتصادية و الاستثمارية.و تنقسم هذه الأخيرة إلى صنفين منها الشخصية كالكفالة و العينية التي تضم الامتياز،الحبس ،و الرهن.
و يعتبر الرهن من أكثر التأمينات العينية تداولا،و قد يكون اتفاقيا،قانونيا،أو قضائيا[1]،و الرهن محور اهتمامنا ذلك الاتفاقي الذي تناوله الفصل 201 م .ح.ع. و عرفه على أنه:”عقد يخصص بموجبه المدين أو من يقوم مقامه شيئا منقولا أو عقارا أو حقا مجردا لضمان الوفاء بالالتزام و يخول للدائن الحق في استيفاء دينه من ذلك الشيء قبل غيره من الدائنين إذا لم يوف المدين له بما عليه”.
و يتسلط الرهن على العقار مسجلا كان أو غير مسجل،أو منقولا.إلا أنه يجب القول أن الرهن لا يتم إلا متى كان للمدين السلطة المفترضة للتصرف و هو ما يتمحور بالأساس في ضرورة توفر “حق الملكية”، فالأصل أن لا يتصرف الشخص إلا فيما يملك عملا بقاعدة فاقد الشيء لا يعطيه و ليس للشخص أن يمنح غيره أكثر مما لديه من حقوق.و قد طرح في هذا الإطار الإشكال المتعلق بصورة رهن ملك الغير ،حيث نص الفصل 203 من م.ح.ع. أنه “يصح رهن ملك الغير إذا أجازه المالك أو صار المرهون ملكا للراهن.
و يعتبر رهن ملك الغير كل عملية رهن لا يكون موضوعها ملكا للراهن و يعني ذلك أنه كل “نقل أو إنشاء إرادي و بمقابل لحق عيني على شيء غير مملوك للطرفين وقت التفويت”.و يختلف على عدة مؤسسات شبيهة به منها على سبيل الذكر التعهد عن الغير بما هو اتفاق يبرمه شخص باسم غيره بحقه ليلزمه نحو شخص المتعاقد معه دون أن تكون له صفة نائب،و يختلف أيضا عن النيابة كما وردت في الفصل 37 من م.إ.ع.و عن الملكية الظاهرة. فضلا على أن الرهن المقيد بشرط فسخي أو تعليقي[2] لا يعد رهنا لملك الغير.
و ما تجدر الإشارة إليه في إطار دراسة رهن ملك الغير هو أن المشرع رغم إقراره لصحة هذا الرهن مبدئيا بتحقق أحد شرطيه فإنه لازم الصمت فيما يتعلق بجزائه،فهل يكون بذلك قد كرس نفس قاعدة الفصل 576 من م.إ.ع.؟
و يعتبر الإشكال الرئيسي متمثلا في البحث عن مدى صحة رهن ملك الغير في القانون التونسي؟
نتبين من خلال دراسة أحكام القانون الوضعي و مختلف النظريات المرتبطة بالمسألة أن رهن ملك الغير هو عقد صحيح عند تكوينه(الجزء الأول) و تتأكد صحته من خلال مآله(الجزء الثاني)
الجزء الأول:رهن ملك الغير، عقد صحيح عند تكوينه:
تطرح جميع صور رهن ملك الغير نفس المشكل من حيث اعتبار انعقادها صحيحة و ذلك من خلال نفي البطلان من جهة(الفصل الأول) و إقرار صحة رهن ملك الغير(الفصل الثاني).
الفصل الأول:نفي بطلان رهن ملك الغير:
حتى يكون العقد صحيحا من حيث نشأته لابد من توفر أركانه تجنبا لجزاء البطلان، و في هذا الإطار ظهرت العديد من الاتجاهات التي تقر بطلان رهن ملك الغير .و يجب التمييز هنا بين البطلان و جزاءات أخرى كعدم النفاذ،فإن كان العقد الباطل لا ينتج أي أثر تجاه المتعاقدين و الغير فإن العقد غير النافذ ينشأ صحيحا و ينتج أثاره بين المتعاقدين إلا أنه لا يسري في حق الغير[3] ، كما يختلف عن الفسخ الذي يمثل جزاء عدم تنفيذ أحد الطرفين للعقد ،هذا فصلا عن كون البطلان يختلف عن العقد الموقوف المكرس في الفقه الإسلامي. و على ضوء ما تم ذكره فإن رهن ملك الغير أفرده البعض بجزاء البطلان و هو ما استوجب نفيه بجميع صوره سواء كان مطلقا( المبحث الأول) أو نسبيا(المبحث الثاني).
المبحث الأول:نفي البطلان المطلق:
إن البطلان المطلق هو جزاء لا يقبل التصحيح و ينسحب على حالات حددها القانون منها صورة الفصل 325 من م.إ.ع. المشتمل على صورة خلو العقد من ركن من أركانه، و إذا ما انسحب على وضعية رهن ملك الغير يجب التأكد من كون هذا العقد التابع للالتزام الأصلي قد خلا فعلا من ركن من أركانه.و نشير إلى أن المواقف التي تبنت بطلان رهن ملك الغير بطلانا مطلقا اعتمدت على عدة أسس منها عدم المشروعية و الاستحالة و غيرها من الحجج الأخرى.
فأما عدم المشروعية ،فإنه يجد أساسه في التجريم الوارد بالفصل 292 من م.ج.و بالرجوع إلى المبدأ القائل بعدم منح الغير أكثر مما لديه من حقوق عملا بقاعدة الفصل551 من م.إ.ع.
حيث جرم الفصل 292 من م.ج. رهن ملك الغير و قد ساندته في ذلك نصوص أخرى منها الفصل 719 من م.ت. الذي جرم تعمد الدائن المرتهن رهن سندات للغير أو تعمد شخص رهن سندات يعلم أنها مملوكة للغير مع عدم حصوله على موافقته بنفس عقوبة الفصل 292 من م.ج.
إلا أنه في حقيقة الأمر، المستهدف بالعقاب هو النشاط الإجرامي و الاستيلاء المترتب عنه لا ابرام الرهن المتعلق بملك الغير .هذا فضلا على أن غاية المشرع من خلال الفصل 292 من م.ج. هي حماية الملك العقاري من الاعتداءات المنجرة عن تصرف قانوني شأن الرهن دون وجه حق.
إلا أن هذه الحجة بدت ضعيفة، ذلك أن ربط القانون الجزائي بالقانون المدني يؤول بنا إلى القول أن الإتجاه المعتمد لبطلان رهن ملك الغير استنادا إلى أحكام الفصل 292 من م.ج. هو رأي متسرع ذلك أنه يتنافى و المبدأ القائل باستقلالية القانون الجزائي عن القانون المدني .
و قد اعتبر الأستاذ أحمد بن طالب في نفس السياق أن”الاستنجاد بالقانون الجنائي…… استثنائيا لأن زرع وسائل جزائية في المعاملات من القانون الخاص هو أمر خطير كإقحام جسم أجنبي لا يستطيع التأقلم”
و قد أدى دحض هذه الحجة إلى اعتماد المبدأ الوارد بالفصل 551 من م.إ.ع. لإقرار البطلان المطلق لرهن ملك الغير،حيث اقتضى هذا المبدأ أنه” لا يجوز لشخص أن يمنح غيره أكثر مما لنفسه من الحقوق” و نظرا لغياب شرط الملكية و عدم وجود أي حق للراهن على المرهون فإن ذلك يؤكد بطلان رهن ملك الغير بطلانا مطلقا .إلا أن اعتماد هذه الحجة لا يؤخذ على اطلاقه نظرا لكون الفصل 551 من م.إ.ع. لا يقتصر على التصرفات القانونية فقط فضلا على أن اعتماده يؤدي إلى التعارض مع قواعد قانونية أخرى ،فلئن كان مرمى هذا الفصل حماية صاحب الحق الأصلي أو المالك الحقيقي بإقرار بطلان رهن ملك الغير ،فإن ذلك يؤدي إلى إعدام التصرف و يضيع بدوره حق الدائن الراهن حسن النية و الذي هو بحاجة إلى الحماية.
علاوة على أن النزاع بين الراهن و المرتهن لا يتمثل في المطالبة بأكثر مما له بل هو نزاع بين صحة و بطلان التصرف و هذه العلاقة خارجة عن دائرة الفصل 551 من م.إ.ع.
و لم يكتف أصحاب الموقف القائل بالبطلان المطلق بهذه الحجج فحسب بل اعتمدوا أيضا حجة مؤسسة على استحالة المحل و انعدام الملكية، بمعنى أن غياب ركن من أركان العقد على معنى الفصول 2 و69 و 325 من م.إ.ع. يمثل استحالة للمحل و يؤدي إلى بطلان هذا الرهن بطلانا مطلقا و ذلك عملا بما جاء بالفصل 64 من نفس المجلة و الذي اقتضى أن العقد يبطل إذا كان مرتبطا بشيء أو عمل غير ممكن من حيث طبيعته أو من حيث القانون.
إلا أنه على مستوى فقه القضاء تمت معارضة الإقرار بهذه الاستحالة ذلك أنه في رهن ملك الغير أو غيره من صور التفويت في ملك الغير المحل موجود في ذمة المالك الحقيقي و عليه لا يكون الرهن الوارد بالفصل 203 من م.ح.ع. شيئا خارجا عن التعامل فيه.
و خلاصة القول هو أن هذه الحجج مردودة على أصحابها، إلا أن رفض البطلان المطلق في رهن ملك الغير لا يقصي البطلان بجميع صوره،حيث ظهر اتجاه ثان يتبنى و يدافع عن الموقف القائل بالبطلان النسبي لرهن ملك الغير مستندا في ذلك على جملة من الحجج إلا أنه وقع نفيه(المبحث الثاني )
المبحث الثاني: نفي البطلان النسبي:
إن العقد الباطل بطلانا نسبيا هو العقد الموجود حقيقة إلا أن وجوده مشوبا بعلة قد تؤدي إلى إبطاله إن تمسك بها الطرف الذي تقررت حمايته.و فيما يتعلق برهن ملك الغير ،فإن عدم تحقق أحد شرطيه يؤدي إلى بطلان الرهن بطلانا نسبيا و لكن رغم إقرار أصحاب هذا الرأي على البطلان النسبي فإن هذا لا يخف اختلافهم على مستوى الأسس المعتمدة،حيث اعتمد شق منهم أحكام الغلط الواردة بمجلة الالتزامات و العقود و اقتصر شق أخر على منطوق الفصل 203 من م.ح.ع.
فأما البطلان النسبي برهن ملك الغير المؤسس على الغلط،فإنه يتمثل في إقرار هذا الجزاء إذاما اعترى الإرادة عيب من العيوب و يعتبر الغلط حالة تقوم بالنفس تحمل على توهم غير الواقع،وعليهبما أن الغلط عيب من عيوب الرضا يفترض انعقاد عقد على أساس مخالف للواقع،فإنه يكون مناسبا و عبارات الفصل 203 من م.ح.ع.حي يكون الدائن المرتهن قد وقع في غلط في الصفة الجوهرية للمرهون و هي كونه مملوكا للراهن و ليس للمدين أن يدعي أنه وقع في الغلط في ذات نفسه و الحال أن الملكية مستوجبة فيه،و رغم وجاهة هذه الحجة فإنه تم دحضها نظرا لكون القول بوجود غلط في صفة الشيء لا يستقيم في صورة رهن ملك الغير لأن المقصود بصفة الشيء ما يهم ذاته و جنسه و نوعه لا ملكيته.
كما أن الغلط في صفة المعاقد يوجب البطلان عملا بالفصل 46 من م.إ.ع. إذا كانت ذاته أو صفته من الأسباب الموجبة للرضا و ليست هي الحال في الرهن نظرا لعدم اعتباره من العقود القائمة على الاعتبار الشخصي .
ختاما،أدى رفض هذا الموقف المؤسس على الغلط إلى ظهور اتجاه أخر اكتفى بما جاء بالفصل 203 من م.ح.ع. فالبطلان النسبي قد يشمل عدة صور عملا بما جاء بالفصل 330 من م.إ.ع. إذ لا يقتصر على نقص الأهلية أو عيب في الرضا،إلا أن الفصل سابق الذكر يمكن من ذلك عملا بصياغته الفرنسية في المقابل الصياغة العربية لهذا الفصل لا تسمح بذلك هذا فضلا على أن المشرع صلب الفصل 203 من م.ح.ع. استعمل عبارة “يصح” أي أن الرهن موجودا و قابل للابطال لكن حصول أحد الشرطين يصححه و في نفس هذا الاتجاه ذهب كذلك الفصل 260 من م.ح.ع. المتعلق بآثار رهن المنقول بين الدائنين حيث نص على ما يلي:”…..
و على رهن ملك الغير إن صح” حيث تتكون مرتبة هذا الرهن بين سائر الرهون يوم تسليم المنقول إلى الدائن أو غيره و في هذا الإطار يجب القول أن الصحة لقوله ” إن تصح” تعني أن الرهن يرتب أثره و هي تقدر بالأساس عند التكوين لا بعده،إذ ليس من المنطقي أن “يصح ما هو صحيح” بل “ينفذ ما هو صحيح” فإما صحيحا و ينفذ أو يكون غير صحيح و يبطل و يتدعم ذلك من خلال ما جاء بالفصل 211 من م .ح.ع. المتعلق برهن المنقول حيث نص على أنه:”إذا تسلم الدائن على وجه الرهن شيئا منقولا أو جملة من منقولا مممن لا يملك فإنه لا يكتسب حق الرهن على تلك الأشياء و لو كان على حسن نية” و يتضح من هنا مدى معارضة هذا الفصل لمنطوق الفصل 53 من م.ح.ع. القاضي بأن الحيازة سند للملكية بالنسبة لحسن النية.كما أن هذا النص بدى واضحا،حيث لم يرتب جزاء البطلان بل كرس جزاء عدم اكتساب حق الرهن فحسب . و من هنا يتضح إقصاء العمل بالمواقف القائلة بالبطلان،و هو ما أسس لظهور نظريات أخرى تدافع على فكرة تكون رهن ملك الغير صحيحا(الفصل الثاني)
الفصل الثاني: تكريس صحة رهن ملك الغير:
من المؤكد أن القول بصحة رهن ملك الغير لم يكن بالأمر السهل،حيث وقع اعتماد عدة حجج في ذلك منها المستمدة من مجلة الالتزامات و العقود (المبحث الأول) و أخرى مستمدة من الفقه الإسلامي(مبحث ثاني) و أخيرا مؤسسة على فكرة الضمان(المبحث الثالث).
المبحث الأول:الأسس المستمدة من نظرية التصرف القانوني صلب مجلة الالتزامات و العقود
اقتضى الفصل 203 من م.ح.ع. أن رهن ملك الغير صحيح إذا أجازه المالك أو صار المرهون ملكا للراهن.و يبدو من خلال هذا الفصل أن تحقق الشرطين هو عمل متجه للمستقبل أحيانا و أحيانا أخرى يكون الرهن تصرفا فضوليا.
و لن نخف حقيقة إن قلنا أن توقف صحة الرهن على تحقق الشرطين يعكس ارتباطه بمال مستقبل محتمل الدخول في الذمة المالية للمدين و هو ما يرمي إلى الرجوع للأحكام المتعلقة بالتعامل في الشيء المستقبل الواردة صلب الفصل 66 من م.إ.ع.[4] و الذي جاءت عباراته مطلقة مما يمكن من إدراج هذه الصورة ضمنه عملا بقاعدة الفصل 533 من م.إ.ع. الذي اقتضى أنه” إذا كانت عبارة القانون المطلقة جرت على إطلاقها” و هو ما أكده فقه القضاء[5] أيضا على خلاف القانون الفرنسي الذي اقتضى أنه لا يمكن أن يكون المال المستقبل موضوع رهن[6].
و بالرجوع إلى الفصل 203 من م.ح.ع. نلاحظ أن هنالك مؤشرات تدل على كون هذا الرهن من بين صور التعامل على شيء مستقبل و ذلك من خلال اعتماده عبارة “صار المرهون ملكا للراهن” و يعتبر هذا الفصل “صار ” من أفعال التحويل.كما أن الصيغة التي جاءت بها عبارة “يصح” و هي صيغة المضارع و التي تفيد بدورها الحال و المستقبل و رغم وجاهة هذه الحجج،فإن هذا الموقف لم يسلم من النقاش ذلك أن الاستناد إلى الفصل إلى الفصل 66 من م.إ.ع.كان هدفه إيجاد أساس شكلي أي منفذ قانوني لصحة هذا التصرف،حيث أن الفصل سابق الذكر لا يستوعب صورة رهن ملك الغير نظرا لغياب نية المتعاقدين في التعاقد على شيء مستقبلي”إذ التعامل في شيء مستقبل لا يكون عفويا أو عن غير بصيرة”[7]
كما أن أحكام الفصل 66 من م.إ.ع.تتعارض و مبدأ التخصيص الذي يعد عماد الرهن ومن هنا يتضح أن هذا الربط وهمي و لا أساس له من الصحة ،و هو ما أسس لاعتماد حجج أخرى منها تطبيق أحكام الشرط الوارد بالفصل 116 من م.إ.ع. و ذلك من خلال اعتباره معلقا على شرط قانوني و أو ضمني سواء تعلق الأمر بشرط الإجازة أو شرط صيرورة المرهون ملكا للراهن،فضلا عما له من أثر رجعي،إلا أن هذه الحجة أيضا تبقى غير قاطعة و ذلك من خلال إبراز ما يضعفها و من بين ذلك مثلا أن الإجازة لا تعتبر وصفا يتغير به الالتزام على خلاف النصين 40[8] و 128 من م.إ.ع[9].
هذا فضلا على أن فرضية الرهن المعلق على شرط نظمها المشرع بصفة مستقلة صلب الفصل 202 من م.ح.ع. و نشير أيضا إلى أنه صحة رهن ملك الغير لم تستند إلى هذه الأسس فحسب بل شملت أيضا حججا أخرى مستمدة من نظرية العقد الموقوف (المبحث الثاني) الأمر الذي يستدعي دراسة معمقة قصد بيان حقيقة هذه العلاقة القائمة بينهما حتى يكون رهن ملك الغير صحيحا.
المبحث الثاني : الأسس المستمدة من نظرية العقد الموقوف:
يعتبر العقد الموقوف مؤسسة كرسها الفقه الإسلامي[10] وهو التصرف المشروع بأصله ووصفه و الذي يتوقف أثره على الإجازة ممن يملك العقد الشرعي[11] .و إذا ما قلنا أن التصرف الفضولي هو عقد صحيح فإن رهن ملك الغير يكون صورة من صوره و يتوقف نفاذه على تحقق أحد شرطيه عملا بما جاء بالفصل 203 من م.ح.ع.
إلا أنه يجب القول أن العقد الموقوف كأساس لصحة رهن ملك الغير وقع دحضه و ذلك لعدم قبول تعميم مسألة تأثير الفقه الإسلامي على القانون الوضعي و هو ما دفع البعض إلى البحث عن حجج أخرى تكون متماشية و مقتضيات الفصل 203 من م.ح.ع.كالضمان مثلا ( المبحث الثالث).
المبحث الثالث: اعتماد نظرية الضمان:
يمكن القول أن التصريح بصحة رهن ملك الغير يرجع إلى إعمال منطوق الفصل 207 من م.ح.ع. و الذي يكرس نظرية الضمان حيث اقتضى أنه:”ليس للراهن أن يفعل بالمرهون ما ينقص من قيمته بالنسبة لما كان عليه وقت العقد و لا ما يمنع المرتهن من إجراء الحقوق الناشئة له من الرهن”،حيث يحمي هذا الفصل الأثر العيني المترتب عن العقد و المتمثل في حق الرهن و بالرجوع إلى أحكام الفصل 203 من م.ح.ع.، فإنه إذا صار المرهون ملكا للراهن صح رهن الملك الغير أي نفذ أثره العيني و عندها يكون الدائن المرتهن في مأمن نظر لنفاذ العقد.
و نفهم من خلال ما سبق ذكره أن الضمان يمثل أساسا لإقرار صحة رهن ملك الغير فيكون بذلك في مرحلة التكوين منتجا لأثار شخصية، و يكون الأثر العيني متراخيا إلى حين توفر أحد الشرطين سواء بصيرورة المرهون ملكا للراهن أو بالإجازة.و يتدعم التمييز بين الأثر العيني و الشخصي من خلال ما جاء بالفصل 211 من م.ح.ع. حيث اقتضى ما يلي:”إذا تسلم الدائن على وجه الرهن شيئا منقولا أو جملة منقولات ممن لا يملك ذلك فإنه يكتسب حق الرهن على تلك الأشياء و لو كان عل حسن النية “.
و مرمى ذلك أن الجزاء المترتب عن عدم ملكية الراهن للمرهون ليس البطلان بل عدم اكتساب المرتهن لحق الرهن حتى و لو أصبح الراهن مالكا للمنقول عن حسن نية و يكون بذلك القول بصحة رهن ملك الغير متى توفر ضمان الاستحقاق و يكون الضمان محددا لمصير الرهن(الجزء الثاني) خاصة فيما يتعلق بأثره العيني فإذا نفذ الرهن ينفذ معه الضمان عينيا دون حاجة إلى تحريكه و بزوال الرهن يتحرك الضمان[12].
الجزء الثاني:رهن ملك الغير ،عقد صحيح من خلال مأله:
اقتضى الفصل 203 من م.ح.ع. أنه يصح رهن ملك الغير إذا أجازه المالك أو صار المرهون ملكا للراهن و عليه يكون حكم رهن ملك الغير بالأساس النفاذ( الفصل الأول) إذا ما تحقق أحد شرطيه و في حالة غيابهما يكون مآله الزوال(الفصل الثاني)
الفصل الأول:نفاذ رهن ملك الغير:
إن المقصود بالنفاذ هو الجواز و الرضا [13]و يفيد في حالة رهن ملك الغير تحقق الأثر العيني و يكون بذلك التصرف في ملك الغير برهنه مثلا نافذا إذا ما توفر أحد شرطيه سواء كان بإجازة الملك( المبحث الأول) أو بصيرورة المرهون ملكا للراهن(المبحث الثاني) و هو ما يذكر بطالع الفصل 576 من م.إ.ع. المتعلق ببيع ملك الغير الذي اشترط أيضا نفس الشروط لنفاذه.
المبحث الأول : إجازة الملك:
تعتبر الإجازة مرادفة لإمضاء العقد القابل للإبطال[14] أي أنها ترمي إلى إمضاء التصرف و يفهم من طالع الفصل 203 من م.ح.ع.أنها تصرف انفرادي يصدر عن المالك و ينفذ بها الرهن أي ينتج أثره العيني.و تختلف الإجازة عن الإمضاء و التصديق فالإمضاء يرمي إلى افتراض عقد قابلا للإبطال و يصدر من المتعاقد المحمي من البطلان و يهدف إلى إزالته.و أما التصديق الوارد بالفصول من 40 إلى 42 من م.إ.ع. فإنه ورد في معنى خاص و هو يرتبط بالتعاقد في حق الغير و هو تصرف صادر عن شخص أجنبي عن العقد يرتضي بمقتضاه أن تجري أحكامه عليه من وقت انعقاده.
و نظرا لكون الإجازة تصريحا إراديا و انفراديا ،فإنه يجب أن يتوفر فيها جملة من الشروط الشكلية و الموضوعية.
الفقرة الأولى : الشروط الموضوعية:
إن الإجازة تصريح إنفرادي و هي أيضا سبب من أسباب تعير الذمة على معنى الفصل الأول من م.إ.ع. و بذلك فهي تستوجب توفر الأركان الواردة بالفصل 2 من نفس المجلة من رضا و أهلية و سبب و محل.
و نلاحظ أن الإجازة تصدر من المالك الأصلي للمرهون و الذي يجب أن يكون متمتعا بأهلية التصرف ،في حل من أي مانع كالحجر مثلا و إذا كان قاصرا فإن ذلك يخضع للأحكام العامة المتمثلة في ضرورة توفر إجازة الولي بمقتضى إذن من قاضي التقاديم عملا بما جاء بالفصل 15 من م.إ.ع.
أما التصرف الصادر من الملك ” المريض مرض الموت” فإنه يتوقف على إجازة الورثة و لهم طلب إبطاله إذا ما ثبت وجود محاباة بالنسبة للوارث الراهن أو خرج عن ثلث التركة بالنسبة للغير الوارث و يجب أيضا أن تكون الإجازة محددة فيما يتعلق بمحتواها فهي تعتبر عملا قانونيا يقوم بمقتضاه المتعاقد بإزالة العيب الذي يشوب العقد و التعبير عنها يؤدي إلى نفاذ العقد و تحقق أثره العيني.و نشير إلى أن تحديد مضمون الإجازة و الذي يفسر من خلال الرجوع إلى فكرة ضمان الاستحقاق و الذي ينفذ بمقتضاه العقد.
و قد تكون الإجازة جزئية أو مشروطة فأما الجزئية فتتمثل في قبول المالك إجازة الرهن في جزء منه مع الاحتفاظ بالباقي على ملكه.أما الإجازة المشروطة فهي لا تعبر عن إرادة مجردة في إنفاذ العقد بل تعلقها بتحقق حادثة مستقبلة غير محققة الوقوع مما ينتج عنه تأخر النفاذ.و عليه يجب أن تكون الإجازة مزيلة للعيب الذي يشوب العقد و عموما يمكن القول أن الإجازة تكون غير نافذة إذا ما تعلقت بخطر استحقاق جديد لذلك وجب أن تكون خالية من كل شرط يحدد محتواها ذلك أن الغاية من الإجازة هي نفاذ الرهن و زوال خطر الاستحقاق.
و تجدر الإشارة إلى أن الإجازة لا تقتصر على توفر جملة من الشروط الموضوعية فحسب بل لا بد من توفر شروط شكلية( فقرة ثانية).
الفقرة الثانية :الشروط الشكلية:
لم ينص المشرع التونسي على شكل معين للإجازة الصادرة عن المالك الحقيقي و هو ما أدى إلى ظهور عدة مواقف حول ضبط شكلها ،فقد تم ردها إلى المبدأ العام و هو الرضائية و لئن كان الأصل في العقود الرضائية أي أن تكون صحيحة دون التقيد بشكل معين،فإن الإجازة كتصريح انفرادي قد تدعو إلى التمعن فيما إذا كانت تستوجب شكلية محددة .حيث لا يمكن إلحاق الإجازة بشكلية الرهن عملا بمبدأ توازي الصيغ و الأشكال،إذ لا يمكن إعتباره مبدأ ذلك أنه لم يرد في قاعدة قانونية عامة بل اعتمد فقط في بعض النصوص المتناثرة من ذلك الفصل 1163 في فقرته الثانية من م.إ.ع.
المتعلق بعزل الوكيل الفصل 59 من م.ش.ت. المتعلق بشركة المفاوضة و لكن تم إقرار أحكام مخالفة له في نصوص أخرى كالفصل 1113 من م.إ.ع. هذا فضلا على أن مبدأ الفرع يتبع الأصل لا ينسحب على الإجازة التي لا تعد فرعا للرهن فكل منهما تصرف قائم بذاته و إلا أصبحت مجرد قبول في عقد الرهن .لذلك يمكن القول أن الشكلية في الإجازة قد تكون قصد الإثبات فحسب و قد يتم التعبير عنها بلفظها أو بصفة ضمنية من خلال ملابسات لا تدع مجالا لشك في حقيقة توجه توجه الإرادة إليها و لا يمكن أن تستنج الإجازة من السكوت و ذلك عملا بما جاء بالفصل 522 من م.إ.ع. حيث لا يعتد بالسكوت فيما فيه تنازل عن حق.
و عليه إذا تم التصريح بالإجازة فإن الرهن ينفذ و يتحقق الأثر العيني و الذي يمكن الدائن المرتنهن من ضمان حقه المتعلق بالرهن و يكون للإجازة مفعول رجعي دون المساس بحقوق الغير و حقوق المالك قبل أن تتم إلا أن نفاذ رهن ملك الغير الوراد بالفصل 203 من م.ح.ع. لا يقتصر على تحقق الإجازة فقط بل يكون أيضا نافذا بصيرورة المرهون ملكا للراهن( المبحث الثاني).
المبحث الثاني:صيرورة المرهون ملكا للراهن:
يؤخذ من الفصل203 من م.ح.ع. أن رهن ملك الغير ينفذ إذا تحقق شرط صيرورة المرهون ملكا للراهن بموجب سبب من أسباب اكتساب الملكية الواردة بالفصل 22 من م.ح.ع. أي بموجب ” العقد، الميراث، التقادم،مفعول القانون و في المنقول بالاستيلاء”و تنقسم هذه الأسباب إلى أسباب اكتساب الملكية بالخلافة(فقرة أولى ) و أخرى بغير الخلافة(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أسباب اكتساب الملكية بالخلافة:
يعتبر العقد من أم أسباب تعمير الذمة ،حيث يؤدي إلى نشأة الالتزام أو نقله،تعديله أو إنهائه و يجب أن يكون هذا العقد صحيحا مهما كان نوعه بعوض أو بدونه.و يجب القول أن انتقال الملكية قد يكون أيضا بموجب الميراث و يكون ذلك بقوة القانون حيث اقتضى الفصل 85 من م.أ.ش.أنه ” يستحق الإرث بموت المورث “و تحققه يؤدي إلى نفاذ الرهن الوارد بالفصل 203 من م.ح.ع.فانتقال الإرث إلى المورث يؤدي إلى انتقال أثره العيني.
الفقرة الثانية:أسباب إنتقال الملكية بغير الخلافة:
إن من أسباب إنتقال الملكية بغير الخلافة نجد التقادم عملا بما جاء بالفصل 22 من م .ح.ع. و هذا السبب من شأنه تغيير الملكية و نقلها من جديد إلى المدين الراهن و يجب أن تتوفر جملة من الشروط في هذا الحوز عملا بالفصل 45 و مابعده من م.ح.ع. حتى يكون حوزا صحيحا لينفذ رهن ملك الغير المتعلق به.هذا فضلا على أن نفاذ هذا الرهن قد يكون بمفعول القانون.و لئن كانت عبارة “مفعول القانون” مطلقة فمن بين صوره ما هو متماشيا مع رهن ملك الغير و أخرى لا تستوعبها و هي الحال بالنسبة لصورة الفصل 203 من م.ح.ع. فمثلا الانتزاع لفائدة المصلحة العامة هو حكر على صورة بيع ملك الغير الواردة بالفصل 576 من م.إ.ع.
و نخلص إلى القول أن تحقق أحد أسباب انتقال الملكية يؤدي إلى تحقق الأثر العيني حتى ينفذ بذلك الرهن،إلا أن غياب تحقق هذا الشرط أو الإجازة ينتج عنه زوال هذا العقد( الفصل الثاني).
الفصل الثاني: زوال رهن ملك الغير:
إن ما يثير الانتباه بالنسبة للأحكام المتعلقة برهن ملك الغير هو غياب جزاء في صورة عدة تحقق شرطي الفصل203 من م.ح.ع. .علاوة على غياب إحالة صريحة إلى الفصل 576 من م.إ.ع. المتعلق ببيع ملك الغير على خلاف صورة كراء ملك الغير و هو ما يزيد الأمر تعقيدا في إطار معالجة زوال رهن ملك الغير من خلال تعدد الفرضيات التيي ترواحت بين اعتماد القياس على أحكام بيع ملك الغير مبدئيا(المبحث الأول) و تنبي نظرية الضمان( المبحث الثاني ).
المبحث الأول :القياس على أحكام بيع ملك الغير:
إن التشابه على مستوى الصياغة بين الفصلين 203من م.ح.ع. و 576 من م.إ.ع.كان دافعا نسبيا للعديد من الفقهاء للجزاء المعتمد في حالة بيع ملك الغير لينسحب على رهن ملك الغير في صورة زواله و يتمثل هذا الجزاء في الفسخ.
ويعتبر الفسخ لغة “النقض و التفريق[15] وفسخ الشيء يفسخه فسخا فانفسخ،نقضه فأنتقض[16] واصطلاحا الفسخ يتمثل في عدم تنفيذ أحد الطرفين لالتزامه الناشئ عن عقد ملزم للجانبين بموجبه ذلك العقد ويزول بصفة رجعية بحكم من المحكمة أو عملا بشرط فسخي في العقد”[17]
إضافة إلى ذلك يفترض الفسخ عقدا صحيحا ينفذ وإذا ما قمنا بالرجوع إلى حالة رهن ملك الغير فإن جزاء الفسخ لا يطرح مشكلا في رهن المنقول والرهن الحيازي بصفة عامة لأنه عقد ملزم للجانبين ويتصور فيه الفسخ رغم أن مصلحة الدائن في حقيقة الأمر ليست في فسخ الرهن بل في فسخ المعاملة التي يضمنها.
لذلك فإن الإشكال يطرح بالنسبة للرهن العقاري وكل رهن غير حيازي، وبذلك لا يكون الرهن في حد ذاته مستهدفا بالفسخ مباشرة وبذلك يكون استحقاقه موجبا لفسخ المعاملة التي يضمنها ويرتكز ذلك على فكرتين أساسيتين ومنها فكرة التبعية إذ يعتبر الرهن عقد ضمان تبعي لا يوجد بذاته بل يقترن وجوده بوجود العقد الأصلي وهو القرض،عقد الدين بصفة عامة ويمكن اعتبار ذلك في معاملة واحدة فالمدين الراهن حصل على القرض وفي المقابل حصل الدائن المرتهن على رهن يضمن له استرداد الدين ويعتبر هذا الدين مبررا لاعتماد الفسخ،إلا أن هذا الجزاء لا يتسلط على الرهن نفسه بل على عملية القرض برمتها ذلك أن الرهن تابع فهو من مكونات عنصر المسؤولية في التزام المدين يرد القرض أي أنه يدخل في إطار القرض الذي يعتبر عقدا ملزما للجانبين تم بتراضي المتعاقدين عملا بالفصل 1089 من م.إ.ع. وتفسير ذلك أن القرض هو التزام على كاهل المقرض يقابله التزام المدين بالرد.
كما يمكن أن نتصور فيه الدفع بعدم التنفيذ فيمتنع الدائن عن صرف القرض حتى يتحقق الأثر العيني للرهن.وجود الدفع بعدم التنفيذ دليل على وجود الفسخ لأنهما متلازمان في منطق العقود الملزمة للجانبين ويتأيد ذلك في فكرة الأجل. ونلاحظ أن تقريب جزاء الفسخ من الرهن ممكن على الوجه الأتي فثبوت عدم ملكية الراهن للمرهون يعني استحقاقه المؤدي إلى هلاكه في نظر الدائن مما يعني استحالة الرهن التي تبرر بدورها فسخ القرض.
وعليه،إذا ما قمنا بتقريب هذا الجزاء من رهن ملك الغير يمكن اعتماد الفصل 576 من م.إ.ع. في فقرته الثانية في هذا الرهن الوارد بالفصل 203 منم.ح.ع. لكان بالإمكان القول كالآتي:”إذا لم يجز المالك الرهن جاز للدائن المرتهن أن يطلب فسخ الرهن وعلى الراهن الخسارة إن لم يعلم الدائن المرتهن وقت الرهن أن الراهن فضولي وليس لهذا الراهن أن يعارض ببطلان الرهن بدعوى أنه فضولي”.
إلا أن الفسخ كجزاء عدم تنفيذ أحد الطرفين للالتزاماته يكون في إطار العقود الملزمة للجانبين التي تفترض وجود التزامات متقابلة في حين أنه في الرهن هو عقد ملزم لجانب واحد وهو المطالب به المدين الراهن من توفير الضمان للدائن المرتهن ذلك أن الرهن مبرم بصورة تبعية لعقد أصلي كالقرض مثلا .هذا فضلا على أن القول بإضافة الفقرة أنفة الذكر للفصل 203 من م.ح.علا يمكن القيام بها إلا من طرف المشرع رغم أن العديد من الفقهاء اعتمدوا ذلك تأسيسا على القول أن الرهن والبيع ينتميان إلى نفس فصيلة العقود المتمثلة في عقود التصرف ،هذا علاوة على ما ورد من إحالة في مجلة الحقوق العينية ومجلة الالتزامات والعقود ومن بين ذلك الفصل 204 من م.ح.ع. الذي جاء فيه: “ماجاز بيعه جاز رهنه”، واعتبروا من هذا الفصل سندا قانونيا لاعتماد جزاء بيع ملك الغير في صورة رهن ملك الغير.كما تم اعتماد طالع الفصل 205 منم.ح.ع. نظرا لإحالتها الصريحة إلى أحكام بيع ملك الغير.
في حين رأى شق أخر ضرورة الاكتفاء بالفصل 203 من م.ح.ع. للتوصل للجزاء بعلة أن المشرع لو أراد تكملة الفصل المذكور بما جاء بالفصل 576 لنص على ذلك صراحة كما هو الشأن فيما يتعلق بكراء رهن ملك الغير الوارد بالفصل 733 من م.إ.ع. كما أن الفصل 203 من م.ح.ع. لم ينص على إمكانية فسخ هذا الرهن،والقول بأن الفسخ كجزاء معتمد بالفصل 576 من م.إ.ع. يمكن أن ينسحب على صورة رهن ملك الغير محل نقاش فقهي.فإذا ما ارتبط الفسخ في العادة باستحالة التنفيذ والتي تختلف في هذا السياق بمفهوم الاستحقاق نظرا لصدورها من المالك الحقيقي إلا أن ذلك لا ينفي وجود حالات أخرى قد تصدر من الطرفين بمعزل عن تدخل الغير.فأما الاستحالة الصادرة عن المالك الحقيقي تتمثل في مبادرته بذلك نتيجة قيامه في الاستحقاق أو في صورة ثبوت الملكية له دون المفوت .
ويجدر القول أن هذا المعنى ينسحب على جميع صور الاستحالة الصادرة من المالك باستثناء صورتين تصطبغ فيهما بخاصيتين حيث تتخذ شكلا خاصا في الرهن يتمثل أساسا في هلاك المرهون والتي تساهم في بروز خصوصية الاستحالة في الرهن التي تقترن بصورة خاصة بنظرية الضمان، وهو ما سيتم تناوله نظرا لإقصاء إمكانية القياس على حكم الفصل 576 من م.إ.ع.للتباين الواضح بين التصرفات وبين طبيعة كل من الالتزام المتعلق بهما.
المبحث الثاني:تطبيق نظرية الضمان
إن غموض جزاء بيع ملك الغير يجعلنا في معزل عن اعتماده و الاكتفاء بالفصل 203 من م.ح.ع.مع الرجوع إلى فصول أخرى. فأمام استحالة تنفيذ الرهن لعدم تحقق شرطيه يمكن التفكير في ربط استحالة التنفيذ بالهلاك الذي قد يكون صادرا عن المدين الراهن أو بفعل الغير والذي يطرح فكرة الاستحقاق في حق الدائن المرتهن.وذلك من خلال البحث في النصوص المتعلقة بهلاك المرهون نظرا لكون استحقاق الشيء المرهون ضربا من ضروب الهلاك والذي يعادل استحالة التنفيذ[18]. وفي هذا الإطار يمكن القول أن عبارة هلاك تعني التعيب وقد يكون الهلاك جزئي أو كلي،كما قد يكون هلاكا ماديا أو قانونيا ومن شأنه”إضعاف التأمين المعتمد و هو الرهن ومن الواضح أن المشرع التونسي في إطار مجلة الحقوق العينية وبسط الهلاك في حلين اثنين تعلقا بالأساس باستمرار التأمين(الفقرة الأولى) وحلول الأجل(الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى :استمرار التأمين
فأما الأول فهو خاص بالرهن والتأمينات العينية عموما وهو ما يوضحه نص الفصل 209 من م.ح.ع. والذي جاء فيه:”ينسحب الرهن قانونا إذا تعيب المرهون أو هلك على ما بقي منه أو من توابعه وعلى ما يؤخذ من العوض عند انتزاعه للمصلحة العامة وللدائن أن يتخذ الوسائل التي يراها لحفظ حقه في العوض”.ونتبين من خلال ما جاء بالفصل أن التأمين يتسلط إما على ما بقي من المرهون أو على عوضه وهذا ما يعد تطبيقا لنظرية الحلول العيني التي تفترض في الأصل انقضاء الرهن[19]،وهو مايرمي إلى أن الهلاك سبب يؤدي إلى انقضاء الرهن كليا أو جزئيا.
وفي هذا الإطار يجدر تحديد معنى الحلول العيني وهو أن يحل مال جديد مكان مال قديم في نفس نظامه ويشترط في الحلول أن تتوفر للشخص الواحد مجموعتان من الأموال أو أكثر ويخضع المال الجديد إلى نفس نظام المال القديم وتبرز خصوصية هذا النظام أنه لا يؤخذ به إلا وجد نص قانوني خاص وهي صورة الفصل 209 ذلك أنه لا وجود لمبدأ عام ينظم الحلول وإنما هي حالات خاصة ترد في نصوص خاصة .
ويختلف الحلول العيني عن الحلول الشخصي الذي يعتبر وسيلة تأمين بحلول حق شخصي مكان حق شخصي أخر[20]،كما يختلف أيضا عن إحالة الحق والحوالة التي تفترض نشأة التزام جديد بين المحال له [21] ويكتفي الحلول بإحلال شخص ثالثا في العلاقة القانونية القائمة[22].
علاوة على ذلك فإن تعيب العين المرهونة إذا كان يوجب الحلول العيني ووجود رهن إضافي وقد تأثر القانون التونسي بالقانون الفرنسي من خلال الفصل 2136 منم.م.ف.كما للفقه الإسلامي تأثير أيضا حيث يقر المذهب المالكي تحميل المسؤولية للمدين الضمان في الهلاك الظاهر للعيان.
الفقرةالثانية:حلول الأجل
أما الحل الثاني يتمثل في حلول الأجل[23] وجاء بالتحديد في الفصلان 225 من م.ح.ع. في رهن المنقول حيث جاء فيه ما يلي”إذا كان هلاك الرهن أو تعيبه بفعل المرتهن كان للمرتهن أن يطالبه بأداء الدين حالا وإن كان مؤجلا إذا لم يعرض عليه المدين رهنا أخر يساوي الأول قيمة أو إضافة رهن أخر”.و276 من نفس المجلة فيما يخص الرهن العقاري حيث اقتضى:” إذا هلكت العقارات المرهونة أو تعطبت حيث أصبحت غير كافية لضمان حق الدائن في طلب الوفاء بالدين.
على أنه إذا كان الهلاك أو العطب بغير فعل المدين جاز لهذا الأخير أن يعرض لدائنه رهنا عقاريا إضافيا”، ويعتبر هذان الفصلان تطبيقا للنص العام الوارد بمجلة الالتزامات والعقود المتعلق بالأجل المنصوص عليه بالفصل 149 من م.إ.ع.المتعلق بالأجل المرتبط بنقص التأمينات حيث جاء في طياته ما يلي:”يحل الدين المؤجل إذا أعلن فلس المدين أو نقص بفعله شيء من الضمانات الخاصة التي كان أعطاها في العقد أو لم يعط ما وعد به منها وهذا الحكم يجري أيضا فيما إذا قصد الغرر و أخفى حقا أو امتيازا موظفا من قبل الضمانات المعطاة منه.
فإن اعترى الضمانات المذكورة نقص من غير إرادته فإنه لا يوجب سقوط حقه في الأجل لكن يجوز حينئذ لصاحب الدين إما أن يطلب ضمانات إضافية أو تنفيذ العقد حالا إن لم يتيسر ذلك”.
لذلك نستشف من النصان المتعلقان بالرهن أن الهلاك يؤدي إلى حلول الأجل و تحديدا إلى سقوطه ويستحق بذلك الدين وللدائن المرتهن المطالبة به حالا و يكون المقصود بالهلاك في الفصلان أنفا الذكر هو الهلاك المادي دون أن يقصي ذلك الهلاك القانوني ولاسيما استحقاق المرهون نظرا لالتزام الراهن بالضمان أي ضمان القيمة على معنى الفصل 207 من م.ح.ع.الذي يجبر المدين الراهن بتقديم رهن منقول “يساوي الأول قيمة” وبتحمل هلاك العقارات إذا “أصبحت غير كافية لضمان الدين” أي إذا لم يتحقق شرطي الفصل 203 من م.ح.ع. بإجازة رهن ملك الغير من المالك الأصلي أو صيرورة المرهون ملكا للراهن،طبقت هذه الأحكام لاعتبار ذلك ضربا من ضروب الهلاك القانوني الذي يكون المدين ملزما بضمانه.
وأما السبب الثاني فيتمثل فيما نستنتجه من عبارات الفصل 149من م.إ.ع. التي تنسحب على الاستحقاق فما يعتبر إنقاصا من قيمة الضمانات هو من قبيل الهلاك و التعيب في النصوص المرتبطة بالرهن .هذا فضلا على أن التزام الضمان يجبر الراهن على السعي قصد تحقيق الأثر العيني لفائدة المرتهن وهو ما يجعله في حكم من وعد بالتأمين ولم ينفذ وعده بمعنى أن راهن ملك غيره هو واعد بضمان لم يعطه و مثاله أن يرهن عقارا موعودا به ويتقاعس على عن رفع الخيار حتى يفوت فيه الواعد لغيره ويحرم منه،إلا أنه إذا ما يعلم عدم ملكيته فيكون عالما بسبب الاستحقاق والإخفاء على الرتهن و يعتبر مغررا يسقط الأجل في حقه .
كما يكون سقوط الأجل موجبا لانحلال الرهن،حيث يعتبر الرهن عقدا خاصا بصفة تبعية للالتزام الأصلي وهو تأمين عيني يمثل ضمانا للدائن الذي يسعى في حالة عدم أداء المدين لدينه في الآجال استيفاء دينه بالأفضلية،إلا أنه أحيانا قد يعتريه نقصا ما أي تعيب من ذلك نجد حالة هلاك المرهون الذي يؤدي بدوره إلى سقوط أجل الدين و انقضاء الرهن ويتدعم ذلك بما جاء في الفصل 264 من م.ح.ع.حيث اقتضى:”ينقضي الرهن بقطع النظر عن الالتزام الأصلي بما يلي:2- هلاك الشيء المرهون أو تلفه”.فيما يتعلق برهن العقاري رغم عدم تنصيص الفصل291 من نفس المجلة على هلاك المرهون كسبب من أسباب انقضاء الرهن العقاري [24].
وفي هذا الإطار إذا ما اعتبرنا أن سكوت المشرع في إطار الفصل 203 من م.ح.ع.عن جزاء رهن ملك الغير في حالة عدم تحقق الشرطان وإقصاء الجزاء المتعلق ببيع ملك الغير لعدم تناسبه مع ذلك وخاصة فيما يتعلق بالرهن العقاري لكونه غير حيازي ولا ينسحب عليه الفسخ على خلاف رهن المنقول،فإن ذلك لا يمنع من أن تنسحب عليه الأحكام المتعلقة بالهلاك ويمكن أن يتدعم ذلك من خلال قراءة عكسية للفصل345 من م.إ.ع.خاصة فيما يتعلق بالرهن غير الحيازي حيث نص على ما يلي:”إذا صار الذي وقع عليه العقد غير ممكن طبيعة أو قانونا بدون فعل المدين أو تقصيره وقبل أن يعد مماطلا فقد انقضى العقد”،
والذي يفيد بطريقة غير مباشرة في تقرير انقضاء الرهن ذلك أن هذا الأخير عقد ملزم لجانب واحد لا يمكن فيه تطبيق الفسخ لانعدام مصلحة الدائن فيه وليس له إلا إجبار معاقده على الوفاء، فإذا حصل الاستحقاق واستحال الوفاء لم يعد هناك إلا صورة تعويض الرهن وهي جبره على الوفاء العيني لبقاء الرهن عندها لا مناص من القول بانقضائه.
وعليه تكون بذلك نظرية الحلول و الضمان الحل الأرجح فيما يتعلق بجزاء رهن ملك الغير.وخلاصة القول أنه فيما يتعلق بجزاء رهن ملك الغير في صورة زواله وعدم تحقق شرطي الفصل 203 من م.ح.ع. من إجازة أو ثبوت لملكية المرهون للراهن ،فإنه بدا جليا عدم تماشي ذلك مع جزاء بيع ملك الغير مما دفع إلى إقصاءه لعدة أسبابمن بينها حق الرهن لفائدة الدائن المرتهن حتى يمكنه المطالبة بالفسخ لعدم التنفيذ،بل تعتبر نشأة حق الرهن أثرا عينيا لعقد الرهن لا التزاما شخصيا يتحمله الراهن إزاء معاقده،وبذلك نلاحظ أن إمكانية طلب الفسخ وتعويض الخسارة من طرف الدائن المرتهن تبقى فرضية بعيدة على أحكام الفصل 203 من م.ح.ع.،إلا أن فكرة الضمان المستوحاة من طيات هذا الجزاء تتدعم بتكريس نظرية الضمان المنصوص عليها بالفصول 207،209،و276 من م.ح.ع.
فيما يتعلق بنظرية الحلول العيني ووجود فكرة الرهن الإضافي والتي بدت هي الحل الأرجح ففي صورة اقتصر رهن ملك الغير على نقل الأثر الشخصي فإن غياب الأثر العيني يكون موجبا لتحريك الضمان تأسيسا على فكرة أن “الرهن هو تصرف موجود وله صورة حقيقية وفعلية في الواقع القانوني و ليس عدما أو شبحا لتصرف بل هو رابطة قائمة وملزمة لعاقديه وقابلة للحياة العينية إن استوفت شروط الرهن التي تنقصها”[25]
ختاما،لن نخفي حقيقة إذا قلنا أن رهن ملك الغير صورة من صور التفويت التي تطرح العديد من الإشكاليات من حيث تكوينها وتنفيذها. وما زاد الأمر تعقيدا هو غموض الفصل203 من م.ح.ع. والنقص الذي يشوب فقه القضاء التونسي في تطبيق هذا الفصل.
[1] يؤخذ من الفصل 201 م ح ع أن الرهن قد يكون تعاقديا أي بجرد تلاقي الإرادتين ،كما قد بكون رهنا قانونيا أو قضائيا، أما الرهون القانونية في القانون التونسي فهي: ثلاثة رهون مقررة لفائدة الدولة و ثلاثة رهون مقررة للخواص، أما الرهون الممنوحة للدولة فهي:
بالفصل 21 من القانون عدد 18 لسنة 1963 المؤرخ في 27 ماي 1963 مثلما نقح بالقانون عدد 9 لسنة 1971 المؤرخ في 16 فيفري 1971 الذي أقر رهنا عقاريا من الدرجة الأولى ضمانا لاستخلاص مصاريف القيام بالأشغال اللازمة و التهيئات الضرورية عوضا عن المالكين لسقي أراضيهم الداخلة في المناطق السقوية العمومية .
الفصل 22 من قانون العقارات الدولية الفلاحية عدد 21 لسنة 1995 المؤرخ في 13 فيفري 1995،الذي أقر رهنا عقاريا ذي رتبة أولى لضمان دين الثمن المحمول على مشتري العقار الفلاحي بالمراكنة في إطار تسوية الأوضاع العقارية القديمة للأراضي المستغلة في ظل أمر 4 سبتمبر 1949 أو المسندة وفق قانون 19 ماي 1970،أو أراضي السيالين أو أراضي الأحباس العامة و الزوايا.
الفصل 10 جديد من القانون عدد 24 لسنة 2000 المؤرخ في 22 فيفري 2000 و المنقح لأمر 18 جويلية 1957 المتعلق بإلغاء نظام الأحباس الخاصة و المشتركة و الذي يمنح رهنا على عقار الوقف موضوع التصفية لضمان أعمال اللجنة الجهوية لتصفية الأحباس الخاصة و المشتركة في صورة تسبقتها من ميزانية الدولة عند عدم دفعها من مستحقي الوقف.
أما الرهون القانونية الممنوحة للخواص فهي :
رهن التبتيت المنصوص عليه بالفصل 458 من م.م.م.ت. و الذي يستفيد منه المدين المعقول عنه أو البائع صفقة للعقار لا ينقسم ضمانا لدين الدائنين أو المتقاسمين في صورة نكول المبتت له أو المشتري صفقة عن دفع ثمن التبتبت.
رهن جماعة الدائنين المنصوص عليه بالفصل 453 من م.ت و الذي يكون قضائيا حيث لابد من صدور حكم بالتفليس يقضي بتوظيف رهن عقاري لفائدة جماعة الدائنين و الذي يتولى أمين الفلسة إشهاره حسب الوسائل المقررة لإشهار الحقوق العينية.
رهن الإنزال و الذي جاء في الفصل 4 من قانون تصفية حقوق الإنزال و الكردار الفلاحية عدد 24 لسنة 1974 المؤرخ في 18 مارس 1974 ضمانا لاستخلاص ما تخلد بذمة المتنزلين لفائدة المنزلين من معاليم إنزال قديمة .
اترك تعليقاً