بصمة الحامض النووي بين المحقق و الطب العدلي
د. معتز محي الدين عبد الحميد
لكي نستوعب بصمة الحامض النووي DNA وندرك أهميتها، لابد من التذكير ببعض الأمور الفيزيولوجية- التشريحية الآتية:
يتكون الجسم كما هو معروف من أجهزة، يختص كل جهاز منها بوظيفة، مثل الجهاز البولي، الذي يختص بوظيفة طرح السوائل الزائدة عن حاجة الجسم، وبضمنها السموم، كمركبات اليوريا على هيئة حمض اليوريك المذاب، مثلاً.
والاجهزة تتكون من أعضاء،فمثلاً يتكون جهاز التنفس- من الأنف،وباقي المجاري التنفسية، والقصبات الهوائية، والرئتين.
لكل عضو من هذه الأعضاء دور معين يقوم به فى تناسق وترابط مستمر مع الاعضاء الاخرى.من جهته يتكون العضو من الانسجة، وكل نسيج له دور فى بناء العضو المعين، مثل نسيج تكوين الكلية المكون من النفرونات (الوحدة الوظيفية للكلى). وتتكون الانسجة من الخلايا (وحدة بناء الكائن الحي). والمعروف علمياً،بأن خلق الإنسان يبدأ بخلية واحدة،أصلها حيمن/ حيوان منوي/ من الأب، وبويضة من الأم.بعد التلقيح تصبح الخلية الذكرية(الحيمن) وبويضة الأنثى خلية واحدة ملقحة.
ويتكون الإنسان من مليارات الخلايا المتراصة والخلية تتكون من الغشاء السللوزي الذي يحمي الخلية، والسيتوبلازم السابح داخل الخلية، والفجوات العصارية، وغيرها. وتوجد داخل الخلية النواة، وهي مملوءة بـ 46 كروموسوماً.أي ان خلايا الإنسان بأنواعها تحتوي على زوجين من 23 فرديا من الكروموسومات، منها 22 زوجاً متماثلة في كل من الذكر(الأب) والأنثى (الأم)، والزوج رقم 23 يختلف في الذكر عن الأنثى بالحروف، وتسمى الكروموسومات الجنسية،الذكرية والأنثوية، ويرمز لها في الذكر بالحرفين XY، وفي الأنثى بالحرفين XX.
يتكون الكروموسوم من جينات، والجين الواحد يتكون من عدة احماض نووية، كل حامض نووى له دور فى الشفرة الوراثية لهذا الجين.
ولكل جين دور معين. فمثلا هناك جين للون العين، واخر للون الشعر، وثالث للبصمة الوراثية،وهكذا. ويتكون الانسان من 60 الى 80 الف جين، تتحكم فى حياة الانسان، وفي دور وجوده. وأي خلل في البرامج الموجودة على جزيء الحامض النووي DNA، نتيجة تعرض الأب أو الأم أو الأثنين معاً لمادة مشعة،أو مبيدات حشرية،أو مواد كيميائية،مثلاً، تظهر على نتاجهما أو ذريتهما-الأطفال- بصورة أمراض وراثية، وتشوهات خلقية.
فمثلاً خلل بالكروموسوم رقم 21 يؤدي الى إنجاب أطفال المنغول أو متلازمة داون Down syndrome، الناجم غالباً عن Trisomy 21 والذي يعني ان كل خلية في الجسم تحوي 3 نسخ من الكروموسوم 21..
والآن يأتي السؤال المهم:
ما هو الحامض النوويDNA؟
الحامض النووي هو الحامض الرايبوزي منقوص الأوكسجين.يرمز له بالحروف DNA وهي إختصار للأسم العلمي للحامض Deoxyribo Nucleic Acid، وقد سمي بالحامض النووي نظراً لوجوده وتمركزه دائماً في أنوية خلايا جميع الكائنات الحية،بدءاً من البكتريا والفطريات والنباتات والحيوانات،وإنتهاءً بالإنسان- ما عدا كريات الدم الحمر للإنسان، حيث ليس لها نواة.
والحامض النووي موجود في أنوية الخلايا في صورة كروموسومات،أي أنه يشكل وحدة البناء الأساسية للكروموسومات. وتوجد المعلومات الوراثية،أو الصفات الوراثية الخاصة بكل كائن حي، مستقرة على جزيء من الحامض النووي، بصورة شفرة Code،ومتكونة ومبرمجة منذ بداية تكوين كل كائن حي.
ويتواجد الحامض النووي على هيئة سلالم لولبية/حلزونية/ ملتفة حول نفسها،ومجدولة- كما تجدل ظفيرة الشعر، بشكل محكم و دقيق، ملتفة بصورة مستمرة، وتحوي نحو ثلاثة مليار سلماً/ درجة. والسلالم/الدرجات تتكون من مواد كيميائية أساسية طبيعية بسيطة،مكونة من 4 قواعد أمينية نيتروجينية Nitrogenous base،هي:الاَدينين، والجوانين،والسيتوزين، والثايمين.الآدنين يتصل دوماً بالثايمين، والجوانين بالسيتوزن، مكونة القواعد الأساسية المذكورة.
وتتصل كل واحدة من القواعد بأحد السكريات الخماسية منقوصة الأوكسجين، ويتصل السكر الخماسي بمركب فوسفوري Phosphate ، وتوجد روابط هيدروجينية تربط القواعد النيتروجينية ببعضها. علماً بأن ترتيب هذه المواد الكميائية على سلم الحمض النووي هو فريد لكل فرد، حيث يختلف تسلسل القواعد النيتروجينية،المكونة لدرجات سلالم النيوكلوتيدات Nucleotides مع بعضها على جزيء الحامض النووي،من شخص الى اَخر،إذ يبلغ عددها بالمليارات على كل شريط من هذا الحامض، وإحتمال تطابق تسلسلها في شخصين غير وارد، ولا يتشابه فيه أثنان على وجه الأرض إطلاقاً..
نكرر: لا يوجد بين البشرية المكونة حالياً من 6.5 مليار نسمة تقريباً، شخص واحد تتشابه بصمته كلياً مع شخص اَخر، حتى الأطفال التوائم المتشابهين،أي من بويضة واحدة،وحيمن واحد، لا تتشابه بصماتهم كلياً. ولهذا يطلق على الحمض النووي DNA إسم “بصمة الحامض النووي” أو “البصمة الوراثية”.
ويسمى أيضاً “المطبعة الكونية العجيبة” لأنه عند إنقسام الخلايا البشرية وتكاثرها بسرعة كبيرة يتكاثر الحامض النووي بموازاة ذلك، ويعطي صورة طبق الأصل له، حاوية كل المعلومات التي يحملها،منقولة تماماً الى الخلايا الجديدة.وهذا إعجاز في حد ذاته لا تطاوله أعظم المطابع في العالم كماً أو كيفاً [ ].
ونظراً لأن الحامض النووي هو القائد المسيطر على نشاط الخلية فإنه لا يتحرك من مكانه عندما يريد ان يُبلغُ أوامره الى أي جزء من الخلية، ولذلك يقوم بصنع حامض نووي اَخر،يسمى الحامض النووي الرايبوزي، ويرمز له بالحروف RNA إختصاراً للأسم العلمي Ribo Nucleic Acid حيث يقوم الحامض النوويDNA بنقل المعلومات الوراثية الى الحامض النووي RNA بنفس الترتيب والتسلسل التي عليه، ويقوم الأخير بتبليغ هذه الرسالة للخلية لتقوم بنشاطها منذ تكوين الجنين،فتحدد الصفات الوراثية لهذا الإنسان، وتحدد بصماته، وفصائل دمه،ونوع أنزيماته، ولون بشرته،ولون عينيه..الخ..
والجدير ذكره، أن تسلسل القواعد والروابط النتروجينية والسلالم اللولبية، يمكن إظهاره على فيلم حساس لأشعة X حيث يظهر في شكل خطوط تختلف في سمكها والمسافة بينها. وهذا لايمكن ان يتطابق أبداً في شخصين. شرحنا كل ذلك، لنصل الى الأهمية الفنية الجنائية لهذه البصمة..
الأهمية الفنية الجنائية لبصمة الحمض النووي
سجل إكتشاف الحمض النووى DNA ثورة علمية فى كل المجالات، فى الطب، والزراعة، والتمريض، وكل ما تتخيله من مجالات الهندسة الوراثية، والأمراض الوراثية.
وفيما يتعلق بالإنسان فقد حقق الإكتشاف لحد اليوم منجزات هائلة، ومنها: كان سابقاً يجري تمييز كل شخص، عن شخص اَخر، عن طريق ملامحه، ولونه، وعِرقه، وفيما سيكون الولد اصلع مثل ابيه او جده ،ام لا، وما شابه.. وكل هذا، وما شابه، كان عبارة عن تساؤلات ليست لها اجابة مؤكدة. أما اليوم فانت تستطيع ان تعلم كل شيء عن الإنسان، عن طريق الـ DNA.
و يعتبر مجال الطب العدلي والتحقيق والبحث الجنائي من أهم المجالات التي يستخدم فيها تحليل الـ DNA، وذلك لأن هذا الحامض هو عبارة عن بصمة لا تتكرر من شخص لآخر- كما أوضحنا. ولذلك يُستغلُ هذا التفرد في البصمة الوراثية لكل إنسان لتحديد الشخص المشتبه فيه في جرائم القتل والإغتصاب والسرقة، من خلال اَثاره التي قد يتركها في مسرح الجريمة، مثل الدم،أو الشعر،أو المني،أو اللعاب، وغيرها – إذا تم -طبعاً-تحليل الحمض المذكور بطريقة سليمة. وتطبق هذه البصمة حالياً في جميع دول العالم في المختبرات/ المعامل/ الجنائية، نظراً لأهميتها كدليل نفي أو إثبات في القضايا الجنائية.وكذلك في قضايا الفصل في البنوة المتنازع عليها[ ].
واليوم،بإمكان السلطات القضائية،عِبرَ المختبرات أو المعامل الجنائية، استخدام الحامض النووي الموجود في الدم أو في المني أو في الجلد أو في اللعاب أو في الشعر،المعثور عليه في مسرح جريمة لتحديد شخصية المشتبه به،أو المجني عليه، وذلك من خلال البصمة الوراثية- مرادفها بالأنكليزية Genetic fingerprinting،والتي تعني: الحصول على البصمة الوراثية لصاحب الحامض المذكور من الترميز الوراثي Genetic code إياه ، الذي لا يتطابق مع ترميز اَخر.
ويُستخدم الترميز الوراثي أيضاً في حل النزاعات المتعلقة بالنسب الأبوي، بل ويمكن تطبيقه أيضاً على الكائنات الأخرى في دراسة توزعها في بيئاتها المختلفة
حيال خدماته البالغة الأهمية،تطلب العديد من السلطات القضائية في العديد من بلدان العالم، تقديم عينة من الحامض النووي للمدانين في أنواع معينة من الجرائم، لإدراجها ضمن قاعدة بيانات كومبيوترية، وبذلك تساعد المعلومات المحفوظة المفتشين والباحثين الجنائيين على حل قضايا تتعلق بمتهم أو مقترف لجريمة غير معروف لديهم، عبر مقارنة عينة الحامض النووي المأخوذة من مسرح الجريمة. وهذه الطريقة هي إحدى أكثر التقنيات التي يعول عليها للتعرف على شخصية المجرم.. على أنه يجب الإنتباه الى ان هذه الطريقة ليست دائماً مفيدة للباحثين الجنائيين في الحالات التي تكثر فيها عينات الأحماض النووية في مسرح الحادث.
اترك تعليقاً