دراسة وبحث قانوني في الخبرة القضائية والإثبات الجنائي
يدور حاليا ًجدل فقهي حول صلاحية القاضي المطلقة في اختيار واعتماد كل ما يطمئن إليه في بناء عقيدة حكمه، خصوصاً في مسألة الإثبات الجنائي، وهي القاعدة التي تبدو أنها لم تعد تروق للكثير من فقهاء القانون في ظل تطور الجريمة المستحدثة وما صاحبها من تطوير لوسائل اكتشافها والقدرة على تحديد مرتكبيها بأساليب تقنية وعلمية يجهلها القاضي.
فالفقه الفرنسي على وجه الخصوص بدأ ينتقد في وقتنا المعاصر اعتماد الاقتناع على هوى القاضي، وبدأ يتخوف من الاحتكام إلى عواطفه أو الاعتماد على أسلوبه الذي قد يكون بدائياً على حد وصف أحد الشُرّاح.
وإذ نثير هذا الموضوع ليس بقصد المساس بمكانة القاضي أو نزاهته بقدر حمايته من أهواء نفسه، ومن تأثيرات قد تعيقه على اتخاذ الرأي السديد حول بناء عقيدة حكمه، التي قد تؤثر على سير العدالة، وربما تضع حقيقة حكمه في الميزان، كما قصدنا من إثارته هو وضعه في صورة حالة التطور التي تشهدها الجريمة تخطيطاً وتنفيذاً، والتي أضحت معه صعوبة إثبات الواقعة وما يتصل بها من حقائق اعتماداً على فراسة القاضي واجتهاده، بالنظر إلى استخدامات الوسائل العلمية والتقنية في ارتكابها، أو الكشف عن ملابساتها.
ذا الواقع أضاف على القاضي عبئاً ألزمه التأني في عدم إصدار أحكامه جزافاً، والبحث عن شريك متخصص يساعده على الولوج إلى الحقيقة من خلال دراسة وتحليل الوقائع بمنهجية وإخضاعها إلى أساسيات محكومة النتائج بشروط علمية مبنية على تحليلات منطقية تعزز قناعةالقاضي وتدعم افتراضاته بحالة الإثبات الذي هو بصدد البث فيها، ذلك الشريك هو الخبير القضائي الذي بات عنصراً مهماً ومكملاً يتوجب على القاضي عدم إهماله أو تجاهله وأن يدخله ضمن دائرة حساباته كل ما أمكنه ذلك، خصوصاً في مسائل الإثبات الجنائي في قضايا تحكم ظروف ارتكابها عوامل علمية أو تقنية لما سيكون له من أثر موضوعي على الأحكام التي يُصدرها، ولمحاولة الوصول إلى تحديد هذه العلاقة ونطاق التعاون الذي يربط القاضي بالخبير القضائي حول مسألة الإثبات الجنائي قسمت البحث إلى مبحثين الأول ..يتناول القاضي وعلاقته بالخبرة القضائية، واحتوى على ثلاثة مطالب تناولت فيها على التوالي : الخبرة القضائية الماهية والمقصود، ومهمة الخبير وقواعد ندبه، تقرير الخبير وخضوعه لتقدير القاضي.
وفي المبحث الثاني تناولت موضوع تقييم أعمال الخبرة ونظامها التأديبي واحتوى على مطلبين تناول الأول الخبير القضائي وتقييم أدائه، وتعلّق الثاني بنظام تأديب الخبير وآليات تنفيذ عقوبته.
وقد حاولت جاهداً في هذا البحث التعرف على أبعاد المشكلة في محاولة لإبرازها في شكل تسلسل منطقي، يتفق والغاية من إعداد البحث، وقد خلصت إلى النتائج التي أثيرت حولها التساؤلات،ثم تفعيلها في النهاية بتوصيات توصلنا إليها يُؤمل من خلالها تفعيل تلك النتائج بما يحقق الأهداف.
هذا ويجب أن أنوه هنا بأن موضوع البحث قد تطرق إلى العلاقات الإجرائية التي تربط القاضي بالخبير القضائي في مسألة الإثبات الجنائي دون الخوض في ماهيته وأبعاده القانونية، هدفنا من ذلك إبرازً لدورهما التكاملي الذي ينبغي أن يُعزز لضمان شفافية وموضوعية الأحكام القضائية التي ستعزز دون أدنى شك منظومة العدالة الجنائية.
المبحث الأول: القاضي وعلاقته بالخبرة القضائية
في هذا المبحث سنتطرق لعنوانه من خلال مطالب ثلاثة، الأول سيتم الإشارة فيه للخبرة القضائية من حيث ماهيتها والمقصود منها، أما المطلب الثاني سيتم التعرف فيه على خضوع تقرير الخبير لتقدير القاضي، والثالث نتعرض فيه إلى تقرير الخبير وخضوعه لتقدير القاضي.
المطلب الأول : الخبرة القضائية الماهية والمقصود
الخبرة القضائية : هي عبارة عن استشارة فنية بشأن أمور معينة يحتاج تقديرها إلى معرفة أو دراية خاصة لا تتوفر لدى المحقق ومن أمثلة ذلك تشريح جثة القتيل لمعرفة أسباب الوفاة، ومضاهاة الخطوط لاكتشاف التزوير، وتحليل المادة المضبوطة لتحديد طبيعتها.
والخبرة وسيلة من وسائل الإثبات التي تهدف إلى كشف بعض الدلائل أو الأدلة أو تحديد مدلولها بالاستعانة بالمعلومات العلمية.
والخبرة بهذا المعنى تتميز عن الشهادة من حيث أن مهمة الشاهد الأساسية تنحصر في الإدلاء بأقوال بشأن ما رآه أو سمعه أو أدركه بوجه عام دون أن يكون له القيام بتقدير شيء ما، فواجبه إذن يتمثل في قول الحقيقة فحسب، أما في حالة الخبرة فيتطلب من الخبير إبداء رأيه بشأن تقدير مسألة من طبيعة خاصة مما يتطلب إدراكاً لتلك الواقعة، يتم إما بالملاحظة المجردة أو يتطلب أبحاثاً وتجارب فنية حسب طبيعة المهمة، ثم استنتاجاً لما أدركه مطبقاً في ذلك معلوماته العلمية أو الفنية أو التجريبية إلى القاضي أو السلطة التي انتدبته، وترتيباً على تلك التفرقة يجوز في مجال الخبرة استبدال الخبير بغيره من الخبراء، أما الشاهد فلا نتصور استبداله لأن دوره في الدعوى قاصر عليه وحده.
ولهذا قيل أن الخبرة وسيلة إثبات مستقلة النوع تنقل إلى حيز الدعوى الجنائية دليلاً يتعلق بإثبات الجريمة أو إسنادها المادي أو المعنوي إلى المتهم حيث يتطلب هذا الاثبات معرفة ودراية لا تتوافر لدى عضو السلطة خاصة وتجارب عملية لا يتيح لها وقت القاضي أو المحقق.
المطلب الثاني : مهمة الخبير وقواعد ندبه
تقتصر مهمة الخبير على تحقيق الواقعة في الدعوى وإبداء رأيه في المسائل الفنية التي يصعب على القاضي استقصاء كنهها بنفسه دون المسائل القانونية.
المحكمة هي صاحبة الحق في اختيار وتعيين من ترى الاستعانة بهم من الخبراء المقبولين أمامها، إلا إذا قضت ظروف خاصة باختيارهم من غير هؤلاء وفي هذه الحالة تبين المحكمة هذه الظروف في الحكم، وإذا اتفق الخصوم على اختيار خبير أو ثلاثة خبراء أقرت المحكمة اتفاقهم.
حيث حدد الفصل الثاني من الباب الثالث من قانون الإجراءات الجنائية الليبي حالات ندب الخبير، تعرض فيها لكل ما يتعلق بقواعد ندبه وهو الفصل الذي حدد العلاقة التي تربط القاضي بالخبير في المسائل التي يحتاج فيها القاضي إلى المشورة الفنية، ناهيك عن تدابير إجرائية تتبع في تكليف الخبير، من خلال ما نصت عليه المواد (69-70-71-72-73) من القانون السابق الإشارة إليه، التي يمكن حصرها في الآتي :
1 – ندب الخبير أمر جوازي للمحقق متروك لتقديره تحت رقابة محكمة الموضوع، فله إذا رأى أهمية ذلك في كشف الحقيقة أن يندب خبيراً سواء من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم.
2 – حلف اليمين أمام المحقق لمن لم يسبق حلفه قبل مزاولة الخبير أعمال وظيفته، وعليه أن يقدم تقريره كتابة (مادة 70) إجراءات (ج).
ويُلاحظ أن أداء اليمين يجب أن يتم أمام المحقق نفسه، فلا يكفي أن يفوض المحقق جهة معينة لندب خبير يؤدي عمله بعد حلف اليمين أمام رئيس تلك الجهة.
ويترتب على عدم حلف اليمين بطلان عمل الخبير، وهو بطلان متعلق بالنظام العام، ولكن تقريره يتحول إلى عمل من أعمال الاستدلال.
3 – الأصل أن يؤدي الخبير مهمته التي أُنتدب إليها بنفسه، ولكن ليس هناك ما يحول دون استعانته بغيره من ذوي الخبرة ما دام قد تبنى رأي من استعان به، ولا يُشترط في هذه الحالة أن يؤدي من استعان به اليمين قبل إبداء الرأي.
4 – يحدد المحقق ميعاداً للخبير ليقدم تقريره، وله أن يستبدل به خبيراً آخر إذا لم يقدم التقرير في الميعاد المحدد( المادة 71 إجراءات جنائية).
وتأسيساً على ذلك فإن للخبير في غير حالات الإثبات الجنائي أن يحدد لبدء عمله تاريخاً لا يجاوز الخمسة عشر يوماً التالية لدعوته، وعليه أن يدعو الخصوم بكتب مسجلة تُرسل قبل ذلك التاريخ بسبعة أيام على الأقل يُخبرهم فيها بمكان أول اجتماع ويومه وساعته، ويترتب على عدم دعوة الخصوم بطلان عمل الخبير، ويجب على الخبير أن يُباشر أعماله ولو في غيبة الخصوم متى كانوا قد دُعوا على الوجه الصحيح.
5 – للمتهم دون باقي الخصوم، أن يستعين بخبير استشاري ويطلب تمكينه من الإطلاع على الأوراق وسائر ما سبق تقديمه للخبير المعين من قبل المحقق على ألا يترتب ذلك تأخير السير في الدعوى (المادة 72) إجراءات جنائية.
6 – للخصوم رد الخبير إذا وجدت أسباب قوية تدعو لذلك، ويقدم طلب الرد إلى المحقق للفصل فيه، ويجب أن يبين فيه أسباب الرد، وعلى المحقق الفصل فيه في مدة ثلاثة أيام من يوم تقديمه، ويترتب على هذا الطلب عدم استمرار الخبير في عمله إلا في حالة الاستعجال بأمر من القاضي(المادة 73) إجراءات جنائية.
المطلب الثالث: تقرير الخبير وخضوعه لتقدير القاضي
رأي الخبير لايقيد المحكمة، فلها أن تأخذ به، ولها أن تقضي بما يخالفه ولمحكمة الموضوع في حدود سلطتها التقديرية أن تأخذ بتقرير الخبير كله أو ببعض ما جاء به وتطرح بعضه لأنها غير مقيدة بآراء أهل الخبرة.
ولمحكمة الموضوع تقدير قيمة عمل الخبير وتقضي بما يطمئن إليه وجدانها ذلك أن رأى الخبير لا يعدو أن يكون عنصرا من عناصر الاثبات التى تخضع لتقديرها ،ولها أن تأخذ ببعض ما جاء بتقرير الخبير وتطرح بعضه ،واذا تعدد الخبراء واختلفوا في الرأى يتعين أن يتضمن التقرير رأى كل خبير من الخبراء مسبباً ويترك للقاضى سلطة المفاضلة بين تقارير الخبراء ،ويكتفي بالتقرير الذى أعده الخبير طالما جاء مستوفياً دون حاجة لا ستدعائه ،إلا إذا طلب أحد الخصوم استدعاءه بغرض مناقشته في تقريره انسجاما مع قاعدة حق الخصوم في مناقشة الشهود وفي كل الاحوال فإن موضوع مناقشة الخبير تبقى سلطة تقديرية للقاضي ولا يترتب عليه إن هو لم يستجب إلى طلب مناقشة الخبير مادام قد وضح لها وجه الحق في الدعوى (2)
ومسألة مناقشة الخبير سواء من القاضي أو الخصوم مسألة نراها حيوية ينبغي التوسع فيها كلما أمكن ذلك ،خصوصا في الوقائع التي تتحكم في إثباتها جوانب علمية وفنية القابلة للتطور بشكل دائم ،مما يفرض على القاضي الحاجة الى التعرف على خلفياتها ،حتى يدفع عنه شبهة الاعتقاد بتهميش دور الخبير بعدم مناقشته ،وإنفراده برأيه في بناء قناعاته بمعزل عن رأي الخبير ،الذي يفترض بأن تقاريره العلمية والفنية يعول عليها القاضي في تعزيز قناعاته لبناء عقيدة حكمه باعتبار أن المناقشة ستوفر له الآتي :
أ)الإلمام بخلفيات علمية وفنية لم يتطرق إليها الخبير بحكم حدود التكليف وبالمناقشة ستضيف إجابات عن استفسارات ستعزز من قناعات القاضي في يناء عقيدة حكمه .
ب) تقييم تقرير الخبير ،والتعرف على مدى تمكنه من الإحاطة بمجمل الخبرة التي ندب لأجلها ،أو عجزه في ذلك ،وبهذه الطريقة سيضيف جانبا إيجابيا يدعم ،ما هو مقرر من أن تقدير عمل أهل الخبرة والموازنة بين آرائهم فيما يختلفون فيه هو مما يستقل به قاضي الموضوع وإذا كان للقاضي التقدير الحر والسلطة الكاملة على نتائج أعمال الخبرة إلا أن هناك ضوابط أساسية تعين القاضي على القيام بهذه المهمة حتى لا يضل أو يتعسف فيها وهي التحقق مما يلي :
1- هل روعيت القوانين والمبادئ التي تحكم أعمال الخبرة ،وهل طبقت أحكامها ؟
2- هل هناك توافق بين تقارير الخبرة وشهادة الشهود أو اعتراف المتهم ؟
3- وإن كان هناك أكثر من خبير هل هناك إجماع بينهم أو لا والملاحظ من الناحية الواقعية أن القاضي غالباً ما يسلم بما خلص إليه الخبير في تقريره ،ويبنى حكمه على أساسه ،وهو التوجه الذي بات معمولاً به على نطاق واسع بحكم تطور الجريمة وأساليبها ،وصعوبة التعرف على وسائل إثباتها إلابالوسائل العلمية ،وهذا التصرف منطقي من القاضي فالمفترض أن رأي الخبير ورد في موضوع فني لا اختصاص للقاضي به ،وليس من شأن ثقافته أو خبرته القضائية أن تتيح له الفصل فيه بالاضافة إلى ذلك فهو الذي أنتدب الخبير ،ووثق فيه وراقب أداء مهمته أما إذا قضت المحكمة بخلاف رأي الخبير أو بعضه وهذا يتطلب منها أن تفند رأي الخبير قبل أن تطرحه جانباً وعلى القاضي بيان أسباب ذلك بحكم أن رأي الخبير غير ملزم له .
المبحث الثاني :تقييم أعمال الخبرة ونظامها التأديبي
تتعرض أعمال الخبرة في بعض الأحيان إلى الإخفاق في تلبية مطالب القاضي ،فتصدر تقارير متدنية لأسباب متعددة منها مايتصل بالخبير من حيث مؤهله العلمي الذي لا يساعده على البث في مشورة فنية تتطلب فيها درجة علمية لا تتناسب ومستواه العلمي أو بسبب الإهمال في إنجاز التقارير في مواعيدها أو التذرع بعدم وجود الخبرة المطلوبة ،وهي أسباب تؤدي قي أغلب الوقت إلى تأخر إصدار الأحكام في القضايا التي ترتبط بتقارير الخبير القضائي لكل هذه الأسباب افردنا مطلبين يناقش الاول تقييم أداء الخبير والثاني يناقش نظام تأديبه وآليات تنفيذ العقوبة ضده .
المطلب الأول الخبير القضائي وتقييم أدائه
الخبرة القضائية كأية وظيفة يفترض انها تشتغل في ظل وجود آلية تعمل على قياس درجة أدائها بهدف مراقبة ومتابعة تقاريرها الصادرة عن خبرائها وتقييم ما يعدونه من تقارير فنية تتوقف عليها في أغلب الأحيان صدور أحكام قطعية ونهائية يتحمل مسؤولية تبعاتها الخبير القضائي باعتباره المنتدب للبث في مسائلها العلمية والفنية حيث يتعذر على القاضي الإحاطة بجوانبها لبعدها عن تخصصه القانوني .
إن غياب هذه الآلية أو إهمال العمل بها ،سينعكس سلبا عن أداء أعمال الخبرة القضائية خصوصاً فيما يتصل بحالات الإثبات الجنائي التي تتمثل في:-
1) تدني التقارير الصادرة عن الخبراء لشعورهم بعدم وجود من يقيم تقاريرهم ،ولعلمهم بأن القاضي سيسلم بما ورد بالتقرير ،ويأخذ به على علته بحكم أنه صادر عن شخصية متخصصة أكثر منه في مجال تخصصه ،ولا يوجد ما يمنعه من اعتماده في بناء عقيدة حكمه.
2) غياب مثل هذه الآلية يحبط باقية الخبراء المتميزين والقادرين على الأداء الجيد ،مما يدفعهم إلى تبني نفس النهج الذي أتبعه غيرهم باعداد تقارير رتيبة ومقتضبة ،تنعدم فيها عناصر البحث والتحليل العلمي .
3) تحرم جانب المنافسة التي بدورها تفقد حرص الخبير ومصداقيته على تقديم تقرير جيد ،يعتمد على معايير علميه وفنية الذي يمكن أن يبني عليه القاضي ويطمئن إلى ما احتواه .. ومن المعلوم بأن القانون رقم (1) لسنة 1371و.ر 2003 م بشأن تنظيم خبرة الجدول قد وضع آلية للتقييم نصت عليها (المادة(10) تتلخص في متابعة أداء الخبير المنتدب مرة على الأقل في كل سنة من خلال لجنة الخبراء التي تتولى النظر في الجدول، وتشطب منه اسم كل خبير لم يعد حائزاً لأي شرط من الشروط اللازم توفرها في الخبراء وذلك بقرار مسبب يُعلن للخبير خلال عشرة أيام من تاريخ صدوره وفي اعتقادي الشخصي أن هذه الألية يؤخذ عليها بعض المأخذ تتمثل في الآتي :
أ – أن التقييم يأتي سنوياً على عمل الخبير بشكل عام، وليس التقييم على أساس قيمة التقرير.
ب – قد يكون التقرير المُعد – أساسا لحكم نطق به قبل تقييمه ببلوغ العام – لا يلبي الحقائق العلمية والفنية المتصلة بموضوع الإثبات الجنائي الأمر الذي قد يترتب عليه وقائع تخالف الحقيقة.
ج – التقييم يطال خبراء الجدول دون خبراء الجهات العامة المختصة والمتمثلة في خبراء مركز الخبرة القضائية والبحوث، أو الخبرة الجنائية، ومن المعلوم بأن أعمال الخبرة أمام المحاكم تتولاها فئتان:
الأولى : الخبراء المتخصصون في المجالات كافة الذين يُستعان برأيهم الفني أو العلمي عند الاقتضاء، ويتم قيد هؤلاء الخبراء في جداول لدى محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية حسب تخصص كل منهم وفقاً لأحكام القانون، وهؤلاء الخبراء يمثلون صفتهم الشخصية، يتقاضون أتعاباً من المحكمة مقابل أعمالهم.
الثانية : أما الفئة الأخرى، فهي الخبراء العاملون بمركز الخبرة القضائية والبحوث أو جهات تمثل الخبرة الجنائية (الإدارة العام للبحث الجنائي) وهؤلاء الخبراء يمثلون جهات عامة لا يتقاضون أتعاب خبرتهم بحكم كونهم موظفين عامين، بالرغم من حقهم في الأتعاب طبقاً لما أقرته المادة(28 من القانون رقم (1) لسنة 1371و.ر) بشأن خبراء الجدول، ويلاحظ أن الفئة الأولى ينظم أعمالها التشريع السابق ذكره في حين أن الفئة الثانية غير خاضعة لأحكامه عدا ما نصت عليه المادتان (21-28) من القانون الذي سبق الإشارة إليه، وأن المادتين للأسف غير معمول بهما من الناحية العملية بالنسبة للفئة الثانية، وأمام هذا الواقع نرى أن يتم تعديل قانون خبراء الجدول بضم خبراء الجهات العامة إليه، بحيث يسري عليهم كافة أحكامه أثناء انتدابهم لأعمال الخبرة، خصوصاً وإن بعض الدول تبنت هذا الأسلوب بضم الفئتين في قانون موحد.
المطلب الثاني :نظام تأديب الخبير وآليات تنفيذ العقوبة
لا يستقيم مؤشر التقييم الذي أشرنا إليه في المطلب الأول من هذا المبحث إلا في ظل قاعدة تتبنى ترسيخ مفهوم الجزاء والعقاب، باعتبار أن تقييم الأداء هو جزء من عملية ما يترتب عليها من نجاح عمل الخبير أو فشله وتقييم أداءه عمل الخبير المنتدب لانجاز مهمة محددة ينبغي لها أن تخضع للمعايير التقييمية ومن ثم وضع ذلك التقييم في ميزان حقيقة الأداء، فإما أن يُجاز عمله ويُثاب عليه لأنه أحسن أداءه، وإما أن يُعاب عليه لإخفاقه بسبب أو لآخر، فيُعاقب لارتكابه فعلاً مخالفاً أو محظوراً يتعلق بالعمل الذي اُنتدب لأجله، هذا وقد أشار القانون رقم (1) لسنة 1371و.ر إلى هذا المعنى من خلال إقراره لمبدأ تأديب الخبير، وتحديد الآليات التي تتخذ في تنفيذ العقوبة التي يجوز توقيعها على الخبراء الجدول وما عداهم من الموظفين العامين إذا قاموا بأعمال الخبرة بمقتضى وظائفهم والتي حددت العقوبات في الآتي :
1 ) اللوم.
2) الإيقاف عن العمل لمدة لا تزيد على سنة.
3) شطب الاسم من الجدول.
هذا وبالرغم من أن القانون المشار إليه أعلاه قد حدد العقوبات وآلية تنفيذها على الخبراء الخاضعين لأحكامه، إلا أنه يبقى نظاماً غير عملي بالنظر إلى جزئية تطبيقه على جزء من الخبراء الذين يعملون على حسابهم الخاص، بحيث يتقاضون أتعاباً مقابل أعمالهم من المحكمة المسجلين بقوائمها بحيث يمكن معه تنفيذ العقوبات المقررة في حقهم، إذا امتنع خبير الجدول بغير سبب مقبول عن القيام بعمل كُلف به أو أهمل الواجبات المفروضة عليه أو أخطا خطأ جسيماً في عمله، بحكم وجود ملفاتهم الشخصية ومعاملاتهم المالية لدى المحكمة المسجلين بها والتي تضمن السيطرة الإدارية عليهم، في حين يتعذر تطبيقه على بعض الفئات الأخرى من الخبراء التابعين للجهات العامة بالرغم من سريان أحكامه في حقهم لأسباب تتعلق بجوانب إدارية وتنظيمية، منها عدم سيطرة المحكمة إدارياً على هذه الشريحة، في غياب فرص التنسيق الإداري بين المحاكم والجهات العامة المعنية بتقديم الخبرة القضائية فيما يتعلق بأداء الخبير.
ودرءاً لهذا القصور ينبغي إيجاد وسيلة أو آلية يمكن من خلالها متابعة الخبير الذي يتبع هذه الجهات العامة من حيث محاكمته وتأديبه فيما لو ارتكب خبراؤها عملاً من الأعمال التي نصت عليها الماة (21) فقرة (1) من القانون رقم (1) لسنة 1371و.ر، ونعتقد بأن ما يمكن عمله في هذا الاتجاه هو
1- استحداث مجلس للتأديب بالجهة التي يتبعها الخبير، يتولى محاكمته في المخالفات التي يرتكبها طبقاً لما نصت عليها المادة المشار إليها أعلاه على أن يُشكل المجلس من خبراء في تخصصات تتصل بالمسائل المعروضة عليه وتكون رئاسته وعضويته من المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
2 – التنسيق الكامل بين المحكمة المختصة وجهة عمل الخبير في الوقائع التي يرتكب فيها مخالفات ليتم محاكمته على ضوئها من خلال ما يتم من مراسلات بشأنه.
3 – يضمن هذا التعاون والتنسيق، التعرف على الإجراءات التي اتخذها مجلس التأديب ضد ذلك الخبير والعقوبة التي وقعت عليه مقابل المخالفة التي ارتكبها، كما يضمن هذا التعاون ربط الصلة ودعمها في المجالات المتعلقة بمسائل الخبرة، بين القاضي والخبير القضائي بما يعزز ويقوي العلائق بينهما، تحقيقاً للأهداف المشتركة.
اترك تعليقاً