دراسة وبحث قانوني قيم عن عدم رجعية القوانين الجنائية
مـقـدمـــة :
يجد القانون الجنائي موقعه من الإجابة عن الإشكال المتعلق بحرية الإنسان من جهة، وبوصفه كائنا اجتماعيا من جهة أخرى. فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش من دون حرية، فإنه أيضا لا يعيش خارج الجماعة. و لأن حرية أفراد الجماعة تتداخل، و مصالحهم قد تتعارض، جاء القانون عامة و القانون الجنائي بصفة خاصة ليحدد مجال حرية الفرد من دون أن يتطاول على حرية الآخر و من دون أن يهدد حياة و استقرار الجماعة و سلمها الاجتماعي. و ذلك باعتبار أن الأصل في الأفعال الإباحة و الاستثناء هو التجريم أي ما يخرجه النص من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم. و هو ما عبر عنه المشرع المغربي في الفصل 1 من القانون الجنائي: “يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، و يوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية”.
و إذا كان القانون الجنائي يقوم على قاعدة الشرعية أي لا يعاقب إلا على الأفعال التي يعتبرها هذا القانون مجرمة، فإنه و بالضرورة لا يكون هذا الفعل مجرما إلا من تاريخ صدور النص و ليس قبل ذلك. لذلك كانت قاعدة عدم الرجعية إحدى التطبيقات الأساسية لقاعدة الشرعية.
و لما كانت هذه القاعدة جاءت لحماية الفرد، لضمان حقه في عدم معاقبته إلا على الأفعال التي جرمها القانون سلفا، و ليس بهوى الحاكمين، فإن ميلاد هذه القاعدة كان ضمن مبادئ حقوق الإنسان و إعلاناته. و إن كانت الشريعة الإسلامية قد جاءت به قرونا عدة قبل ميلادها في أوربا و أمريكا، و قبل أن تأخذ بها جل الدساتير و التشريعات الجنائية عبر العالم. و لما كان لكل قاعدة استثناء فلقاعدة عدم الرجعية بدورها استثناءات يجدر بنا معرفتها.
فما المقصود بقاعدة عدم الرجعية؟ و ما موقعها في التشريع المغربي؟ و ما هي الاستثناءات التي تطرأ عليها؟
للإجابة عن هذه التساؤلات سنقسم موضوعنا إلى مبحثين الأول يعمل على تحديد قاعدة عدم الرجعية، نشأتها و موقعها في التشريع المغربي. و الثاني يتطرق إلى استثناءات قاعدة عدم الرجعية و مبرراتها.
المبحث الأول : قاعدة عدم رجعية القوانين، تحديدها و نشأتها و موقعها في التشريع المغربي.
المطلب الأول : نشأة قاعدة عدم الرجعية و تدويلها.
إن قاعدة عدم رجعية القانون الجنائي تفيد أن هذا القانون لا يسري و لا يطبق إلا على الأفعال التي ارتكبت في ظله، أي يجب عدم جواز تطبيقه بأثر رجعي و هي قاعدة لها جذور تاريخية إذ تم التنصيص عليها في الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، و هكذا فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 دجنبر 1948 والتي جاء فيها: “لا يدان أي شخص بجريمة بسبب عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرما بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا توقع عليه أية عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي”([1]).
و كذلك الفقرة الأولى من المادة 15 و التي جاء فيها: “لا يدان أي فرد بأية جريمة بسبب فعل أو امتناع عن فعل لم يكن وقت ارتكابه يشكل جريمة بمقتضى القانون الوطني أو الدولي. كما لا يجوز فرض أية عقوبة تكون أشد من تلك التي كانت سارية المفعول في الوقت الذي ارتكبت فيه الجريمة. و إذا حدث، بعد ارتكاب الجريمة، أن صدر قانون ينص على عقوبة أخف، وجب أن يستفيد مرتكب الجريمة من هذا التخفيف”.
كما تم التنصيص على نفس المبدأ في المادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان المنعقدة في 04/ 01/ 1950، و التي جاء فيها: ” مبدأ عدم رجعية القوانين الجزائية: هذا المبدأ قائم ومعروف في مختلف التشريعات الوطنية و لا تنفرد به الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان. و أكدت اجتهادات هيئات هذه الاتفاقية الأوربية على هذا المبدأ موضحة بأن أي تعديلات يمكن أن يقوم بها القاضي الوطني تبعا لشروح أو تفسيرات جديدة لقوانينه الوطنية يجب أن تبقى في مصلحة المتهم”([2]).
و في المادة 9 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لعام 1969، و في المادة 7 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب لعام 1981. و لا يوجد، للأسف، أية إشارة إلى هذه القاعدة القانونية الهامة في الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 1994([3]).
إلا أن الشريعة الإسلامية السمحاء قد سبقت هاته الإعلانات و القوانين الوضعية في تأصيلها لقاعدة عدم رجعية القوانين و ذلك منذ أربعة عشر قرنا و هي قاعدة استنتجها الفقهاء من قوله تعالى : ” وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”، الإسراء الآية 15. وهكذا فإن الأصل في الأفعال الإباحة و استحقاق العقاب – تبعا لديننا الحنيف – متوقف على سبق الإنذار به، فمن ارتكب فعلا لا يعاقب عليه إلا إذا سبق ارتكابه نص تشريعي يجرم ذلك الفعل و يحدد عقوبة له، و بالتالي فالفعل لا يعتبر جرما قبل صدور النص، و لا يمكن مؤاخذة أحد على
[1] – د . محمد ضريف، حقوق الإنسان بالمغرب مطبعة المعارف الجديدة طبعة 1994. ص 297.
[2] – د . محمد أمين الميداني، النظام الأوربي لحماية حقوق الإنسان الطبعة الأولى 2004، ص 66 – 67.
[3]- نفس المرجع السابق (النظام الأوربي لحماية حقوق الإنسان)، ص 100.
فعل سبق وجود النص، أي عدم سريان هذا النص على الماضي و هو ما يستفاد من القاعدتين الأصوليتين “لا تكليف قبل ورود الشرع”، و قاعدة “أن الأصل في الأشياء الإباحة”، فنصوص القانون تطبق بأثر مباشر على الوقائع التي تحدث بعد صدور هذه النصوص دون الوقائع التي حدثت قبلها([1]). و بما أن الإسلام هو دين المغرب فقد طبق هذا الأخير هذه القاعدة قبل أن يضمنها في دستوره و قانونه الجنائي.
المطلب الثاني : قاعدة عدم رجعية القوانين في التشريع المغربي.
لن نقول أن هذه القاعدة لم يعرفها المغرب إلا بدخول الاستعمار و تطبيق التشريعات العصرية، بل على العكس من ذلك فإن تطبيق هذه القاعدة في المغرب قديم قدم تطبيق الشريعة الإسلامية فيه، و ذلك كما لا يخفى على أحد أن المغرب قبل دخول الاستعمار كانت تطبق فيه أحكام الشريعة السمحاء، هذه الأخيرة التي كانت تأخذ بمبدأ الشرعية و مبدأ عدم الرجعية كما ذكرنا أعلاه.
و لقد ظلت هذه القاعدة تطبق إلى حين صدور القانون الجنائي المغربي، و صدور أول دستور للمملكة سنة 1962. و تكريس هذا المبدأ بموجب الدستور بوصفه أسمى قانون للمملكة يؤكد مدى أهمية هذا المبدأ في المغرب، حيث عمل المشرع المغربي على النص في الفصل 4 من دستور 1996 على أنه : “…ليس للقانون أثر رجعي”. كما نص عليها المشرع الجنائي في الفصل 4 من القانون الجنائي : “لا يؤاخذ أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه”، و بالتالي يجب العمل في نطاق التشريع الجنائي بالقاعدة العامة و هي أن القانون الواجب التطبيق هو القانون الذي ارتكب في ظله الفعل المجرم و ليس الذي تتم محاكمة الجاني فيه، فالعبرة بوقت ارتكاب الفعل الذي يعاقب عليه القانون لا بتحقيق النتيجة لكن هناك استثناءات يطبق فيها القانون على الماضي.
المبحث الثاني : استثناءات القاعدة و مبرراتها.
إن قاعدة عدم رجعية القوانين لا تطبق بشكل مطلق بل تدخل عليها عدة استثناءات (المطلب الأول) هذه الاستثناءات لها مبرراتها (المطلب الثاني).
المطلب الأول : استثناءات قاعدة عدم رجعية القوانين.
يجب التمييز هنا بين قوانين الموضوع (أولا) و قوانين الشكل (ثانيا).
أولا : القوانين الموضوعية.
الأصل فيها أنها تنصرف إلى المستقبل لأنها تقضي بأنه : “لا يمكن أن يؤاخذ أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي ارتكب في ظله، ولا أن يعاقب بعقوبة أشد من تلك
4- د . عبد الخالق أحمدون، النظام القانوني خصائصه و مبادئه مقارنة بالقانون الوضعي الطبعة الأولى 2003، ص 128.
التي يقررها القانون وقت ارتكاب الجريمة”. إلا أن هناك استثناءات تطبق فيها القوانين على الماضي أي بأثر رجعي و هي:
1 – في حالة القوانين الجنائية الأصلح للمتهم، وهي تلك التي تخفف من العقوبات أو تقرر أعذارا مخففة، أو وقفا للتنفيذ أو كل ما من شأنه أن يلطف من حدة العقوبة([1])، و هي تفيد على أن هذه القوانين تطبق بأثر رجعي حتى على الأفعال التي ارتكبت في ظل القانون القديم، فالرجعية مباحة فيها و هو ما يستفاد من الفصل 6 من القانون الجنائي الذي ينص على أنه : “في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول بين تاريخ ارتكاب الجريمة و الحكم النهائي بشأنها يتعين تطبيق القانون الأصلح للمتهم”. لكن هناك شروط، فإذا كان القانون الجديد يخفف العقاب فإنه، لا يطبق بأثر رجعي إلا إذا كان سريانه نافذا قبل صدور الحكم بشكل نهائي أي تم الاستئناف و الطعن. أما إذا كان القانون الجديد يبيح الفعل الإجرامي، فإنه يطبق بأثر رجعي حتى على الأفعال التي ارتكبت في ظل القانون القديم، وصدرت بحقها أحكاما نهائية.
و القاضي هو الذي يحدد ما إذا كان القانون الجديد أصلح للمتهم أم لا و ذلك باعتماد المقارنة، فوجود قانونين أحدهما يعاقب بالغرامة و الحبس و الآخر يعاقب بالغرامة فقط فالأصلح هو الأخير. لكن ما حكم القوانين المؤقتة بالنسبة للقوانين الأصلح للمتهم؟. فالجرائم المرتكبة في ظل القوانين المؤقتة و التي لم تتم المحاكمة بشأنها إلا بعد بداية العمل بالقوانين العادية، فالمُرجَّح هو أنها تخضع لأحكام القوانين المؤقتة، حتى لو انتهى العمل بها، وهو ما ذهب إليه صراحة المشرع المغربي حينما نص في الفصل 7 على أنه : “لا تشمل مقتضيات الفصلين 5 و 6 القوانين المؤقتة التي تظل و لو بعد انتهاء العمل بها سارية على الجرائم المرتكبة خلال مدة تطبيقها”، و بالتالي لا تطبق هنا القوانين العادية بأثر رجعي حتى و لو كانت في صالح المتهم.
2– في حالة تضمن القوانين الجديدة لتدابير وقائية جديدة، فإنها تطبق بأثر فوري ومباشر، استنادا إلى الفقرة الثانية من الفصل 8 من القانون الجنائي أي أنه لا يجوز الحكم إلا بالتدابير المنصوص عليها في القانون النافذ وقت صدور الحكم لا في القانون النافذ وقت ارتكاب الفعل الإجرامي.
3 – في حالة صدور قانون جنائي مفسِّر مصوغاً بشكل فني يضمن رجعية القانون المفسَّر، والعبرة هنا بمضمون القانون المفسِّر. فإذا عمد إلى خلق جرائم وعقوبات فإنه لا يطبق بأثر رجعي. أما إذا لم يتضمن ذلك فإنه يطبق بأثر رجعي.
4 – في حالة القوانين الجنائية التي ينص فيها المشرع صراحة على أنها تطبق بأثر رجعي. و مثال ذلك، ظهير 29 أكتوبر 1959 المتعلق بالزجر على الجرائم الماسة بصحة المواطنين و الذي ذهب فصله الثاني إلى القول بأنه: “يعاقب على الجرائم المبينة في الفصل الأول، ولو سبق اقترافها تاريخ ظهور ظهيرنا هذا”. و نشير إلى أن العقوبة الوحيدة التي يقررها الفصل الأول من هذا الظهير هي عقوبة الإعدام، و قد أشار المشرع إلى تطبيق هذا الظهير بأثر رجعي ليشمل مرتكبي جريمة خلط زيت الطائرة مع الزيت العادي و التي أدت إلى موت وشلل العديد من المواطنين، و التي ارتكبت سنة 1958 (أي قبل صدور الظهير).
[1] – عبود رشيد عبود، مبادئ القانون الجنائي مع النص الكامل، نشر و توزيع مكتبة السلام – البيضاء – مكتبة المعارف – الرباط – الطبعة الأولى 1963، ص 58.
ثانيا: القوانين الشكلية.
و في المغرب تسمى بالمسطرة الجنائية و هي تختص بتحديد الإجراءات التي يجب إتباعها في الكشف عن حقيقة الجريمة و معرفة المجرم وتحديد المسؤولية، و تنظم المحاكم وتبين اختصاصاتها و كذا طرق الطعن و التقادم، فتمثل أهم استثناء على قاعدة عدم الرجعية، لأن الفورية فيها هي الأصل، هذه القوانين يجري العمل بها بمجرد استيفائها للإجراءات المسطرية على جميع الدعاوي الجنائية السابقة و اللاحقة لصدورها و هي تطبق بأثر فوري لا بأثر رجعي ذلك أن هذه القوانين لا تطبق إلا على الإجراءات التي تتخذ بعد نفاذها، وتجدر الإشارة إلى أن الأثر الفوري للقوانين الشكلية أو الإجرائية ليس مطلقا و إنما ترد عليه بعض الاستثناءات:
1- إن الإجراءات التي تكون قد تمت وفق أحكام القانون السابق تكون صحيحة و يبقى معمولا بها، و هذا ما يعرف باحترام أعمال المحاكم السابقة.
2- أن من اكتسب حقا بمقتضى القوانين يحتفظ له بحقه و لا يمكن للقانون الجديد أن يخل به، إذن فهي بهذا تكون دائما في صالح المتهم([1]). فلا يمكنه الاحتجاج على تطبيقها لأنها لا تخلق أحكاما جديدة.
المطلب الثاني : قراءة في مبررات استثناءات قاعدة عدم الرجعية.
إن الاستثناءات التي تحدثنا عنها في المطلب السابق تمثل في غالبيتها تكريسا لمبدأ حماية حقوق الإنسان التي جاءت من أجله، فإذا كانت هذه القاعدة تجد مبرراتها في حماية حقوق المتهم فإنه لا بأس من استبعادها متى كان تطبيقها لا يضمن حقوقه، و استبعادها يخدم مصالحه بشكل أفضل. و من ثم فإن تطبيق القانون الأصلح للمتهم و العقوبة الأخف و إن جاء بها قانون صدر لاحقا للفعل المرتكب فإن تطبيق القانون الجديد عليه يضمن حقوقه بشكل أفضل، و بالتالي فقاعدة عدم الرجعية هنا و التي أنشأت أصلا لحمايته و صيانة حقوقه لم تعد تخدمها و من ثم لا بأس من استبعادها بزوال علة و جودها.
أما فيما يتعلق بالتدابير الوقائية الجديدة فإن المشرع حينما سنها هدف من ورائها إلى إحداث آليات جديدة و عصرية بقصد تقويم الجاني و إعادة إدماجه في المجتمع و من ثم فهي تشكل دائما تدابير أصلح للمتهم و أصلح للجماعة. و هي لا تمس بمفهوم الجريمة و لا بحدودها و بالتالي فإحداث هذه التدابير و تطبيقها لا يمس قاعدة الشرعية و لا يعد خرقا لمبدأ عدم الرجعية.
أما القوانين المفسِّرة فالأصل فيها أنها لا تنشئ جريمة و لا عقوبة بل هي تفسر ما جاء في قاعدة قانونية سابقة، و بالتالي فإن تطبيقها يبدأ مع تطبيق القاعدة المفسَّرة و التي تجرم و تعاقب و من ثم فإن هذه القاعدة (القاعدة المفسِّرة) لا تطبق بأثر رجعي إذا خلقت جرائم جديدة أو عقوبات جديدة إلا إذا كانت أصلح للمتهم.
[1] – د عبد السلام بنحدو، الوجيز في القانون الجنائي المغربي الطبعة الخامسة 2004، ص 126 – 127.
إلا أن الإشكال يثور بخصوص القواعد القانونية التي تعمد إلا تفسير نصوص سابقة يوسع في مفهومها و حدودها بما يجعل منها قاعدة جديدة للتجريم و العقاب. كما قد ينشأ الإشكال بخصوص القوانين الاستدراكية و هي القوانين التي جاءت لتستدرك خطأ وقع في النص الجنائي القديم كما هو الحال بصدور تعديلات على القانون الجنائي المغربي بموجب قانون رقم 03/ 24 و المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5175 الصادرة بتاريخ 05 يناير 2004 حيث شاب الفصل 467 مكرر خطأ تم تداركه بالجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 19 فبراير 2004 و تماشيا مع مبدأ عدم الرجعية يجب عدم الأخذ بالتفسيرات الجديدة التي توسع في مجال الجريمة باعتبار أنها تشكل قاعدة جديدة للتجريم.
أما فيما يخص القواعد الشكلية الجديدة فهي تطبق بأثر فوري بداعي أنها الأقدر على تحقيق العدالة من القوانين القديمة، كما أنها لا تخلق جرائم جديدة ولا تشدد عقوبات وإنما تضمن حسن تطبيق القواعد الموضوعية.
ولا يبقى إلا استثناء واحد وهو أن ينص القانون الجديد صراحة على تطبيقه بأثر رجعي، إلا أن هذا الاستثناء الذي عرفه المغرب في مجموعة من القوانين([1])، قد تم العمل به أيضا في أوربا وذلك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حيث سعت الدول المنتصرة إلى سن قوانين تطبق بأثر رجعي لمحاكمة مجرمي هذه الحرب[2].
و إذا كان المغرب قد عمل بهذا الاستثناء سابقا، فإنه في الوقت الراهن لم يعد من الممكن العمل به، أي لم يعد من الممكن إصدار قوانين تطبق بأثر رجعي، وذلك لوجود نص دستوري صريح يمنع رجعية القوانين وأمام وجود آليات جديدة لمراقبة دستورية القوانين (المجلس الدستوري) فضلا على أن إعمال هذا المبدأ يمثل ضربا لمبادئ حقوق الإنسان التي أكدت المملكة التزامها بها بموجب ديباجة دستورها.
خـاتـمــة:
ونخلص مما سبق وأسهبنا فيه، إلى أن قاعدة عدم الرجعية المتمخضة عن مبدأ شرعية التجريم والعقاب تمثل أحد ركائز القانون الجنائي، والضامن الأساسي لحقوق الأفراد والمواطنين من أي تعسف من جانب السلطات، والمغرب من الدول التي احترمت هذه القاعدة، بحيث أقرها في دستوره وفي قانونه الجنائي، على الرغم من استثنائها في بعض الحالات كما بيناه أعلاه. وهي حالات تجد في أغلبها مبررات كما سبق ورأينا.
[1] – منها قانون العدل العسكري بتاريخ 10 نوفمبر 1956 حيث نص الفصل 215 منه على انه: “يجري العمل به ابتداءً من 12 ماي 1956. و ظهير 27 مارس 1958 الخاص بإحداث لجنة للبحث و الذي نص فصله الثاني على أنه سيسري على كل المغربة الذين قاموا بدور حاسم في إعداد أو تنفيذ أو توطيد مؤامرة 20 غشت 1953 أو ارتكبوا أعمال عنف ضد الشعب أو المقاومين و ذلك من تاريخ 24 ديسمبر 1950 إلى غاية 16 نوفمبر 1955. و ظهير 29 أكتوبر 1959 المتعلق بالزجر على الجرائم الماسة بصحة المواطنين و الذي يطبق بأثر رجعي”.
[2] – د . محمد أمين الميداني، النظام الأوربي لحماية حقوق الإنسان الطبعة الأولى 2004، ص 68.
اترك تعليقاً