الأخطاء الطبية من منظور قانوني
عمر عامري الحدادي
تنشر الصحف اليومية أخبارا عن اخطاء طبية بعضها أخطاء بسيطة وبعضها قد يودي بحياة من كان يقصد المشفى للعلاج وإنهاء آلامه، فنسمع عن نسيان مقص أو شاش في بطن مريض، أو تخدير خاطئ أودى بحياة مريض آخر أو غيرها من الاخطاء الطبية التي لا يتسع المقال لحصرها، وهذه الاخطاء قد تكون طبيعية وموجودة، كون الطبيب المعالج أو الممارس الصحي بشرا يصيب ويخطئ، وقد يكون بعضها تقصيرا في اداء الكادر الصحي أو الطبيب المعالج أو إهمالا منهم، وتشير احصاءات وزارة الصحة إلى وقوع أكثر من الفين وخمسمائة خطأ طبي سنويا في المملكة العربية السعوية، فهل كل هؤلاء على علم بحقوقهم القانونية في مطالبة الطبيب المعالج أو المنشأة الطبية بآثار هذه الاخطاء الطبية التي قد تكون مميته احيانا.
فقد حرصت الدولة – وفقها الله- على سن الانظمة التي تكفل الحقوق للمواطن في المطالبة بكافة حقوقه، فأصدرت نظاما يوضح واجبات الممارس الصحي وحدود مسؤولياته وواجباته وهو نظام مزاولة المهن الصحية الصادر بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم (م/59) بتاريخ 11 ذو القعدة 1426هـ كما صدرت اللائحة التنفيذية للنظام بقرار معالي وزير الصحة رقم (396444/1/12) وتاريخ 14/ 05 /1427هـ وقد جاء النظام مبينا وموضحا لواجبات الممارس الصحي بما يخدم صالح الفرد والمجتمع، وبما يكفل احترام حق رعاية المريض وسلامته، وسوف القي الضوء في هذا المقال على اهم ما جاء في هذا النظام ولائحته التنفيذية، لعله يسهم في تطبيب واطفاء جراح من اكتووا بنار الاخطاء الطبية وينير لهم الطريق لانتزاع حقوقهم ممن سلبوها منهم بمشرط الطب، حيث جاء النظام واضحا في النص على واجبات الممارس الصحي ومبينا مسؤولياته وواجباته حيث بينت المادة الاولى المقصود بالممارس الصحي حيث إن اغلب العامة ينصرف به الرأي إلى أن الممارس الصحي هو الطبيب المعالج فقط وهذا اعتقاد خاطئ بينته هذه المادة من النظام حيث ذكرت ان الممارس الصحي هو كل من يرخص له بمزاولة المهن الصحية.
وتشمل الفئات الآتية: الاطباء البشريين، وأطباء الأسنان، والصيادلة الأخصائيين، والفنيين الصحيين في الأشعة، التخدير، التمريض، المختبر، الصيادلة، والبصريات، والوبائيات، والأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي ورعاية الأسنان وتركيبها والتصوير الطبقي، والعلاج النووي، وأجهزة الليزر والعمليات والاخصائيين النفسيين والاجتماعيين وأخصائيي التغذية والصحة العامة، والقبالة والاسعاف، ومعالجة النطق والسمع، والتأهيل الحرفي والعلاج الحرفي والفيزياء الطبية، وغير ذلك من المهن الصحية الاخرى التي تم الاتفاق عليها بين وزيري الصحة والخدمات المدنية والهيئة السعودية للتخصصات الصحية، كما حظرت المادة الثانية من النظام على الممارس، ممارسة عمله الا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الصحة بذلك، وقد سردت الاشتراطات للحصول على الترخيص، والتي من أهمها الحصول على المؤهل المطلوب للمهنة، كما بينت الفقرة الثانية من اللائحة التنفيذية انه لا يجوز ممارسة العلاج الشعبي الا بموجب ترخيص من الجهة المختصة بناء على شروط وضوابط معتمدة، ويخضع إلى المسؤوليات المهنية الواردة بنظام مزاولة المهن الصحية.
وقد بين النظام في مادته الخامسة (يزاول الممارس الصحي مهنته لمصلحة الفرد والمجتمع في نطاق احترام حق الانسان في الحياة وسلامته وكرامته مراعيا في عمله العادات والتقاليد السائدة في المملكة مبتعدا عن الاستغلال) حيث ان ما ورد بهذه المادة هو حق أصيل للمريض وقد احسن المنظم في النص عليه صراحة كما ان دليل اخلاقيات مزاولة المهنة الصحية يسري على ممارسي المهن الصحية، كما يلتزم الممارس الصحي بمعاونة السلطات المختصة في أداء واجبها نحو حماية الصحة العامة ودرء الاخطار، وعلى الممارس الصحي تقديم الرعاية الطبية العاجلة للمريض الذي يحتاج إلى هذه الرعاية الفورية دون طلب أتعابه مقدما، واذا كانت حالة المريض تستدعي مزيدا من العناية الطبية التي لا يستطيع الممارس الصحي تقديمها عليه أن يتأكد من توافر وسيلة نقل تنقله إلى أقرب مركز ملائم لعلاجه، وهذا بخلاف ما تطلبه بعض المستشفيات الخاصة من ضرورة الدفع قبل اعطاء المريض العلاج، نصت المادة السادسة من النظام على أن يستهدف العمل الطبي دائما مصلحة المريض وعلى الممارس الصحي أن يبذل جهده لكل مريض.
كما نصت المادة الخامسة عشرة على أنه يجب على الممارس الصحي أن يجري التشخيص بالعناية اللازمة مستعينا بالوسائل الفنية الملائمة وبمن تستدعي ظروف الحالة الاستعانة بهم من الاخصائيين أو المساعدين وأن يقدم للمريض ما يطلبه عن حالته الصحية ونتائج الفحوصات مراعيا في ذلك الدقة والموضوعية، كذلك يتم الالتزام بهذه التعليمات في اصدار التقارير الطبية، كما نصت المادة التاسعة عشرة على أنه يجب الا يجري أي عمل طبي لمريض إلا برضاه أو موافقة من يمثله أو ولي أمره، ويستثنى من ذلك حالات الحوادث أو الطوارئ التي تستدعي تدخلا لإنقاذ حياة المصاب أو عضو من أعضائه، وكل ذلك تمشيا مع مضمون خطاب المقام السامي رقم 4/2428/م وتاريخ 29 /07 /1404هـ المبني على قرار هيئة كبار العلماء رقم 119 وتاريخ 26/ 05 /1404هـ كما يجب على الممارس الصحي أن يحافظ على الأسرار التي علم بها عن طريق مهنته ولا يجوز له إفشاؤها إلا في حالة الابلاغ عن حالة وفاة ناجمة عن حادث جنائي، الابلاغ عن مرض سار أو معد، دفع الممارس لاتهام وجهه إليه المريض أو ذووه يتعلق بكفاءته أو بكيفية ممارسته المهنية، أو اذا وافق صاحب السر كتابة على إفشائه أو كان الإفشاء لذوي المريض مفيدا لعلاجه، كما يحظر على الطبيب إجهاض أي امرأة حامل إلا إذا اقتضت ذلك ضرورة إنقاذ حياتها، ويجوز ذلك اذا لم يتم الحمل اربعة أشهر، وثبت بصورة أكيدة أن استمراره يهدد صحة الام بضرر جسيم، وثبت بقرار من لجنة طبية، كما تضمن ذلك قرار هيئة كبار العلماء رقم 140 وتاريخ 20/ 06 /1407هـ .
كما نصت المادة السادسة والعشرون من النظام على ان التزام الممارس الصحي الخاضع لهذا النظام هو التزام عناية يقظة تتفق مع الأصول العلمية المتعارف عليها، بمعنى ان الممارس الصحي يلتزم بعلاج المريض، وعليه أن يتوخى أصول صناعة الطب المعروفة في العلاج، وعليه أن يبذل العناية المألوفة في تطبيب المريض، كما نصت المادة السابعة والعشرون على أن كل خطأ مهني صحي صدر من الممارس الصحي وترتب عليه ضرر للمريض يلتزم من ارتكبه بالتعويض، وتحدد (الهيئة الصحية الشرعية) هذا التعويض ويعد من قبيل الخطأ المهني الصحي ما يلي: (الخطأ في العلاج أو نقص المتابعة، الجهل بأمور فنية يفترض فيمن كان في مثل تخصصه الإلمام بها، اجراء العمليات الجراحية التجريبية على الانسان، اجراء التجارب أو البحوث العلمية غير المعتمدة على المريض، إعطاء دواء للمريض على سبيل الاختبار، استخدام آلات وأجهزة طبية دون علم كاف بطريقة استعمالها أو دون اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع حدوث ضرر من جراء هذا الاستعمال، التقصير في الرقابة والاشراف، عدم استشارة من تستدعي حالة المريض الاستعانة به، يقع باطلا كل شرط يتضمن تحديد أو اعفاء الممارس الصحي من المسؤولية)، كما أن الممارس الصحي يكون محلا للمساءلة التأديبية إذا اخل بأحد واجباته المنصوص عليها في نظام مزاولة المهن الصحية، ونكون بذلك قد ألمحنا الى اهم المواد في نظام مزاولة المهن الصحية وسوف نعرج بالحديث في المقال القادم بإذن الله استكمالا لباقي مواد النظام وتبيينا لتكوين الهيئة الصحية الشرعية التي تنظر في شكاوى الاخطاء الطبية وتكوينها واختصاصها وانعقاد جلساتها وحجية احكامها.
الخطأ الطبي واللجان الطبية الشرعية واختصاصها
حيث يعرف الخطا الطبي بـأنه (عدم قيام الطبيب أو الممارس الصحي بالالتزامات الخاصة التي تفرضها عليه مهنته) وتعرفه المادة (27) من نظام مزاولة المهن الصحية الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/59) بأنه (كل خطأ مهني صحي صدر من الممارس الصحي وترتب عليه ضرر للمريض) إذا فالخطأ الطبي هو الخطأ المهني الصادر من الممارس الصحي والذي يلتزم التعويض للمريض -لا بد أن تتوفر فيه ثلاثة شروط كي يستحق المريض او ورثته من بعده التعويض، وهي الخطأ المهني الصحي وان يكون من ممارس صحي وان يكون ترتب عليها ضرر- كما أن العلاقة بين المريض والممارس الصحي هي ليست علاقة عقدية أو قانونية فقط بل هي علاقة انسانية قبل ذلك تحتم على الممارس الصحي الالتزام ببذل العناية الطبية اللائقة للمريض والاهتمام به بتقديم العلاج المناسب له، ومساءلته عن الاخطاء التي تصدر عنه أثناء مزاولته لمهنته.
كما أنه مسؤول مسؤولية كاملة عن سلامة المريض، والمسؤولية المدنية للممارس الصحي تعني التعويض عن الاضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالمريض أو ورثته نتيجة الخطأ الطبي شاملة الدية الشرعية، وتحكم هذه المسؤولية أحكام الشريعة الإسلامية والنظام، ومن المعلوم والمستقر عليه فقها وقضاء أن التزام الممارس الصحي هو التزام ببذل عناية وليس التزام بتحقيق غاية، فالتزام الممارس الصحي هو التزام ببذل العناية اللازمة والضرورية للمريض، وليس التزام بشفاء المريض لأن الشفاء من عند الله -عز وجل-، ويكون التزامه ضمن التشريعات واللوائح والتعليمات الطبية التزاما ببذل عناية وجهود صادقة ويقظة متفقة مع الاصول الطبية العلمية والفنية المقررة.
وقد نصت على ذلك المادة (26) من نظام مزاولة المهن الصحية، والممارس الصحي مسؤول عما يستعمله من وسائل، وهو مسؤول عن نتائج تقصيره في الواجبات الاعتيادية سواء بسبب عدم التروي أو الإهمال أو الخفة أو الجهل بالاشياء التي يجب أن يعرفها، فإذا ارتكب الممارس الصحي اي خطأ طبي ونتج عنه ضرر للمريض فيترتب على ذلك قيام المسؤولية المدنية سواء كانت تقصيرية أو عقدية عليه، وقد تكون الأخطاء الطبية ليست من جنس العمل الطبي (خطأ غير مهني) كممارسة العمل الطبي دون ترخيص أوامتناع الممارس الصحي عن معالجة المريض أو عدم استعانة الطبيب بالمساعدين أو قد تكون الأخطاء الطبية من جنس العمل الطبي (المهنية) كالخطأ في التشخيص والاهمال فيه أو الغلط العلمي الذي يقع فيه لممارس الصحي أو الخطأ في وصف العلاج.
أما الجهة المعنية باستقبال الشكاوى من الممارسين الصحيين واخطائهم فهي الهيئة الصحية الشرعية، وقد بينت المادة (33) من نظام مزاولة المهن الصحية واللائحة التنفيذية لها تكوين هذه الهيئة اذ ذكرت أنها تكون على النحو التالي (قاض لا تقل درجته عن قاضي (أ) يعينه وزير العدل رئيسا للهيئة ومستشار نظامي يعينة وزير الصحة، وعضو هيئة تدريس من إحدى كليات الطب، يعينه وزير التعليم العالي، وفي المنطقة التي ليس فيها كلية طب يعين الوزير بدلاً منه عضواً من المرافق الصحية المتوافرة في تلك المنطقة، وعضو هيئة تدريس في إحدى كليات الصيدلة يعينه وزير التعليم العالي، وفي المنطقة التي ليس فيها كلية صيدلة يعين الوزير بدلاً منه عضواً من المرافق الصحية المتوافرة في تلك المنطقة، طبيبان من ذوي الخبرة والكفاية يختارهما الوزير وصيدلي من ذوي الخبرة والكفاية يختاره الوزير) ويكون لهذه الهيئة أمين سر، يعينه الوزير، ويكون مقر الهيئة وزارة الصحة بالرياض، ويجوز انشاء هيئات اخرى في المناطق، كما بينت المادة (34) من النظام اختصاص الهيئات الشرعية حيث تختص بالآتي (النظر في الأخطاء المهنية الصحية التي ترفع بها المطالبة بالحق الخاص -دية، تعويض، ارش- والنظر في الأخطاء المهنية الصحية التي ينتج عنها وفاة، أو تلف عضو من أعضاء الجسم، أو فقد منفعته أو بعضها حتى ولو لم يكن هناك دعوى بالحق الخاص) كما نصت المادة (53) من نظام مزاولة المهن الصحية على ان تنعقد الهيئة الصحية الشرعية بحضور جميع أعضائها وتصدر قراراتها بالأغلبية على أن يكون من بينهم القاضي.
كما أنه يجوز التظلم من قرارات الهيئة أمام المحكمة الادارية (ديوان المظالم) خلال ستين يوماً من تاريخ الابلاغ بقرار الهيئة، كما نصت الفقرة الأولى من ذات المادة على أن من لحقه ضرر من الخطأ الطبي محل الإدعاء ولوارثه من بعده أن يطلب بحقه الخاص مهما بلغ مقداره أمام الهيئة الصحية الشرعية التي تنظر الدعوى.
كما نصت المادة (35) الفقرة (3) من اللائحة على ان تسمع الهيئة دعوى المدعي العام والمدعي بالحق الخاص، ولكل طرف من الأطراف التعقيب على أقوال الطرف الآخر ثم توجه الهيئة إلى المدعى عليه المخالفات المنسوبة إليه في الجلسة وتسأله الجواب عن ذلك، فإذا أنكر المدعى عليه المخالفات المنسوبة إليه أو امتنع عن الإجابة فعلى الهيئة أن تنظر في الأدلة المقدمة وتجري ما تراه لازما بشأنها ولكل من الخصوم أن يطلب سماع من يرى من الشهود والنظر فيما يقدمه من أدلة ولأي من الخصوم أن يقدم إلى الهيئة ما لديه مما يتعلق بالقضية مكتوباً ليضم إلى ملف القضية، كما نصت الفقرة الرابعة من ذات المادة على أن تصدر الهيئة قراراً بعدم إدانة المدعى عليه أو إدانته، وتوقع العقوبة عليه وفي كلتا الحالتين تفصل الهيئة في الطلب المقدم من المدعي بالحق الخاص، ويجب أن يكون قرار الهيئة مسبباً مدعماً بإسناد جميع وقائع وحيثيات قرارها إلى النصوص النظامية المتعلقة بها.
كما جعلت الفقرة الخامسة من المادة (35) للمدعي بالحق الخاص أن يقدم إلى رئيس الهيئة الصحية الشرعية أثناء نظر الدعوى أو بعد إحالتها إلى الهيئة مباشرة دعوى مستعجلة لمنع خصمه من السفر وعلى رئيس الهيئة أن يصدر أمراً بالمنع إذا رأى مبررا لذلك وبينت الفقرة السادسة بكيفية المثول والحضور امام اللجنة، والغياب عن الجلسات، كذلك بينت الفقرة السابعة اجراءات الفصل في الدعوى في حال غياب المدعى عليه رغم ابلاغه بالموعد، كما اوضحت المادة السابعة والثلاثون من ذات النظام على انه لا تسمع الدعوى بالحق العام بعد مضي سنه من تاريخ العلم بالخطأ المهني الصحي، كما أنه لا يجوز تنفيذ قرارات اللجنة الا بعد فوات ميعاد التظلم المحدد دون اعتراض أو بعد صدور حكم نهائي من الديوان، وبهذا نكون قد تطرقنا لتعريف الخطأ الطبي من الممارس الصحي وتكوين الهيئة الصحية الشرعية واختصاصها وكيفية اصدار قراراتها .
إجراءات رفع الشكاوى من المضرور من الخطأ الطبي، وكيفية التحقيق والتحقق من وقوع الخطأ وإصدار القرار بالشكوى
فعندما يرفع المريض المضرور من الخطأ الطبي أو ذووه أو ورثته الشرعيون في حالة وفاته لا سمح الله أو المحامي الموكل في القضية دعوى ضد الممارس الصحي الذي أخطأ في العلاج أو التشخيص، يتم التحقيق معه ويحاكم أمام الهيئة الصحية الشرعية لارتكابه هذا الخطأ الذي أضر بالمريض، وإذا انعقدت مسؤولية الطبيب عن هذا الضرر يتم تعويض المريض أو ذويه أو ورثته في حالة مطالبتهم بالتعويض الذي تسبب به الطبيب بسبب
اهماله أو تقصيره، ويخطئ كثير من المضرورين أو وكلائهم في صياغة الشكوى ضد الطبيب، فهي غالباً تتضمن الطلب بمحاسبة ومعاقبة الطبيب في حين أن المفترض أن تتضمن التعويض عن الخطأ الذي ارتكبه الطبيب، حيث إن محاسبة ومعاقبة الطبيب تتولى طلبها جهة مختصة في ذلك .
وهذا ما بينته بجلاء المادة (36) من نظام مزاولة المهن الصحية، حيث أوضحت أن الادعاء العام بهيئة التحقيق هو من يمثل الحق المتمثل في محاسبة ومعاقبة الممارس الصحي في هذه المطالبة أمام الهيئة الصحية الشرعية، أما كيفية إجراءات رفع الشكوى فلمن أصابه ضرر من الخطأ المهني الصحي أو لوارثه في حالة وفاته، التقدم بالشكوى ضد الممارس الصحي إلى رئيس المرفق الصحي أو مديره الذي ارتكب الخطأ الطبي فيه وقد توجه إلى مدير الشؤون الصحية بالمنطقة التي وقع بها الخطأ الطبي، وقد توجه إلى أمير المنطقة الذي يحيلها بدوره إلى الجهة المختصة، أو إلى وزير الصحة الذي يحيلها بدوره إلى المرفق الصحي الذي يعمل فيه الممارس الصحي للاستفسار عن حقيقة ما جاء في الشكوى المنظورة أمامه، حيث نصت المادة (40) في فقرتها الثانية من اللائحة التنفيذية لنظام مزاولة المهن الصحية على أنه (يجوز لكل من أصابه ضرر من الخطأ المهني الصحي المنصوص عليه في هذا النظام أو لوارثه في حالة وفاته أن يتقدم إلى المرفق الصحي الذي وقع فيه الخطأ الطبي أو مدير الشؤون الصحية ذات العلاقة أو للوزير بطلب التحقيق وتعد الشكوى المقدمة ممن أصابه الضرر أو نائبه أو وليه أو وارثه بسبب الخطأ المهني الصحي
مطالبة بحقه الخاص ويجوز طلب التحقيق في الخطأ المهني الصحي حتى ولو لم يكن هناك دعوى بالحق الخاص) حيث بينت المادة بجلاء كيفية تحريك الدعوى بالحق الخاص من المضرور بالخطأ الطبي أو ذويه، فبعد رفع الشكوى يتم التحقيق الأولي في الشكوى المقدمة ضد الممارس الصحي من قبل الجهة الإدارية التابع لها المرفق الصحي ويكون التحقيق فور تقديم الشكوى كما يجوز منع سفر المدعى عليه من قبل المحقق، وهذا ما نصت عليه المادة (40) الفقرة الثالثة من لائحة نظام مزاولة المهن الصحية.
كما يتولى إجراء التحقيق المختصون من ذوي الخبرة والكفاءة ويقوم باختيارهم مدير الشؤون الصحية المختص، ويتولى المحقق المكلف بإجراء التحقيق إبلاغ الخصوم وهم المضرور (الشاكي) والممارس الصحي (المشكو ضده) باليوم والساعة التي يباشر فيها التحقيق وإجراءات التحقيق والمكان الذي يجري فيه قبل موعد إجراء التحقيق بوقت كافٍ، كما يجب على المحقق عند حضور المدعى عليه بارتكاب الخطأ الطبي لأول مرة في التحقيق أن يدون جميع البيانات الشخصية الخاصة به ويحيطه علماً بالمخالفات المنسوبة إليه ويثبت ذلك في المحضر وما يبديه المدعى عليه في شأنها من أقوال، وللمحقق أن يواجهه بغيره من ذوي العلاقة أو المدعين أو الشهود ويوقع على أقواله بعد تلاوتها عليه، كما يتم التحقيق في حالة لا تأثير فيها على إرادة المدعى عليه في إبداء أقواله وللخصوم أن يقدموا إلى المحقق أثناء التحقيق الطلبات التي يرون تقديمها، وعلى المحقق أن يستمع إلى أقوال كل من له علاقه مباشرة بالمخالفات الصحية موضوع التحقيق وأن يستمع إلى أقوال الشهود الذين يطلب الخصوم سماع أقوالهم وأن يثبت في محضر التحقيق البيانات الكاملة عن كل شاهد وأن يستمع لكل شاهد على انفراد وله أن يواجه الشهود بعضهم ببعض بالخصوم ويوقع كل منهم على أقواله، كما يجوز للمحقق أن يستعين بمن يراه من المختصين لإبداء الرأي في أي مسألة متعلقة بالتحقيق الذي يجريه، ولأي من الخصوم أن يقدم تقريراً من مختص آخر بصفة استشارية، علماً بأن جميع إجراءات التحقيق والنتائج التي تسفر عنها تعد من الأسرار التي يجب على المحققين وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها، كما يقوم المحقق بعد الانتهاء من التحقيق بإعداد تقرير يتضمن الوقائع التي تم التحقيق فيها والأدلة والقرائن والنتائج التي انتهى إليها التحقيق مع إسناد كل مخالفة إلى المادة النظامية التي تتعلق بها والتوصية بإحالة القضية إلى الهيئة الصحية الشرعية أو لجنة المخالفات الصحية المختصة للأسباب التي يستند إليها أو أن يوصي بأنه لا وجه للسير في الدعوى لعدم ثبوت خطأ طبي يقتضي ذلك.
كما يرفع المحقق تقريره إلى مدير عام الشؤون الصحية المختص لإصدار القرار اللازم بالإحالة إلى الهيئة الصحية الشرعية أو أي من لجان المخالفات الصحية المختصة أو حفظ الأوراق لعدم وجود خطأ طبي أو مخالفة لأحكام الأنظمة الصحية المعنية تقتضي العرض على هذه اللجان، وفي حالة عدم قناعة صاحب الشأن بالقرار فله أن يتظلم إلى وزير الصحة أو إلى ديوان المظالم (المحكمة الإدارية) كما أنه عند إحالة الدعوى إلى الهيئة الصحية الشرعية أو أي من لجان المخالفات المختصة يسلم المحقق كافة أوراق التحقيق وكامل مشفوعاته من وثائق ومستندات وملفات طبية إلى أمانة الهيئة أو اللجنة المحال إليها وعلى الأمانة التأكد من توفر متطلبات نظر الدعوى وعناوين جميع أطرافها وإثباتها في سجل خاص بذلك وتحديد جلسة لنظرها وإبلاغ الخصوم وجميع ذوي العلاقة بالحضور أمام الهيئة أو اللجنة المختصة قبل انعقاد الجلسة بوقت كافٍ، كما تعد أمانة الهيئة الصحية الشرعية واللجان المختصة ملفاً مستقلاً لكل قضية، وتسمع وتدون أقوال ذوي العلاقة باللغة العربية، فإذا كان أحدهم لا يتكلم العربية فعليه اصطحاب مترجم يثق به أو أن يوافق على قيام أحد الأعضاء بالترجمة، وقد بينا في المقالات السابقة تكوين الهيئة الصحية الشرعية واختصاصاتها، فعند ورود ملف القضية للهيئة الصحية الشرعية يقوم أمين سر الهيئة بكافة الأعمال الإدارية والإجرائية المنصوص عليها في النظام والمتعلقة بالدعاوي التي تنظرها الهيئة وتدقيق المعاملات الواردة إليها وإبلاغ أطراف الدعوى.
ويعد محضر الجلسة تحت اشراف رئيس الهيئة ويثبت بالمحضر اسم الرئيس والأعضاء والمدعي والمدعى عليه والمدعي العام ووقت انعقاد الجلسة واقوال الخصوم، وتسمع الهيئة دعوى المدعي بالحق الخاص وتجعل لكل طرف حق التعقيب على اقوال الطرف الآخر ثم توجه للمدعى عليه المخالفات المنسوبة إليه في الجلسة وتسأله الجواب عن ذلك، فإذا أنكر المدعى عليه المخالفات أو امتنع عن الإجابة فعلى الهيئة أن تنظر في الأدلة المقدمة وتجري ما تراه لازماً بشأنها ولكل من الخصوم أن يطلب سماع من يرى من الشهود والنظر فيما يقدمه من أدلة ولأي من الخصوم أن يقدم للهيئة ما لديه مما يتعلق بالقضية مكتوباً ليضم إلى ملف القضية,
وبعد ذلك تصدر الهيئة قراراً بعدم إدانة المدعى عليه أو إدانته وتوقع العقوبة عليه بالحق العام وتفصل في الطلب المقدم من المدعي بالحق الخاص، ويجب أن يكون قرار الهيئة مسبباً مدعماً بإسناد جميع وقائع أو حيثيات قرارها إلى النصوص النظامية المتعلقة بها، ويكون للمدعي الحق بالتظلم من قرار الهيئة أمام ديوان المظالم خلال ستين يوماً من تاريخ إبلاغه بقرار الهيئة.
تجب سرعة البدء في إنشاء محاكم متخصصة في القضايا الطبية والاستعانة في هذه المحاكم بخريجي قانون وشريعة متخصصين في المجال الطبي.
التعويض في حالة وقوع خطأ طبي، وضرب بعض الأمثلة لأحكام صدرت من الهيئة الصحية الشرعية
فالتعويض جمع تعويضات والمصدر (ع و ض) ويقال في اللغة أعطاه عوضًا عنها، أي أعطاه بدلا عنها وخلفا منها، ومما ذكره فقهاء الشريعة القدامى عن مفهوم التعويض أنه (رد بدل التالف) وقد عرفه الفقهاء المعاصرون بأنه (ما يجبر به المتسبب في الضرر من عين أو قيمة) وقد تطرق المنظم السعودي في المادة (28) من اللائحة التنفيذية لنظام مزاولة المهن الصحية لكلمة تعويض دون تعريف لمعنى التعويض حيث ذكرت هذه المادة الخطأ الطبي بأنه (كل خطأ مهني صدر من الطبيب أو من أحد مساعديه، وترتب عليه ضرر للمريض يلتزم من ارتكبه بالتعويض وتحدد اللجنة الطبية الشرعية المنصوص عليها في هذا النظام مقدار التعويض) وقد اتفق الفقهاء على أن الممارس الحاذق لا يسأل عن الضرر الذي يصيب المريض ولو مات المريض بسبب العلاج، مادام المريض قد أذن له بعلاجه، ولم يقع من الطبيب خطأ في هذا العلاج، بل كان الضرر نتيجة لأمر خارج عن إرادة الممارس الصحي وغير متوقع، وكما أوضحنا في مقالاتنا السابقة أن الممارس الصحي لا يقتصر على الطبيب بل هو كما بيناه في المقال الأول تعريفا، أما أنواع الضرر الواقعة على المريض والتي يسأل عنها الممارس الصحي فهي نوعان، وهي لا تختلف عن أنواع التعويض في الفقه الجزائي، وهما ضرر مادي وضرر معنوي فالضرر المادي ينقسم إلى نوعين ضرر مادي على بدن المريض، وضرر مادي على مال المريض، فالضرر المادي على بدن المريض هو كل ما يصيب المريض في بدنه أو جسمه والمثال على ذلك، قيام الطبيب بإعطاء المريض دواء معينًا ترتب على تناوله إلحاق ضرر به، أو مثل قيام الطبيب باستئصال عضو سليم بدلا من العضو التالف، أما الضرر المالي فهو تسبب الممارس الصحي في إلحاق ضرر مادي أدى إلى إتلاف أموال المريض والمثال على ذلك عندما يقوم طبيب الأسنان بحشو أسنان أحد المرضى بحشوة مؤقتة، بدلا من الحشوة الدائمة التي تم الاتفاق عليها، فإن من حق المريض استعادة ما دفعه من أموال نتيجة عدم التزام الطبيب بعمل المتفق عليه، أما النوع الثاني من الضرر الذي يصيب المريض فهو الضرر الأدبي وهو كل ما يصيب المريض في شعوره أو شرفه أو كرامته، كالأضرار المترتبة على إفشاء الممارس الصحي لأسرار مرضاه، والنظام السعودي لا يأخذ إلا بالضرر المادي فقط دون الضرر المعنوي، مع أن هناك حكما للمحكمة الإدارية أوجب تعويضا لمدعي عن الضرر غير المادي (المعنوي) الذي لحق به نتيجة سجنه دون مبرر نظامي أو شرعي لذلك، وهناك مثال أيضا وهو الدية التي تدفع لورثة المتوفى ليست في كل الأحوال عقوبة أو تعويض عن الضرر المادي الذي أصاب الورثة نتيجة فقدهم لمورثهم بل قد يكون لها طابع معنوي، لأن المورث في بعض الحالات لا يكون مصدرا للدخل بل على العكس.
وسوف نورد مثالا كتطبيق قضائي لما سبق ذكره من مفهوم ومبادئ وضوابط للخطأ الطبي والتعويض عنه وآلية وإجراءات عمل الهيئة الصحية الشرعية وذلك في المثال الآتي: تقدم احد المدعين بدعوى ضد احد المستشفيات الخاصة وطلبت منه الهيئة تحديد وحصر دعواه وأسماء الممارسين الصحيين المدعى ضدهم، وطلباته بالتحديد، فذكر في دعواه أنني دخلت إلى احد المستشفيات (الخاصة) بغرض إجراء عملية فتح بالجانب الأيمن بالمنظار، فأخبرني الطبيب بأن العملية لن تستغرق أكثر من نصف ساعة، ولكن تفاجأت بعد إفاقتي من التخدير بوجود جراحة في المثانة علاوة على عملية المنظار إضافة إلى قسطرة لإخراج البول وقد بقيت في المستشفى خمسة أيام، وحملت القسطرة معي إلى البيت طيلة أسبوع كامل وبسؤال الطبيب عن سبب ذلك، أفادني أنه اكتشف ورمًا سرطانيًا في المثانة أثناء عملية الفك مما دعاه إلى فتح المثانة وإزالته، حينها طلبت من الطبيب رؤية العينة السرطانية المزعومة، فأخبرني بأنه أرسلها إلى مختبر خارج المستشفى وأنه سوف يوافيني بالتقرير عنها مستقبلا، وقد زرته في العيادة بعد العملية عدة مرات نتيجة لآلام في عملية الفتق، وفي كل مرة أطلب منه التقرير والقرص الممغنط للعملية وكان يخبرني أنه سوف يعطيني ذلك مع تقرير العينة، ورأيت أن المدة قد طالت فذهبت إلى مستشفى آخر لمعرفة سبب الألم في العملية، فأخبرني الطبيب الآخر بأن عملية المنظار لإصلاح الفتق لا يمكن أن يكتشف فيه ورم في المثانة، وحولني على طبيب المسالك بالمستشفى الذي أكد لي ذلك وأجمع الطبيبان على ضرورة إحضار تقرير عن العملية والقرص الممغنط لمعرفة أسباب الجرح بالمثانة، ورجعت إلى الطبيب الأول الذي تهرب مني ولم يعطني أي شيء ولم أحصل على تقرير عن العملية ولا القرص، وأطلب تعويضي ماديا لما عانيته جسديا بوجود جراحة في المثانة غير ضرورية، ومعاناتي معنويا أنا وجميع أفراد أسرتي لإخباري بوجود سرطان في جسمي.
وعند عرض الدعوى على المدعى عليه أجاب أنه اجرى العملية، للمدعي حسب ما هو متعارف عليه طبيا ولكنه عند فتح المثانة وجد أن هناك عقدة في الجزء العلوي للمثانة فقام بأخذ هذا الجزء كعينة وكان حجمها لا يتعدى نصف السنتيمتر وأغلق مكانها في المثانة مع تركيب قسطرة لمدة أسبوع حتى يلتئم الجرح ولم يتم تسجيل العملية لأن القرص الممغنط كان معطلا، أما بالنسبة لنتيجة العينة فإنه للأسف قد ضاعت العينة ولم يتم إرسالها للمختبر للتحليل والضياع بسبب الممرضة المساعدة لأنها لم تعلم أني أريد إرسالها للمختبر، وقد عاد المريض وتم عرضه على استشاري مسالك وعمل أشعة رنين مغناطيسي أظهرت سلامة المثانة وعدم وجود أي أورام، وقد طلبت الهيئة الاستعانة برأي استشاري في هذا المجال وعرضت وقائع الدعوى عليه وردود كلا طرفي الدعوى ومستنداتهما، وقد جاءت خلاصة رأي الاستشاري (إنني أجد أن الجراح يتحمل الإجراء الخاطئ الذي تعامل به مع الورم وتعديه على تخصص آخر غير تخصصه.
وما ترتب على ذلك ولا أجد أي أخطاء أخرى يتحملها أحد من الطاقم المعالج) وقد خلص رأي الهيئة الصحية الشرعية في هذه القضية إلى أن الطبيب المعالج صدر منه خطأ مهني في حالة المدعي يتمثل في استئصال جزء من جدار المثانة يبلغ من نصف إلى واحد سنتيمتر وثبت أن المثانة سليمة أصلا ونتج عن هذا الاستئصال ثقب وجرح أسفل البطن علما بأن الجرح لم يصل إلى تجويف البطن، وهذا الخطأ يلزم المدعي عليه بالتعويض المنصوص عليه في المادة (27) من نظام مزاولة المهن الصحية الخاصة، وحيث ترى الهيئة أن ما تعرض له المدعي من خطأ طبي وما ترتب عليه من جروح يعد تعديا على عضو سليم في الجسد وإن لم يخلف عجزا لذا قررت الهيئة استحقاق المدعي لتعويض مادي لقاء التعدي الجسدي الذي تسبب فيه الطبيب المدعى عليه، واستنادا إلى تقدير الإرش وإصابات المدعي من قبل (مقوم الإرش والحكومات) متضمنا تعويض المدعي بمبلغ قدره (36000) ريال حكومة تقديرية ومبلغ عشرة آلاف ريال سعودي لصالح بيت المال كجزاء في الحق العام.
وبعد الاطلاع على هذا الحكم نجد أنه لم يتم تعويض المدعي إلا عن الأضرار المادية المباشرة، وقد أغفل الحكم تعويض المدعي عن الأضرار المعنوية والأدبية التي لحقته، وفي الختام نرى أنه تجب سرعة البدء في إنشاء محاكم متخصصة في القضايا الطبية والاستعانة في هذه المحاكم بخريجي قانون وشريعة متخصصين في المجال الطبي، لتفادي التأخير والبيروقراطية في عمل الهيئات الصحية الشرعية، حيث إن تشكيل أعضاء الهيئات الصحية باستثناء الرئيس ليسوا من دارسي القانون أو الشريعة.
اترك تعليقاً