مقدمــــة
ينشأ الالتزام عندما تتجه إرادة الأشخاص إلى إحداث أثر قانوني معين يرتبه القانون. ومصادر الالتزام
إما إرادية أي التصرفات القانونية وهي العقد والإرادة المنفردة وإما مصادر لا إرادية أي وقائع قانونية أو هي العمل الغير مشروع والإثراء بلا سبب أو العمل النافع كما تسميه بعض القوانين تمييزا له عن العمل الضار كان معروفا في القوانين القديمة باعتباره من النظريات المتماشية مع مبدأ العدالة عرفها القانون الروماني ليس كمبدأ عام إنما كجزئيات متناثرة وفروض متفرقة تستقصي في حالات محددة والذي كان يعرف نوعان من الدعاوى تقومان على قاعدة الإثراء بلا سبب وهي دعاوى الاسترداد لما دفع دون سبب ودعاوى الإثراء بلا سبب لكنه لم يصل إلى تنظيمه ووضع قاعدة عامة[1].
ثم انتقل إلى القانون الفرنسي الذي بدوره لم يتلقاها إلا مبعثرة الأجزاء ليتكفل القضاء الفرنسي بصياغتها في أحكامها وإرساء ضوابطها حتى أصبحت كمبدأ عام تستند إلى العدالة ويظاهره العرف القضائي المستقر[2].
أما الفقه الإسلامي فلا يعتبر الإثراء بلا سبب مصدرا عاما للالتزام إلا في حدود ضيقة وحالات قليلة[3].
كانت القوانين المدنية في التشريع المقارن تشير إليه فقط دون الأخذ به صراحة لكن القوانين الحديثة أجمعت على اعتباره مصدرا من مصادر الالتزامات، والمشرع المغربي في قانون الالتزامات والعقود اعتبره مصدرا من مصادر الالتزامات والذي سماه ب”أشباه العقود”، ونظرا لأهمية هذه القاعدة باعتبارها مصدر مستقل فقد خصص لها المشرع الباب الثاني من القسم الأول المخصص لمصادر الالتزامات وأفرد لها الفصول 66، 67، 75،76 معتبرا دفع غير المستحق كتطبيق للقاعدة (الفصول 68 إلى 74)، في حين خصص للفضالة الفصول 943 إلى 958 في الباب الخامس من القسم السادس وجعلها من أشباه العقود المنزلة منزلة الوكالة.
فما هي الأحكام المنظمة للإثراء بلا سبب وما هي تطبيقاته العملية ؟ وكيف عالجه المشرع المغربي ؟
للإجابة عن هذه الأسئلة سنتناول في المبحث الأول القواعد العامة للإثراء بلا سبب وفي المبحث الثاني سنخصصه للتطبيقات العملية للإثراء بلا سبب.
المبحث الأول : القواعد العامة للإثراء بلا سبب.
يعتبر الإثراء بلا سبب واقعة قانونية خص لها المشرع المغربي الفصول 66 و 67 و 75 و 76 من قانون الالتزامات والعقود. وللإحاطة به سنتناول شروطه وآثاره في المطلب الأول على أن نتناول أحكامه في المطلب الثاني.
المطلب الأول: شروط الإثراء بلا سبب وآثاره.
لكي يتحقق الإثراء بلا سبب كمصدر من مصادر الالتزام لا بد من توفر شروط الفقرة الأولى كما يترتب عليه مجموعة من الآثار الفقرة الثانية .
الفقرة الأولى : شروط الإثراء بلا سبب
يعتبر من أثرى على حساب الغير دون سبب قانوني ملزما بأن يرد لهذا الأخير قدر ما أثرى به في حدود ما ألحق بالغير من خسارة أو افتقار دون أن يكون لهذا الإثراء أي سبب قانوني.
فالواقعة التي ترتب الالتزام في ذمة المثري هي واقعة الإثراء على حساب الغير وهي واقعة قانونية مشروعة تقوم على انتقال قيمة مالية من ذمة إلى أخرى دون أن يكون لهذا الانتقال سبب قانوني.[4].
ويلزم لتحقيق الإثراء بلا سبب توفر ثلاثة شروط :
أولا: الإثراء
ويقصد به إضافة قيمة مالية إلى ذمة المثري أي كل كسب أو نفع يجنيه كحق يكتسبه أو منفعة يحصل عليها[5]،بمعنى تلك الزيادة التي تضاف إلى ذمة المدين بغير حق والتي تعتبر واقعة مادية يترتب عنها نشوء الالتزام بالرد، فإذا لم توجد هذه الزيادة فلا التزام بالرد ومثال ذلك إذا أوفى شخص دينا على شخص أخر وتبين أن هذا الدين قد سبق الوفاء به وأنه لا وجود له، فهنا لم يتحقق الإثراء وبالتالي لا يحق لأحد الأطراف أن يطالب الآخر بالرد ولو كان فعلا مفتقرا.
والإثراء يكون ماديا كما يكون معنويا، و يقصد بالإثراء المادي إضافة قيمة مالية إلى المثري أما الإثراء المعنوي فيكون في صورة منفعة معنوية أو أدبية تعود على المثري شرط أن تقوم بالمال وأن تقدر بالنقود كإثراء المتهم بدفاع المحامي عليه [6].
وكالبناء بأدوات مملوكة للغير، وكأن يحصل شخص على تيار كهربائي أو مياه بتوصيلات غير متفق على وضعها بين المستفيد وبين الشركة، وفي هذا الصدد جاء في قرار محكمة النقض
“بشأن الرافعة التي استفادت منها الطاعنة في بناء عمارة لها دون أن يكون هناك اتفاق مسبق يبرر هذا الانتفاع تشكل صورة الإثراء بلا سبب المنصوص عليها في الفصل 67 من قانون الالتزامات والعقود، ولهذا فإن المطلوب في النقض الذي أثبت انتفاع الطاعنة برافعته بدون مبرر يكون قد أثبتت حقه في الحصول على التعويض في حدود الإثراء وكان على،الطاعنة التي تدعي أن الانتفاع كان بدون مقابل أن تثبت عقد التبرع أو عارية الاستعمال [7]”.
كما يكون الإثراء إيجابيا أو سلبيا :
الإثراء الإيجابي : يتحقق عندما يكتسب فيه شخص كسبا ماديا أو معنويا بحيث تزداد ذمته بعد الإثراء عما كانت عليه من قبل دخول عنصر جديد مادي أو معنوي في هذه الذمة [8].
ويكون هذا الكسب إما في صورة حق عيني أو شخصي كالمستأجر الذي يحدث تحسينات في العين المؤجرة بعد انفساخ عقد إيجاره، فيستفيد منها مالك المنزل. أو كالشخص الذي استهلك الماء مثلا عن طريق مواسير خفية كان لمن استهلكه إثراء.
الإثراء السلبي : ويتحقق بتجنب المثري مصاريف لازمة [9]، بمعنى إذا نقص الجانب المدين في الذمة المالية للمثري.وزالت أعباء كانت واجبة عليه كالمستاجرالذي يقوم بترميمات مهمة كانت واجبة على المؤجر، وكان يؤدي عليه شخص ما دينا كان عليه كالمشتري لعقار مرهون فيقوم بدفع دين الرهن.
كما يعتد بالإثراء سواء كان مباشرا أو غير مباشر، ويقصد بالإثراء المباشر الذي ينتقل مباشرة من ذمة المفتقر إلى ذمة المثري وذلك بفعل المفتقر، كمن يبني على أرضه بمواد مملوكة للغير أو يستهلك الخط الهاتفي للغير.
أما الإثراء الغير المباشر إذا تدخل أجنبي في نقله من مال المفتقر إلى مال المثري وقد يقع تدخل الأجنبي عن طريق عمل مادي كفرقة إطفاء الحريق تتلف متاعا للغير حتى تتمكن من إطفاء الحريق.
وقد يقع التدخل عن طريق عمل قانوني، مثال ذلك من يشتري سيارة من آخر ويدفعها إلى الميكانيكي لإصلاحها وينفسخ عقد بيع السيارة فيرجع الميكانيكي هو المفتقر بمصروفات الإصلاح على البائع وهو المثري ويكن المثري هنا هو الأجنبي الذي تدخل بعمل قانوني من نقل الإثراء من المفتقر إلى المثري [10].
ثانيا : الافتقار
إلى جانب إثراء شخص معين يلزم لقيام الإثراء بلا سبب أن يحصل افتقار أو خسارة أو نقص في ذمة الدائن ترتب عليه إثراء المدين، أيا كان سبب هذا النقص سواء كان بفعل المفتقر أو بفعل المثري أو الغير أو بفعل الطبيعة [11]. ويشترط أن يتحقق افتقار الدائن سواء أكان ماديا بانتقال قيمة أو منفعة مالية من ذمته إلى ذمة المدين المثري أو معنوي بأن يبذل جهدا انتفع منه المثري [12].
ولا مجال لتطبيق قاعدة الإثراء بلا سبب إذا لم يؤد الإثراء الحاصل من جانب المدين إلى تحقيق الافتقار من جانب الدائن حيث أن القانون ألزم المثري برد أقل القيمتين، وفي حالة إذا كان الافتقار منعدما فالمثري لا يلزم برد شيء.
ومثال ذلك إذا أنشأ شخص حديقة في منزله يطل عليها منزل الجار وجمل هذه الحديقة حتى أصبحت سببا في رفع قيمة منزل الجار فالجار هنا أثرى لكن صاحب الحديقة لم يفتقر ولم يخسر شيء فلا يرجع بشيء على جاره [13].
وعلى غرار الإثراء فالافتقار يمكن أن يكون إيجابيا وذلك عندما يفقد المفتقر حقا عينيا أو شخصيا أو انتقاص حق له، ويتحقق بالإنفاق كما إذا دفع شخص دينا في ذمة غيره.
ويكون الافتقار سلبيا إذ حرم المفتقر من منفعة كان من حقه استبقاؤها مقابلا لجهده أو لقاء الانتفاع بماله[14].
حيث يعتبر أن هذا الشخص افتقر بقدر ما فات عليه من ذلك الكسب المشروع، ومثال ذلك أن يقوم زيد بعمل لعمر فيكون زيد قد افتقر بما فاته من منفعة وهي أجرة ذلك العمل وكالعارف بالأنساب الذي يهدي شخص إلى أن له قريب لم يعلم بوجوده وأن هذا القريب قد مات دون وارث غيره. فالقضاء الفرنسي أقر في هذا الصدد أن العارف بالأنساب قد افتقر بقدر ما كان يستطيع أن يحصل عليه من ذلك الوارث، ولو تم الاتفاق منذ البداية على أن يقوم بالبحث عن مورثه [15].
كما يمكن أن يكون الافتقار مباشرا أو غير مباشر وفقا لما يقابله في الإثراء مع وجود علاقة سببية بين افتقار المفتقر وإثراء المثري. فالافتقار المباشر يقابله الإثراء المباشر كأن يدفع أ مبلغا من النقود غير مستحقة عليه لـ ب.
والافتقار الغير المباشر يتحقق بتدخل أجنبي تدخلا ماديا أو قانونيا تنتقل معه المنفعة المالية من ذمة المفتقر إلى ذمة المثري [16].
كما يمكن أن يكون الافتقار ماديا أو معنويا كافتقار المحامي الذي يحصل على براءة موكله غير أنه لكي يــعتد بالافتقار يجب أن يكون راجعا إلى خطأ المفتقر فإذا حصل نتيجة خطأ المفتقر وإهماله فهو يتحمل النتيجة.
ومثال ذلك ما قرره القضاء الفرنسي من أن الجدة التي استبقت لديها أطفال ورفضت إرجاعهم إلى ذويهم وأنفقت عليهم مدة تواجدهم عندها. لا يجوز لها الرجوع على أقارب الأطفال بدعوى الإثراء بلا سبب، لأن افتقارها راجع إلى خطئها[17] .
والقضاء المغربي ذهب في نفس الاتجاه عندما قرر أن “الأم التي تنزع ابنها من لدن والده وتمتنع عن رده إليه لا تستطيع أن تطالب باسترداد ما أنفقه على الولد خلال وجوده في كنفها[18] “.
حتى نكون أمام واقعة الإثراء بلا سبب لا بد أن يتحقق افتقار المفتقر وأن يكون هذا الأخير هو سبب إثراء المثري بمعنى لا بد من قيام علاقة أو رابطة سببية ما بين الافتقار والإثراء.
لكن يحدث أن تكون الواقعة التي رتبت الإثراء غير الواقعة التي أحدثت الافتقار في هذه الحالة هل نكون أمام إثراء بلا سبب أم لا ؟
ومثال ذلك الأول:كمن يشتري مواد معينة دون أن يدفع قيمتها إلى التاجر ويستعملها لإصلاح منزل جار له غائب فصاحب المنزل الغائب أثرى نتيجة إصلاح جاره أما التاجر افتقر نتيجة واقعة عقد البيع الذي لم يدفع فيه الثمن، فرغم اختلاف الواقعتين إلا أن إثراء صاحب المنزل ما كان يتحقق لولا افتقار التاجر.
ومنه فرابطة السببية متوفرة كما أن المطالبة برد الإثراء صحيح [19]. وتجدر الإشارة إن رابطة السببية يعود تقديرها لقاضي الموضوع وتخرج من رقابة المجلس الأعلى لمحكمة النقض باعتبار أن استخلاص القاضي لواقعة الإثراء بلا سبب التي حدثت المدين وأنها ما كانت لتقوم لولا أن هناك افتقار أصاب الدائن، من مسائل الواقع أن يكون لقاضي الموضوع سلطة تقريرية فيها [20].
وفي حالة تعدد الأسباب يتم إعمال السبب المنتج إذا تبين أنه يرجع إلى الافتقار.
ثالثا : انعدام السبب القانوني للإثراء
لكي تقوم قاعدة الإثراء بلا سبب يجب ألا ينعدم هناك سبب قانوني يبدده، ويعتبر هذا الشرط أساسي وجوهري في قاعدة الإثراء بلا سبب حيث أنه كلما وجد انتقال لقيمة مالية من ذمة شخص إلى ذمة آخر وبدون سبب قانوني إلا وتحققت قاعدة الإثراء بلا سبب.
والمقصود بالسبب هو أن يكون للمثري حق قانوني في كسب الإثراء الذي حصل عليه، وهذا الحق لا يعدو أن يكون أحد المصدرين اللذين تتولد منهما الحقوق : العقد والقانون [21].
فإذا كان إثراء الشخص سببه تصرف قانوني كالعقد والإرادة المنفردة أو واقعة قانونية في صورة العمل الغير المشروع.
فإنه لا يجوز له اللجوء إلى دعوى الإثراء بلا سبب ومثال ذلك الواهب الذي ليس له أن يرجع على الموهوب له بدعوى الإثراء بلا سبب وإن افتقرت ذمته في مقابل إثراء الموهوب لكون أن هذا الإثراء له سند قانوني متمثل في عقد الهبة [22].
وتجدر الإشارة أن الفقهاء أقروا بأهمية ركن السبب في الإثراء بلا سبب، لكن بداية اختلفوا في تفسير المقصود منه، وانقسموا اتجاهين في فرنسا :
– الاتجاه الأول : كان يرى بأنه فكرة قانونية صرفة واستبعد إسنادها إلى مصدر قانوني كالعقد والإرادة المنفردة.
– الاتجاه الثاني : كان يرى أن فكرة السبب مستمدة من مبادئ العدالة وبالتالي يتوجب رد الإثراء في كل حالة يبدو فيها انتقال قيمة من ذمة إلى أخرى انتقالا غير عادل [23] . وهو المعنى الذي يقوم عليه الفقه في مصدر غالبية الفقه في فرنسا وكذا الفقه المغربي.
ويمكن أن يكون السبب الذي حقق الإثراء في ذمة المثري ويخير له الاحتفاظ بما أثراه ويقف حائلا دون المطالبة بالرد، كل تصرف قانوني كالعقد (عقد البيع مثلا) أو إرادة منفردة كالوصية والوعد بجائزة.
ومثال ذلك عقد الإيجار الذي ينص على أن التحسينات التي يقوم بها المستأجر تعد ملكا للمؤجر عند انتهاء مدة الإيجار، ففي هذه الحالة يكون عقد الإيجار هو سبب إثراء المؤجر على حساب المستأجر ومن تم لا يحق لهذا الأخير الرجوع والمطالبة بالتعويض على التحسينات التي قام بها بدعوى الإثراء بلا سبب.
وفي هذا الصدد جاء في قرار لمحكمة النقض : “إذا استعمل مشتري قطعة أرضية التصميم المتعلق ببنائها استنادا على اتفاق بينه وبين البائع باعتبار التصميم داخلا في البيع لم يجز القول بأن المشتري أثرى بدون سبب لأن عقد البيع هو إذاك السبب القانوني للإثراء [24].
غير أنه تثار إشكالية عندما يكون العقد الذي هو سبب الإثراء مبرم بين المثري والغير دون أن يكون للمفتقر طرفا فيه ويقوم العقد مع ذلك سببا قانونيا للإثراء، يمنع المفتقر من الرجوع على المثري. ومثال ذلك شخص يثرى على حساب أخر وهب ما أثرى به إلى شخص ثالث، فلا يستطيع المفتقر في هذه الحالة أن يرجع بدعوى الإثراء على الموهوب له لأنه أثرى بسبب قانوني هو عقد الهبة وإن لم يكن المفتقر طرفا في هذا العقد [25].
السبب في الإثراء حكم من أحكام القانون : قد يكون السبب حكما من أحكام القانون وبالتالي مصدرا لكسب الإثراء ومانعا للمفتقر من الرجوع على المثري بدعوى الإثراء كون أن المثري أثرى بسبب قانوني كالشخص الذي يكتسب ملكية أرض بالتقادم مثلا فلا يمكن للمفتقر استرداد الأرض عن طريق دعوى الإثراء بلا سبب وتعطيل الحكم القانوني الذي رتبه المشرع على التقادم كسب صحيح للإثراء.
كذلك يعتبر الحكم الصادر عن هيئة تحكيمية أو القضاء أو العمل الغير مشروع سندا قانونيا يسمح للمثري بالاحتفاظ بما أثراه[26] .
وقد أجمع الفقه والقضاء في مصر وفرنسا على أو قاعدة الإثراء بلا سبب قاعدة مستقلة بعدما أثير نقاش حول الصفة الاحتياطية لدعوى الإثراء، واعتبروا أن دعوى الإثراء بلا سبب دعوى احتياطية لا يجوز اللجوء إليها إلا إذا انعدمت كل وسيلة قانونية أخرى وأن الإثراء الذي يطالب به المفتقر يجب أن يكون قائما وقت رفع الدعوى وأنه لا يمكن اللجوء إليها إذا كانت هناك دعوى أخرى ناشئة [27].
ومقتضى هذه الصفة هو أن لا يلجأ إليها المفتقر إلا إذا أعوزته الوسائل الأخرى، ويترتب على ذلك أنه إذا غصب شخص مالا من آخر فلا يحق للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بدعوى الكسب دون سبب على اعتبار أن الغاصب قد كسب إثراء بلا سبب [28] .
ويرى كل من الدكتور مأمون الكزبري والدكتور الفصايلي الطيب أن دعوى الإثراء بلا سبب دعوى أصلية يجوز اللجوء إليها إذا ما تحققت شروط الإثراء، ويمنع على المفتقر ممارستها إذا اختل شرط من الشروط ولا سيما إذا كان إثراء المثري يمكن أن يتم إسناده إلى سبب صحيح .
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي لم يتطرق في معرض تنصيصه على الإثراء بلا سبب على الصفة الاحتياطية بدعوى الإثراء لكن من خلال الفصل 66 يتضح أن المشرع منح للمالك حق ممارسة دعوى الإثراء لاسترداد ملكه من الحائز، الأمر الذي يبين أن المشرع يعتبر دعوى الإثراء دعوى أصلية [29]يمكن رفعها متى توفرت شروطها بحيث يحق للمفتقر اللجوء إليها بصرف النظر عن وجود وسيلة أخرى تمكنه من الحصول على حقه من المثري [30].
الفقرة الثانية : آثار الإثراء بلا سبب.
عند اجتماع الشروط السالف ذكرها في الإثراء بلا سبب، فإنه يترتب عليه التزام المثري برد ما أثرى به دون سبب لمن تحقق لديه افتقار مع التعويض إن اقتضى الحال أو التعويض فقط في حالة تعذر أو استحالة الرد.
التزام المثري برد العين : فالمثري يلتزم برد العين للمفتقر ما دامت العين التي حازها بدون سبب موجودة تحت يده [31].
وهنا جاء في الفصل 66 من قانون الالتزامات والعقود أن “من تسلم أو حاز شيئا أو أية قيمة مما هو مملوك للغير بدون سبب يبرر هذا الإثراء التزم برده لمن أثره على حسابه”.
والمثري قد يكون حسن النية وقد يكون سيء النية فبالنسبة للمثري حسن النية فإنه يلتزم برد ما عاد إليه من نفع من تاريخ المطالبة بالرد كما ينص على ذلك الفصل 75 من قانون الالتزامات والعقود (الفقرة الأخيرة).
أما بالنسبة للمثري سيء النية وحسب الفصل السابق ذكره [32]، فإنه يلقى على عاتقه رد الثمار والزيادات والمنافع التي جناها وتلك التي كان من واجبه أن يجنيها لو أحسن الإدارة، وذلك من يوم الوفاء أو من يوم تسلم الشيء بغير حق.
أما إذا هلك الشيء أو تعيب بفعل المثري أو خطئه فإنه يلزم برد قيمته يوم تسلمه إياه دون تمييز بين أن يكون حسن أو سيء النية كما يفهم من منطوق الفصل 75. لكن إذا هلك الشيء نتيجة قوة قاهرة فالمثري لا يلتزم بالضمان إلا إذا كان سيء النية. أما إذا كان حسن النية فإنه لا يلتزم بشيء باستثناء ما عاد عليه من منفعة ترتبت على الهلاك أو إتلاف [33].
التزام المثري برد الثمن أو بتحويل الحق :
حيث يلزم المثري إذا استحال رد العين إلى المفتقر بسبب بيعها من قبل المثري برد الثمن حيث تنص المادة 76 على أنه “إذا كان من تسلم الشيء بحسن نية قد باعه فإنه لا يلتزم إلا برد ثمنه أو بتحويل ماله من حقوق على المشتري إذا استمر على حسن النية إلى وقت البيع”.
من خلال هذا الفصل يتضح أن المشرع كذلك يميز بين حسن النية وسيء النية. فالمثري حسن النية إذا باع الشيء الذي كان بحوزته وهو لا يزال على حسن نيته إلى وقت البيع. لا يسأل إلى في حدود الثمن الذي فيه الشيء، وإن كانت قيمته تفوق ذلك، بمعنى إذا قبض الثمن يرده المفتقر وإذا بقي الثمن عالقا بذمة المشتري، فالمثري تبرأ ذمته. لكن الإشكال الذي يطرح في هذا الصدد هو بيع المثري للشيء متعمدا أو بسوء نية.
أمام غياب نص ينظم هذه الحالة، فالدكتور مأمون الكزبري يرى في هذه الحالة بإلزامية بقية الشيء وقت تسليمه إياه، قياس على حالة الهلاك إذا كانت القيمة أصلح للمفتقر من الثمن الذي بيع فيه الشيء وإلا فمن حق المفتقر في رأينا المطالبة بالثمن [34].
وفي حالة إذا كان الإثراء مترتبا عن منفعة معينة حصل عليها المثري حسن النية من عمل الغير أو خدمة مما قدمه المفتقر إلى المثري، فالمثري يلتزم بتعويض المفتقر في حدود ما أثرى به من فعله أو شيئه. وهذا ما نص عليه الفصل 67 من قانون الالتزامات والعقود [35].
كالشخص الذي يسكن منزلا دون عقد إيجار، أو كالمهندس الذي يضع تصميما ينتفع به رب العمل أو الموظف الذي يجد اختراعا يفيد منه رب العمل، فتقوم المنفعة بأجرة المثل للمنزل وبالقدر الذي جناه رب العمل من نفع بفضل اختراع الموظف أو ما انتفع به من تصميم المهندس [36].
وفي حالة إذا كان المثري سيء النية وتوصل إلى منفعة من شيء يعود للغير، فالمشرع لم يتطرق لذلك لكن انطلاقا من المبادئ العامة وتطبيق الفصل 75 من ق.ل.ع فإن المثري سيء النية يلتزم برد ما تسلمه أو قيمته يوم تسلمه، وإلزامه برد كامل الثمار [37]،وإلزامه بكامل ما افتقر به المفتقر بغض النظر على النفع الذي حصل عليه المثري.
المطلب الثاني : أحكام الإثراء بلا سبب.
إذا توفرت الأركان السالف ذكرها ترتب عن ذلك التزام المثري برد الإثراء وينشأ للمفتقر الحق في رفع دعوى الإثراء (الفقرة 1) والمطالبة بالتعويض (الفقرة 2).
الفقرة الأولى : دعوى الإثراء
بمجرد حصول واقعة الإثراء بلا سبب ينشأ الحق في الدعوى :
أولا: أطراف الدعوى:
ككل دعوى فدعوى الإثراء بلا سبب تضم كل من المدعي وهو المفتقر ومن يقوم مقامه بنيابة قانونية (الولي، الوصي، المقدم) أو اتفاقية (الوكالة) وخلفه العام (الوارث) وخلفه الخاص، فإذا مات المفتقر حل وارثه محله في المطالبة بالتعويض ويجوز للدائن المفتقر أن يطالب المثري بالتعويض مستعملا حق المفتقر عن طريق الدعوى الغير المباشرة. ويمكن للمفتقر أن يتنازل عن حق في التعويض إلى شخص آخر فيصبح المحال له هو دائن المثري [38].
أما المدعى عليه فهو المثري ومن يقوم مقامه وخلفه العام والخاص. ولا يشترط في الطرفين التوفر على أهلية الأداء إنما فقط حين يكون المثري عديم أو ناقص الأهلية فإنه لا يلزم بأن يرد ما أثرى به إلا إذا كان ما زال موجودا في ماله أو انفقه فيما يعود عليه بالنفع [39].
فناقص الأهلية كالصبي المميز والسفه يصح أن يفتقر بأن يثري شخص على حسابه دون سبب قانوني فيصبح بذلك دائنا للمثري لكن ماذا لو تعدد المفتقرون، مقابل إثراء شخص واحد، هل يتم تطبيق قاعدة تضامن الدائنين ؟
في هذه الحالة يصبح المفتقرون دائنين للمثري ومثال ذلك إثراء شخص على حساب شركائه في الشيوع كل منهم يستحق تعويض بقدر نصيبه ولا تضامن بينهم ولكل منهم دعوى مستقلة عن الآخرين، وتقدير التعويض متروك للقاضي.
كذلك الشأن في حالة تعدد المثري كمثال على ذلك الشركاء على الشيوع [40]،الذين يثرون على حساب الغير فيكونون مدينين للمفتقر بالتعويض ليسوا مسؤولين بالتضامن.
وإذا كان المدعي هنا (المفتقر) يطالب بالتعويض عما لحقه من افتقار في حدود ما أثرى به المثري فالمدعى عليه يدفع دعوى الإثراء إما بإنكاره قيام الدعوى من الأصل، إذا تخلف ركن من أركانها، وإما أن يقر إن التزامه انقضى بسبب من أسباب انقضاء الالتزام وإما أن يقر بأن دعوى الإثراء انقضت بالتقادم.
ثانيا: إثبات الإثراء
باعتبار أن الإثراء واقعة قانونية فإن لكن من المفتقر والمثري استعمال كافة وسائل الإثبات وكذا وسائل لنفي أو تقدير العناصر المكونة للإثراء بما فيها البينة والقرائن والمعاينة والخبرة وأقوال الشهود…[41] .
ثالثا : تقادم دعوى الإثراء:
إذا كانت التشريعات المقارنة تحدد مدة معينة يتعين فيها على المفتقر أن يرفع دعواه كالقانون المدني الأردني في المادة 311، ينص على أن دعوى الإثراء بلا سبب تتقادم في جميع الأحوال بمضي 3 سنوات من اليوم الذي علم فيه الدائن بحقه في الرجوع. والقانون الجزائري ينص في المادة 142 على أن دعوى التعويض عن الإثراء بلا سبب تسقط بانقضاء عشر سنوات من اليوم الذي يعلم فيه من لحقه خسارة بحقه في التعويض وتسقط في جميع الأحوال بانقضاء خمسة عشرة سنة من اليوم الذي ينشأ فيه هذا الحق.
نفس الأمر بالنسبة للمشرع المصري، نص على أن دعوى الإثراء تسقط بمرور 3 سنوات أو بمرور 15 سنة في جميع الأحوال [42].
أما المشرع المغربي فلم ينص على مدة معينة لتقادم دعوى الإثراء بلا سبب مما يجعل الدعوى تتقادم وفق القاعدة العامة أي بمرور 15 سنة من حدوث واقعة الافتقار.
الفقرة الثانية : الالتزام بالتعويض
يتجلى مصدر حق المفتقر في التعويض في واقعة الإثراء بلا سبب، فإذا توفرت أركان هذا الأخير وترتب عنها افتقار شخص مقابل إثراء آخر فإن هذا الأخير يلزم برد المال أي الشيء الذي تسلمه أو حازه نتيجة هذه الحالة أو يلزم بدفع تعويض في حالة تعذر رد الشيء أو أن ما جناه كان مجرد منفعة[43].
وذلك ما يتضح من خلال الفصلين 66 و 67 من قانون الالتزامات والعقود.
وباستقراء الفصل 75 يتضح أن التعويض في حالة هلاك العين وتلفها بفعل المثري أو خطئه يلزم برد قيمتها في يوم تسلمه إياه.
وإذا هلك الشيء بقوة قاهرة فالمثري يلتزم بأن يرد لصاحبه قيمته في يوم تسلمه إياه مع الزيادات والثمار والمنافع التي جناها وتلك التي قصر في جنيها، والمثري حسن النية يلتزم بتعويض في حدود ما عاد عليه بالنفع ومن تاريخ المطالبة.
رد المثري لما أثرى به يجب ألا يؤثر سلبا بأن يؤدي للمفتقر أكثر مما أثرى به بل رده للإثراء تحكمه قاعدة أن المثري ملزم برد أقل القيمتين بمعنى تحديد قيمة الافتقار وقيمة الإثراء وتكون العبرة بوقت قيام الالتزام وقت وقوع الإثراء لا بوقت رفع الدعوى وليس بوقت صدور الحكم في تحديد قيمة الإثراء. أما قيمة الافتقار فالعبرة بوقت صدور الحكم .[44] والقاضي يحسب القيمتين فإن كانتا متساويتين فلا إشكال وإن كانت قيمة الافتقار أقل من قيمة الإثراء التزم المثري برد قيمة الافتقار فقط.
فإن قدرت قيمة الافتقار بألف درهم وقيمة الإثراء بثلاثة آلاف درهم يودي المثري ألف درهم، وليس للمفتقر أن يطالب بالألفين درهم التي استنفدها المثري. وفي حالة إذا كانت قيمة الإثراء أقل من قيمة الافتقار التزم المثري برد قيمة الإثراء كأن تقدر قيمة الافتقار في 4 آلاف درهم والإثراء في ألف درهم فالمثري سيؤدي ألفي درهم فقط، وتبقى الألفان بدون تعويض ولا يطالب بهما المثري[45].
ومن خلال ما سبق يمكننا استخلاص أن الإثراء بلا سبب لا يقوم إلا بحدوث افتقار من جانب الدائن والزيادة أو الاغتناء من جانب المدين وبتوفر أركانه يمكن من رفع دعوى الإثراء بلا سبب والمطالبة برد الإثراء أو التعويض إلا أن هنا الإثراء في حد ذاته له تطبيقات متمثلة في صورتين أساسيتين هما الدفع غير المستحق والفضالة وهذا ما سنتناوله في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: تطبيقات الإثراء بلا سبب
تتلخص أهم تطبيقات الإثراء بلا سبب في دفع غير المستحق (المطلب الأول) والفضالة (المطلب الثاني) باعتبارهما من أهم صور الإثراء بلا سبب.
المطلب الأول : أحكام دفع غير المستحق
دفع غير المستحق هو الوفاء بدين غير واجب الدفع على من قام بدفعه (الموفي) ظنا منه أنه ملزم بدفعه أي أنه مدين به، فيترتب في هذه الحالة إلزام الموفي له (المثري) برد ما أداه له الموفي (المفتقر) دون حق. وقد نظم المشرع المغربي دفع غير المستحق باعتباره من أهم صور الإثراء بلا سبب، وخصص له من الفصول 68 إلى 74 من ق.ل.ع.
وبالتالي فإن دفع غير المستحق لا يتحقق إلا بتوافر مجموعة من الشروط (الفقرة الأولى) بالإضافة إلى الآثار المترتبة عنه (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: شروط دفع غير المستحق:
لا ينشأ التزام برد غير المستحق إلا إذا كان هناك وفاء (أولا) وأن لا يكون لهذا الوفاء سبب. (ثانيا) وأن يكون الموفي قد قام بالوفاء ظنا منه أنه مدين (ثالثا).
أولا : يجب أن يكون هناك وفاء:
لا يقوم الالتزام بالرد في الوفاء بغير المستحق إذا لم يوجد وفاء بالدين فعلا. ويقصد بالوفاء هنا كل عمل من أعمال الوفاء يصدق عليه وصف التصرف القانوني المبري للذمة [46].
وبالتالي فالوفاء يعتبر من بين أهم الالتزامات الواقعة على المدين ليتحلل منن الالتزام الواقع عليه، وقد يحدث أن يفي الملتزم (المدين) بالتزامه عن غلط منه بأنه مدين، فإذا به ليس كذلك، وفي هذا ما نصت عليه المادة 68 من ق.ل.ع :”من دفع ما لم يجب عليه، ظنا منه أنه مدين به نتيجة غلط في القانون أو في الواقع كان له حق الاسترداد على من دفعه له”.
والوفاء بدوره قد يكون وفاء عاديا كما سبق ذكره، وقد يكون وفاء شبيها بالوفاء كما في المقاصة* أو الإنابة* أو التجديد* [47].
ويقوم مقام الدفع أيضا إقامة إحدى الضمانات وتسليم حجة تتضمن الاعتراف بدين أو أية حجة أخرى تهدف إلى إثبات وجود التزام أو التحلل منه كالإقرار ومنح المدين وهنا أو كفالة لدائنه[48].
وباعتبار الوفاء تصرف قانوني، فما هي القواعد العامة في إثبات هذا التصرف ؟ يقول الأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري “إن أعمال الوفاء هذه على تنوعها هي تصرفات قانونية تخضع للقواعد العامة في إثبات التصرفات القانونية وبخاصة ما تعلق منها بنصاب الإثبات بالكتابة أو البينة[49],
ويتضح لنا مما سبق قوله أعلاه إن الكتابة ركن في إثبات الوفاء وكافة التصرفات الأخرى التي تنطوي عليها كوجود الوفاء[50] أو انقضائه، باعتبارها من أهم وسائل الإثبات التي يقررها القانون والدليل على ذلك تقديم حجج وضمانات تفيد وجود هذا الالتزام أو تحلله وذلك وفقا لما نصت عليه المادة 74 من ق.ل.ع.[51] فبدون شك قد توخى المشرع من وجود هذه الضمانات والحجج اشتراط الكتابة في إثبات الوفاء فبدون الكتابة لا وجود لهذه الضمانات.
ثانيا : يجب ألا يكون للوفاء سبب
إن دفع غير المستحق يقوم على قرينة عدم وجود سبب للوفاء يستند إليه، فانعدام السبب في الوفاء يرتب حقا في استرداد ما دفع إذ لا مجال لاسترداد ما دفع إذا كان للدفع سبب.
ويكون الدين غير مستحق الوفاء إذا لم يكن السبب غير متحقق أصلا، أو أن يكون سببا مستقبلا لم يتحقق، أو يكون قد زال بعد تحققه.
فالاسترداد يصح في هذه الحالات جميعا، وقد أوضح المشرع المغربي ذلك إذ نص في المادة 68 على منح حق الاسترداد لمن دفع ما ليس مستحقا عليه ظنا منه أنه مدين به، وهي الحالة التي يكون فيها الدفع لسبب غير متحقق أصلا[52].
ثم أضاف في المادة 70 على أنه “يجوز استرداد ما دفع لسبب مستقبل لم يتحقق أو لسبب كان موجودا ولكنه زال”.
وعليه يكون دفع غير مستحق الوفاء لانعدام السبب في حالتين:
الحالة الأولى : الوفاء بدين غير مستحق وقت الوفاء.
الحالة الثانية : الوفاء بدين كان مستحقا وقت الوفاء ثم أصبح غير مستحق بعد ذلك.
الحالة الأولى : الوفاء بدين غير مستحق وقت الوفاء:
يكون الدين غير مستحق وقت الوفاء، وذلك في صور عدة من بينها أن يكون الدين منعدم من الأصل (أ) وأن يكون محتمل الوجود ويؤمل استحقاقه ولكنه لم يستحق (ب) وأن يكون كذلك الدين استحق ولكنه انقضى قبل الوفاء به (ج).
في الدين منعدم أو غير موجود أصلا:
يكون الدين غير موجود أصلا إذا كان وهميا بمعنى أن الدافع توهم أو ظن أنه واجب عليه، في حين أن الحقيقة خلاف ذلك[53]. وكمثال على ذلك أن يقوم وارث بتنفيذ وصية رجع عنها الموصي.
ويختلف انعدام وجود هذا الدين فيما إذا كان ليس له وجود بالنسبة للدافع أو المدفوع له على حد سواء.
فهو منعدم بالنسبة إلى الدافع إذا كان له وجود ولكنه في ذمة غير الدافع فيكون الدافع قد دفع دين غيره ظنا أنه يدفع دين نفسه، كأن يدفع شخص دينا ظنا منه أنه مدين به، ثم تبين بأن غيره هو المدين بهذا الدين. أو لا يكون للدين وجود بالنسبة إلى الموفى له فحسب كأن يقوم المدين بوفاء دين مترتب عليه لشخص غير الشخص الدائن[54].
ويكون الدين أيضا منعدما من الأصل إذا كان مترتبا على عقد باطل وفقا لما نصت عليه المادة 306 من ق.ل.ع : “الالتزام الباطل بقوة القانون لا يمكن أن ينتج أي أثر إلا استرداد ما دفع بغير حق تنفيذا له ” فإذا كان العقد باطلا، فإن التصرف يكون باطلا بقوة القانون فالعقد الباطل لا ينتج أي أثر، ومن ثم يجوز للدافع استرداد ما دفع بغير حق تنفيذا للعقد الباطل “
ومثال ذلك أن يدفع مدين لدائن فوائد باهظة تتجاوز إلى حد كبير السعر العادي للفوائد وقيمة الخدمة المؤداة نتيجة استغلال الدائن حاجة المدين أو ضعف إدراكه أو عدم تجربته وهو ما يجرمه القانون تحت طائلة البطلان فتصرف المدين الذي يؤدي مثل هذه الفوائد الباهظة يعتبر تصرفا باطلا يجوز معه الاسترداد.
ويقول الأستاذ على الرزاق السنهوري أن الدين يكون منعدما من الأصل إذا كان مصدره عقدا باطلا أيا كان سبب البطلان كما سبق الإشارة إليه سابقا، أو كان الدين ليس مدنيا بل دينا طبيعيا لا جبر في تنفيذه[55].
أي أن انعدام الدين يكون أيضا في الدين الطبيعي الذي لا جبر في تنفيده ، و ليس في العقد الباطل فقط .
و الدين الطبيعي هو الدين الذي استوفى عناصر المديونية و المسؤولية معا.
و انطلاقا مما سبق فان انعدام الذين يكون في الحالة التي يكون فيها الدين غير موجود بالأساس أو كان مترتبا على عقد باطل أو كان الدين طبيعيا لا جبر في تنفيده كما سبقت الإشارة إليه .
ب – الدين محتمل الوجود و يؤهل استحقاقه ، و لكنه يستحق :
أشار الفصل 70 من ق.ل.ع إلى هذه الصورة بقوله : ” يجوز استرداد ما دفع لسبب مستقبل لم يتحقق أو لسبب كان موجودا و لكنه زال “
و يكون الدين محتمل الوجود كما في الالتزام المعلق على شرط واقف [56].
و كمثال على ذلك أن يلتزم شخص بإعطاء مبلغ معين لشخص أخر إذا ما نجح في الامتحان ، فتحقق الشرط الواقف مقرون بنجاح هذا الشخص في الامتحان ، فإذا كان دافع المال ( الوفي ) قد مكن منه الموفى له ، قبل تحقق الشرط الواقف ، وجب عليه أن يرجع على هذا الأخير باسترداد ما دفع بغير حق لان الشرط الواقف لم يتحقق بعد ، أما إذا كان قد دفع المبلغ بعد الرسوب في الامتحان وجب عليه أيضا الرجوع على الموفى له. من اجل استرداد حقه في دفع غير مستحق
أما الدين المعلق على شرط فاسخ فهو دين موجود نافد بدين كان مستحقا وقت الوفاء ثم أصبح غير مستحق [57] .
و كمثال على ذلك أن يعطي شخص لأخر مبلغ من المال ، ويشترط عليه أن يتصرف في هذا المال في غرض معين ، فادا تبين بعد ذلك بان الموفى له قد تصرف في هذا المال على عكس الشرط الذي اشترطه الموفي ، ففي هذه الحالة يتحقق الشرط الفاسخ ، و لا يبقى للموفي سوى الرجوع على الموفى له لاسترداد ما دفع بغير حق .
و يحصل أن يكون الدين قد نشا في اجل مستقبل أو انه نشا و لكن اجل الوفاء لم يحل بعد فانه إذا حصل الدفع اعتبر دفعا لدين غير مستحق ، وجاز للموفي استرداد ما دفع ، إنما يشترط في هده الحالة الأخيرة أي حالة وجود الأجل أن يكون الموفى جاهلا بقيام الأجل ، أما إذا كان يعلم وقت الوفاء أن الدين موجلا و مع ذلك قام بتسديده امتنع عليه الاسترداد [58] .
ج – الدين استحق و لكن انقض قبل الوفاء به :
و تتحقق هذه الصورة في الحالة التي يكون فيها الدين قد وجد في وقت من الأوقات ، لكنه انقضى قبل الوفاء به ، مثال ذلك أن يقوم الوارث بسداد دين على مورثه ، ثم يتضح بان المورث سبق و أن وفى به قبل وفاته [59] .
الحالة الثانية : الوفاء بدين كان مستحقا وقت الوفاء تم أصبح غير مستحق بعد ذلك :
قد يحصل أن يزول سبب الوفاء بعد تحققه و أن يكون الدين الذي حصل الوفاء به قد زال سببه في حالات الإبطال و الفسخ [60] .
و مثال ذلك أن يكون قد حصل الدفع تنفيذا لعقد قابل للإبطال ثم حكم ببطلانه ، كان يشتري قاصر أرضا و يدفع ثمنها ، ثم يبطل العقد بعد ذلك ، ففي هذه الحالة يكون سبب التزامه بدفع الثمن قد زال ،ويكون له استرداد ما دفع ، و كذلك إذا حصل الدفع تنفيذا لعقد صحيح منتج لأثاره ، ثم حكم بفسخه كما إذا دفع المشتري ثمن ما اشتراه ، ثم فسخ عقد البيع فيكون له أن يسترد من البائع ما دفع له [61] .
و من حقه استرداد هذا الثمن لان إبطال عقد البيع أو فسخه أدى إلى زوال سبب التزام المشتري بدفع الثمن و بالتالي إلي زوال سبب الوفاء .فيصبح الثمن في ذمة البائع دفعا لدين غير مستحق أو يصبح من حق المشتري استرداده [62] .
ثالثا : يجب أن يكون الموفى قد قام بالوفاء ظنا منه انه مدين :
إن دفع غير المستحق لا يقوم إلا إذا كان الموفى قد قام بالوفاء ظنا منه ، وعن غلط انه مدين سواء كان غلطه في الواقع أو في القانون ، كان يدفع الوارث الدين عن مورثه ، و هو يجهل أن مورثه أدى ما عليه من دين .و هذا غلط في الواقع ، أو كأن يحصل للمدين غلط في القانون وفي كلتا الحالتين يجوز للموفي استرداد ما دفعه كلا أو بعضا [63] .
و ذلك وفقا لما نصت عليه المادة 68 من ق.ل.ع التي تنص انه : ” من دفع مالم يجب عليه ظنا منه انه مدين به ، نتيجة غلط في القانون أو في الواقع ، كان له حق الاسترداد على من دفعه له…” .
و انطلاقا من هذه المادة يتبين لنا بان المشرع قد علق اشتراط الموفى في استرداد ما دفع بغير حق على شرط ، و هو أن يكون قد وقع في غلط سواء كان غاط في القانون أو في الواقع .
فإذا كان الموفي لم يقع في أي غلط ، بل قام بالدفع و هو يعلم انه ليس مدينا بشيء فلا يجوز له استرداد ما دفعه لان الشرط تحقق حالة دفع غير المستحق هو وقوع الموفي في غلط في القانون أو الواقع [64] .
و بالتالي فإذا قام شخص بالوفاء و هو يعلم انه غير ملزم بذلك فليس له أن يسترد ما أداه ، إذ يعتبر أن لده قصد التبرع [65] .
و على الرغم من اشتراط المشرع على الموفي أن يقع في غلط كي يسترد ما دفعه دون حق إلا انه اوجد حالات لا يعتد فيها بهذا الغلط ، و لا يكون فيها للموفي الحق في استرداد ما دفعه .
و تتمثل هذه الحالات فيما نص عليه المشرع في المادة 72 من ق.ل.ع التي تنص على انه : ” الدفع الذي ثم تنفيذا للدين سقط بالتقادم أو التصرف على سبيل التبرع و لوكان يعتقد عن غلط انه ملزم بالدفع أو كان يجهل واقعة التقادم “ .
و كذلك لا محل لاسترداد ما دفعه لسبب مستقل لم يتحقق كالوفاء بدين معلق على شرط واقف إذا كان من قام بالوفاء يعلم عند الوفاء استحالة تحقق هذا السبب أو كان هو نفسه قد حال دون تحققه [66] .
و يقع أيضا بمنزلة الدفع الوفاء بمقابل و إقامة إحدى الضمانات و تسليم حجة تتضمن الاعتراف بدين او اية حجة أخرى تهدف إلى إثبات وجود الالتزام أو التحلل منه [67] .
و انطلاقا مما سبق و عند توافر كافة الشروط السالفة الذكر يترتب عن دفع المستحق الاثار الاتية :
الفقرة الثانية :دعوى دفع غيرالمستحق
متى تحققت شروط دفع غير المستحق ، ينشا حق لمصلحة الموفي في أن يسترد ما دفعه عن طريق دعوى استرداد غير المستحق .و يلتزم بالرد حتى في الحالة التي يكون فيها الوفاء مبنيا على سبب مخالف للقانون أو للأخلاق الحميدة [68] .
و هذا ما أشار إليه الفصل 72 من ق.ل.ع بقوله : ” لا يجوز استرداد ما دفع لسبب مخالف للقانون أو للنظام العام أو للأخلاق الحميدة “.
و للخوض في هذه الآثار المترتبة عن دفع غير المستحق سنتعرض لها و باختصار لأننا سبق و إن أوردناها في المبحث المتعلق بالآثار المترتبة عن الإثراء بلا سبب لأنها هي بحد ذاتها لأثار المترتبة عن دفع غير المستحق .
و للإشارة فقط سنعرض للاتي : مدى الاسترداد و تأثره بحسن أو سوء نية المثري (أولا) ، و حالات سقوط هذه الدعوى في حالات خاصة ثانيا)
أولا : مدى الاسترداد و تأثره بحسن أو سوء نية المثري :
يجب على من تسلم غير المستحق أن يرد ما تسلمه على انع ينبغي التفرقة بين ما إذا كان المدفوع له حسن النية أو سيء النية ، وذلك تطبيقا لنص الفصل 75 من ق.ل.ع [69] . ويكون المثري حسن النية إذا كان لا يعلم انه يتسلم مالا او شيئا غير مستحق له. و يفترض في المدفوع له حسن النية و المدعي إثبات العكس [70].
و بهذا فان الاسترداد يختلف بحيث ما إذا كان المدفوع له حسن النية او سيء النية .
و قد نصت المادة 30 من القانون المدني الأردني بأنه :” على المحكمة أن تلتزم قبض شيئا بغير حق أن يرده إلى صاحبه ، ولها علاوة على ذلك أن تأمر برد ما جناه القابض من مكاسب أو منافع ، و لها أيضا تعويض صاحب الحق لقاء ما قصر القابض في جنيه “.
و الملاحظ من خلال هذه المادة التي أوردها المشرع الأردني انه لم يفرق فيما إذا كان المدفوع له الذي يحق له رد ما قبض حسن النية أو سيئها ،
و هذا عكس ما نص عليه المشرع المغربي في الفصل 75 من ق.ل.ع حيث ميز بين ما إذا كان المدفوع له حسن النية أو سيئها .
و قد يحصل أن يكون المدفوع له حسن النية عند التسلم تم يصبح فيما بعد سيء النية في الفترة ألاحقة للعلم [71] .
أي أن المدفوع له في بادئ الأمر يكون حسن النية باعتقاده أن ما دفع يصبح على علم بأنه كان مستحقا له ، و بمجرد رفع دعوى الاسترداد من قبل الدافع ، فانه يصبح على علم بأنه قد قبض ما ليس مستحقا له ، وفي هذه الحالة قد يبقى المدفوع له على حسن نية و يرد ما قبض دون حق ، او قد ينقلب عكس ذلك فيصبح سيء النية و يتمسك بما قبضه على أساس انه كان مستحقا له .
و المفروض أن المدفوع له حسن النية لا يكلف بإثبات حسن نيته ، و الدافع هو الذي عليه أن يثبت سوء نية المدفوع له إذا ادعى ذلك ويجوز إثبات حسن نية ، و الدافع هو الذي عليه أن يثبت سوء نية واقعة مادية [72] .
و عموما فان المثري حسن النية لا يلزم إلا برد ما تسلمه أو برد قيمته يوم تسلمه إياه و لا يضمن الهلاك أو التلف الحاصل بقوة قاهرة كما لا يسال الا في حدود ما عاد عليه من نفع و من تاريخ المطالبة .اما المدفوع له سيء النية فانه يضمن الهلاك الحاصل بقوة قاهرة من وقت تلقيه الشيء كما يلتزم برد الثمار و الزيادات و المنافع التي جناها و تلك التي قصر في جنيها من يوم تسلمه الشيء بغير حق او من يةم حصول الوفاء له [73] .
و هذا فيما يخوض المدفوع له الكامل الأهلية ، فما هو إذن حكم تناقص الأهلية ؟
إذا كان الدافع تشترط فيه الأهلية حتى لو انه لو دفع و هو غير أهل للوفاء فانه سيرد ما دفع ، فان المدفوع له لا يشترط فيه الأهلية في الأصل إذا ان التزامه بالرد لا يقوم على إرادته ، بل هو التزام قوامه قاعدة الإثراء بلا سبب على ما قدمنا ، غيران المدفوع له إذا كان ناقص الأهلية بان كان قاصرا أو محجورا عليه ، عوامل برعاية اكبر من الرعاية التي يعامل بها كامل الأهلية نظرا انقص أهليته ، فهو لا يلتزم برد ما أخد إلا في حدود ما انتفع فعلا [74] .
ثانيا : سقوط دعوى الاسترداد في الأحوال التالية .
أ – اذا كان الموفى له غير ملزم بالرد إذا كان و بحسن النية قد تجرد من سند الدين كما لوا تلف أو أبطله ، أو تجرد من تأمينات دينه او ترك دعواه ضد المدين الحقيقي تتقادم [75] . ويلزم المدين الحقيقي في هده الخالة بتعويض الغير الذي قام بالوفاء[76] .
و هكذا فانه اذا ما توافرت هده الشروط فان دعوى المدعي تسقط ، وفي هده الحالة لا يبقى له سوى المطالبة بما دفعه في مواجهة الموفى له ، و لكن في مواجهة المدين الحقيقي .
ب – يسقط الحق في الاسترداد بالتقادم بمضي خمس عشرة سنة وفق ما ينص الفصل 387 ق.ل.ع الذي ينص : كل الدعاوى الناشئة عن الالتزام تتقادم بخمس عشرة سنة فيما عدا الاستثناءات الواردة فيما بعد و الاستثناءات التي يقضي بها القانون في حالات خاصة .
و قد نصت أيضا المادة 178من القانون المدني المصري على انه : تسقط دعوى استرداد ما دفع بغير حق بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي يعلم فيه من دفع غير المستحق بحقه في الاسترداد، و تسقط الدعوى كذلك في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من اليوم الذي ينشا فيه هذا الحق
و مدة ثلاث سنوات هده تسري من اليوم الذي يعلم فيه الدافع بحقه في الاسترداد فلا يبدأ سريان التقادم هنا م يوم قيام الالتزام في ذمة المدفوع له ، بل من اليوم الذي علم فيه الدافع بأنه دفع دينا غير مستحق عليه [77] .
و بناء عليه فان الحق في الاسترداد يسقط بالتقادم بانقضاء اقصر المدتين ، اما بانقضاء ثلاث سنوات تسرى من اليوم الذي يعلم فيه الدافع بحقه في الاسترداد أو بانقضاء خمس عشرة سنة من يوم قيام الالتزام [78] .
المطلب الثاني : الفضالة
تعد الفضالة تطبيقا من تطبيقات الإثراء بلا سبب و قد نظمها المشرع المغربي في قانون الالتزامات و العقود في الباب الخامس من القسم السادس و خصصها بالفصول من 943 إلى 958 .
و قد عرفها الفصل 943 بقوله :” إذا باشر شخص ، باختياره أو بحكم الضرورة شؤون احد من الغير في غيابه أو بدون علمه ، و بدون ان يرخص له في ذلك منه أو من القاضي ، قامت هناك علاقة قانونية مماثلة للعلاقة الناشئة عن الوكالة ….” [79] .
فيما عرفها القانون المدني المصري في المادة 188 التي نصت على أن :” الفضالة هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشان عاجل لحساب شخص أخر دون أن يكون ملزما بذلك[80].
و عموما فالفضالة يقصد بها في هدا المقام أن يتولى شخص عن قصد القيام بشان عاجل لحساب شخص أخر دون أن يكون ملزما بذلك كأن يقوم شخص بجني محصول ارض جاره المسافر ،ففي هده الحالة الفضولي يقوم بهذا العمل ليحقق منفعة لجاره ، مع انه يوجد إلزام قانوني يوجب عليه القيام بذلك [81] .
و سنتولى الحديث عن أركان الفضالة في الفقرة الأولى و أحكام الفضالة في الفقرة الثانية .
الفقرة الأولى: أركان الفضالة:
انطلاقا من الفصل 943 من قانون الالتزامات والعقود المغربي يتضح أنه لقيام الفضالة يتعين أن تتحقق ثلاثة أركان : ركن قانوني وركن مادي وركن معنوي على النحو الآتي :
أولا : الركن القانوني : وهو قيام الفضولي بشأن مستعجل لفائدة الغير لم يكن ملتزما به ولا منهي عنه. حيث يشترط في الركن القانوني للفضالة ألا يكون الفضولي إزاء الشأن العاجل الذي يقوم به ملتزما به أو موكلا فيه ولا منهي عنه، وهذا الركن هو الذي يحدد الموقف القانوني لكل من الفضولي ورب العمل من الشأن العاجل.[82]
ينبني على ذلك القول بأن تدخل الفضولي للقيام بالعمل إذا كان مرده التزام على عاتقه فهو ليس بفضولي سواء كان التزامه هذا بناء على عقد كما في الوكالة أو كان مرجعه نص القانون كالولي والوصي أو كان مصدره أمر القاضي كالحرس القضائي الذي يعينه القاضي على الشيء المتنازع عليه.[83]
ويتبين من ذلك أن من يتولى الشأن العاجل لرب العمل يجب حتي يكون فضوليا أن لا يكون ملتزما من قبل أن يقوم بهذا الشأن، لأنه إذا كان ملتزما به فهو ليس بفضولي يتبرع بالعمل لمصلحة الغير بل هو مدين يقوم بالتزامه نحو الدائن[84].
وغالب الأحيان أن الفضالة تتحقق ورب العمل لا يعلم بأن الفضولي قد تولى شأنا مستعجلا يعود له.
لكن قد يحصل أن رب العمل قد يكون على علم أو يخبر بأن أحد من الغير قد تولى شأنا من شؤونه المستعجلة فيقره على ذلك.
فهنا يصبح الفضولي بمثابة وكيل وهذا ما نص عليه الفصل 958 من ق.ل.ع بقوله : “إذا أقر رب العمل صراحة أو دلالة ما فعله الفضولي فإن الحقوق والالتزامات الناشئة بين الطرفين تخضع لأحكام الوكالة ابتداء من مباشرة العمل، أما في مواجهة الغير فلا يكون للإقرار أثر إلا ابتداء من وقت حصوله”.
لكن رب العمل إذا نهى الفضولي عن القيام بالعمل فيجب أن يمتنع عن ذلك وإلا أصبح مسؤولا عما يلحقه من ضرر حتى ولو لم يصدر منه أي خطأ يمكن يعزى إليه وذلك وفقا للفصل 947 من ق.ل.ع.[85]
إلا أن المشرع المغربي في الفصل 948 أقر حالتين لا يمكن معهما الاحتجاج بمخالفة رغبة رب العمل وذلك إذا اضطر الفضولي أن يعمل على وجه السرعة ما يقتضيه :
1- الوفاء بالتزام يتحمل به رب العمل ويتطلب الصالح العام تنفيذه.
2- الوفاء بالتزام قانوني بالنفقة أو بالمصروفات الجنائزية أو بالتزامات أخرى من نفس طبيعتها.
ولكن ما الحكم إذا كان رب العمل لم يدع الغير إلى التدخل في شأن من شؤونه ولم يمنعه ذلك ؟ الحكم أنه إذا وقف رب العمل من الغير المتدخل موقفا سلبيا اعتبر المتدخل فضوليا، وعليه فإن الفضالة تتحقق في إحدى الحالتين:
– إذا كان رب العمل لا يعلم بتدخل الفضولي.
– إذا كان رب العمل يعلم بتدخل الغير ولكنه يتخذ موقفا سلبيا لا يدعوه إلى العمل ولا ينهاه عنه.[86]
ثانيا : الركن المادي : إتيان الفضولي لشأن مستعجل لفائدة رب العمل والشأن أو العمل المقصود يتعين أن يكون عاجلا، سواء كان تصرفا قانونيا أو عملا ماديا.
1- التصرف القانوني: يصح أن يكون الفضولي وكيلا في الأصل عن رب العمل ولكنه يجاوز حدود الوكالة عالما بذلك أو غير عالم فهو فيما جاوز فيه هذه الحدود فضولي، أو يستمر في العمل باسم الأصيل بعد انتهاء الوكالة سواء علم بانتهاء الوكالة أو لم يعلم فهو فضولي فيما قام به بعد انتهاء وكالته.[87]
وقد يعمل الفضولي دون وكالة أصل فيقوم بتصرف قانوني باسم رب العمل، كأن يقبل هبة من الواهب إلى رب العمل أو أن يؤجر عينا شائعة بينه وبين رب العمل أو يبيع محاصيل زراعية لرب العمل مخافة التلف. وبالتالي يصبح في حكم الوكيل عن رب العمل وهي وكالة قانونية وليست اتفاقية فينصرف أثر التصرف الذي قام به الفضولي مباشرة إلى ذمة الأصيل.[88]
2- العمل المادي: لما كانت الفضالة تطبيقا من التطبيقات الخاصة لنظرية الإثراء بلا سبب جاز أن يقوم الفضولي بعمل مادي كما يقوم بالتصرف القانوني وبهذا تختلف الفضالة عن الوكالة.
– والعمل المادي الذي يقوم به الفضولي قد يكون عملا ماديا بالنسبة إلى رب العمل كما إذا تعاقد الفضولي مع مقاول لإصلاح منزل لرب العمل من خلل يتهدده بالسقوط والانهيار فهذا يعتبر تصرفا قانونيا فيما بينه وبين المقاول لكنه يعتبر عملا ماديا بالنسبة لرب العمل.
وفي هذه الحالة إذا تعاقد الفضولي باسمه الشخصي اشترط فيه الأهلية الواجب في التصرفات القانونية لأن العقد تنصرف آثاره إليه. أما إذا تعاقد بالنيابة عن رب العمل فيكفي أن يكون مميزا لأن آثار العقد تنصرف إلى الغير.[89]
– أو قد يكون عملا ماديا في ذاته، كأن يطفئ حريقا اشتعل في منزل لرب العمل أو أن يقيد رهنا لمصلحة رب العمل وما إلى ذلك من الأعمال المادية التي تكون من الشؤون العاجلة لرب العمل، وغني عن البيان أن هذه الأعمال المادية تثبت بجميع الطرق ويدخل في ذلك البينة والقرائن.[90]
ولقيام الفضالة لا يكفي أن يكون التصرف القانوني أو العمل المادي نافعا فقط بل وأن يكون ضروريا ومن الشؤون العاجلة لرب العمل والتي ما كان هذا الأخير ليتوانى في القيام بها فقام بها الفضولي ناظرا إلى مصلحة رب العمل.
ثالثا : الركن المعنوي : قصد الفضولي العمل لفائدة الغير.
إن الركن المعنوي هو الذي يميز الفضالة على الإثراء بلا سبب، ويقصد بالركن المعنوي أن تنصرف نية الفضولي وهو يتولى شأنا للغير أن يتولى هذا الشأن لمصلحة رب العمل وذلك إما أن يكون على علم بالأمر وإما أن لا يعلم شيئا.
ولذلك فإنه يتعين لتحقق الفضالة أن يكون الفضولي على بينة من الأمر وهو يعمل لمصلحة رب العمل أما إذا كان العمل لمصلحة نفسه فإنه لا يعتبر كذلك حتى ولو عاد تدخله على الغير بالنفع أو الفائدة.
والفضالة تتحقق أيضا حتى ولو تولى الفضولي شأن نفسه وشأن غيره في آن واحد وكان لا يمكن بحال فصله أحد العملين عن الآخر، ما دام يعي ما قام به.[91]
أما في حالة قيام الفضولي بعمل للغير من غير بينة منه فإنه تنتفي عنه صفة الفضولي ولو اكتشف بعد ذلك أنه يعمل لمصلحة غيره وبالتالي فعليه الرجوع بدعوى الإثراء بلا سبب.
الفقرة الثانية : أحكام الفضالة
تحدثنا في الفقرة الأولى عن الأركان الأزمة لتحقق الفضالة ، قادا ما وجدت هده الأركان ، فمعنى دلك إن هناك التزامات ترتبت على طرفي الفضالة و هما الفضولي ( اولا) و رب العمل ثانيا .
أولا التزامات الفضولي :
تتحدد التزامات الفضولي كما تناولها قانون الالتزامات و العقود المغربي في الأتي :
الالتزام الأول : مضي الفضولي في العمل الذي بدأه إلى أن يتمكن رب العمل من الاستمرار فيه بنفسه .
و ينص على هذا الالتزام الفصل 944 من ق.ل.ع [92] .ولا ريب أن هدا الالتزام تقتضيه العدالة فطالما أن الفضولي قد قام بعمل لم يطلب منه ولا يوجد التزام يفرض عليه القيام به و بالرغم من دلك تدخل في شؤون غيره و قام بالعمل فان الأمانة و الجد توجب عليه أن يستمر في هدا العمل حتى يأتي صاحبه و يباشره بنفسه و يخطى به صاحبه أن تيسر له ذلك [93] .
2 – الالتزام الثاني : إخطار الفضولي رب العمل :
لم ينص قانون الالتزامات و العقود المغربي على هذا الالتزام فان الفقه [94] .
يرى بضرورة التزام الفضولي بإخطار رب العمل متى استطاع إلى ذلك سبيلا ليتمكن من تدبير أمره بنفسه ، و هذا على عكس القانون المدني المصري الذي ينص على هدا الالتزام في المادة 191 منه [95] .
3 – الالتزام الثالث : بدل الفضولي عناية الشخص الحازم الضابط لشؤون نفسه :
و هدا ما نص عليه الفصل 945 من ق.ل.ع [96] حيث ألزم الفضولي ببدل عناية الشخص العادي الحازم فهو غير ملزم بتحقيق نتيجة و ذلك وفق رغبة رب العمل المعروفة منه أو المفترضة ، و هو معيار شخصي و ليس معيار موضوعيا قد يفتح الباب لكثير من النزاعات ، قد تعرض الفضولي إلى المساءلة .[97]
والفضولي كما قد يسأل عن خطئه ولو كان يسيرا، فإن تدخله بقصد دفع ضرر حال وكبير كان يهدد رب العمل أو بقصد إتمام واجبات وكالة كانت لموروثه فإنه لا يسأل إلا عن تدليسه أو خطئه الفاحش[98].
4) الالتزام الرابع: تقديم الفضولي الحساب إلى رب العمل ورد ما تسلمه نتيجة العمل :
والفضولي حينما يقوم بهذا الالتزام إنما يكون بمثابة الوكيل[99]، ومن ثم فهو يلتزم بما يقع على الوكيل في هذا الشأن من حفاظه على ما تحت يده وتقديم حساب على أعماله، وإذا كان قد باع شيئا لرب العمل فعليه أن يرد كل ما تسلمه في هذا الصدد وبالتالي تنطبق عليه التزامات الوكيل المنصوص عليها في الفصل 908 من ق.ل.ع.
ومما تجدر الإشارة إليه أن موت الفضولي ينهي الفضالة وتخضع التزامات ورثته لأحكام الفصل 941 التي تنص على حكم موت الوكيل وعلى التزامات ورثته.
ثانيا : التزامات رب العمل :
لقد حدد الفصل 949 من ق.ل.ع. التزامات رب العمل وهي كالآتي:
1) الالتزام الأول : أن يتحمل مباشرة الالتزامات التي تعاقد عليها الفضولي لحسابه : إن أثر التصرفات التي قام بها الفضولي تنصرف مباشرة إلى رب العمل حقوقا أو التزامات، فيصبح هذا الأخير دائنا بالحقوق ومدينا بالالتزامات ومن ثم كان على رب العمل أن ينفذ الالتزامات التي نجمت عن هذه التصرفات[100].
2) الالتزام الثاني : أن يعوض الفضولي عن تعهداته الشخصية لحساب رب العمل. فقد يحدث أن يتعاقد الفضولي لمصلحة رب العمل ولكن باسمه هو شخصيا، كأن ينفق مع مقاول على إصلاح منزل رب العمل، فطالما أن الفضولي قد تعاقد باسمه فإن أثر التصرف ينصرف إليه، فيصبح هو دائنا بالحقوق ومدينا بالالتزامات الناجمة عن هذا العقد، فإذا وفى هذه الالتزامات للمقاول مثل كان له أن يرجع بها على رب العمل[101].
3) الالتزام الثالث: رد النفقات الضرورية والنافعة.
والالتزام برد النفقات الضرورية والنافعة يقع على رب العمل شريطة ألا يكون مبالغا فيها من قبل الفضولي، مضافا إليها فوائدها من يوم دفعها.
4) الالتزام الرابع: تعويض الفضولي عن الخسائر التي تحملها.
قد يلحق الفضولي ضرر أثناء قيامه بالعمل، يطفئ حريقا فيتلف أمتعة مملوكة له فإذا كان الضرر الذي أصابه لم يكن بإمكانه أن يتوقاه فإنه يدخل ضمن التكاليف التي تجشمها أثناء القيام بعمله ويكون من حقه أن يرجع على رب العمل بتعويض عنه[102].
وإذا كان العمل مشتركا بين عدة أشخاص، التزم هؤلاء تجاه الفضولي بنسبة مصلحة كل منهم فيه.
وتجدر الإشارة إلى أن وفاة رب العمل لا تؤثر على قيام حقوق الفضولي تجاه الورثة إذ أن الفضولي يظل كذلك بالنسبة للورثة كما كان بالنسبة لمورثهم[103].
على عكس إذا مات الفضولي فعندئذ تنقضي الفضالة طبقا للفصل 957 من ق.ل.ع.
خاتمة
يتضح من خلال هذه الدراسة أن نظرية الإثراء بلا سبب قد اختلفت طريقة اعتمادها في معظم التشريعات ، فمنها من اعتبرها أساسا ثانويا للالتزامات و أخرى صنفتها كمصدر من مصادر الالتزام .
أما المشرع المغربي فقد تناول نظرية الإثراء بلا سبب بطريقة خاصة في الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الأول تحت عنوان الالتزامات الناشئة عن أشباه العقود و نظمها إلى جانب دفع غير المستحق فيما تناول الفضالة في الباب الخامس من القسم السادس من الكتاب الثاني تحت عنوان أشباه العقود المنزلة منزلة الوكالة في حين انه كان من الأجدر أن يفرد لها أحكاما خاصة بها كمصدر مستقل للالتزام ، خصوصا على أساس اعتبار دفع غير المستحق إلى جانب الفضالة يعدان أهم تطبيقات الإثراء بلا سبب.
أما من الناحية العملية فيلاحظ قلة وندرة الأحكام الصادرة في موضوع الإثراء بلا سبب و تطبيقاته ، حيث أنه كثيرا ما تنصب منازعات المتقاضين حول طلب التعويض لما يصيبهم من ضرر جراء الأفعال الضارة لاسيما المسؤولية التقصيرية ، أما الأفعال النافعة فنادرا ما يطلبون والتعويض عنها.
اترك تعليقاً