دراسة وبحث قانوني شامل عن القانون الدولي العام ..
في دراستنا للنظرية العامة للقانون رأينا أن القانون من حيث الموضوع ينقسم إلى قانون خاص وقانون عام .
والقانون العام ينقسم من حيث مجال التطبيق إلى قانون عام داخلي وقانون عام خارجي.
والقانون العام الخارجي هو ما يصطلح على تسميته بالقانون الدولي العام.
والقانون الدولي العام من أكثر فروع القانون تطورا من حيث الأشخاص
المخاطبين بأحكامه , ومن حيث مجالاته ومن ناحية الموضوعات التي ينظمها .
تعريف القانون الدولي العام
لم يتفق الفقه القانوني الدولي على تعريف موحد للقانون الدولي وذلك تبعا للاختلاف حول تحديد الأشخاص المخاطبين بأحكامه.
فالقانون الدولي وفقا للتعريف التقليدي هو مجموعة القواعد القانونية التي تحدد حقوق الدول واجباتها في علاقاتها المتبادلة.
ووفقا لهذا التعريف فإن الدول فقط هي التي تعتبر من أشخاص القانون الدولي.
وبالنسبة للفقهاء الذين يعتبرون الفرد الطبيعي هو الشخص الوحيد المخاطب بأحكام القانون , إن القانون الدولي العام هو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات بين أفراد الجماعات المختلفة.
والتعريف الفقهي المعاصر للقانون الدولي هو ذلك الذي يوسع من نطاق الأشخاص المخاطبين بأحكامه ولا يعتبر الأفراد من أشخاصه بصفة مباشرة, وتبعا لذلك فإن القانون الدولي العام هو مجموعه القواعد القانونية التي تحكم العلاقات فيما بين أعضاء المجتمع الدولي.
والمجتمع الدولي لا يتكون من الدول فقط وإنما يشمل المنظمات الدولية وبعض الكيانات الأخرى.
والقانون الدولي وفقا لما سبق تتسم قواعده بذات الخصائص التي تتصف بها قواعد القانـون بصفة عامة , بمعنى أنها قواعد عامة ومجردة ,وأنها قواعد سلوك, وأنها قواعــد ملزمة.
* إلزامية قواعد القانون الدولي العام,
لقد ذهب اتجاه فقهي إلى القول بعدم تصور وجود قانون يحكم العلاقات بين دول ذات سيادة باعتبار أن القانون هو أوامر ونواهي, تصدرها سلطة ولا وجود لمثل هذه السلطة في المجتمع الدولي , ويبقى خضوع الدول لقواعد القانون الدولي مرهونا بإرادة هذه الدول.
إن هذا القول يجانب الحقيقة ذلك أن قياس المجتمع الدولي بالمجتمعات الوطنية قياس مع لفارق فهذه المجتمعات مرت بعدة صور تنظيمية عبر مراحل تكوينها قبل أن تصل إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر.
وفيما يتعلق بالجزاء في القانون الدولي العام فله عدة صور منها ما يماثلها في القوانين الداخلية ومنه ما هو خاص بالقانون الدولي العام.
فالبطلان نظام مقرر في القانون الدولي يطبق على المعاهدات الدولية التي تبرم بطريقة غير صحيحة,ونظام المسؤولية الدولية مستقر في النظام القانوني الدولي لإصلاح الأضرار الناشئة عن الفعل عير المشروع دوليا…………..الخ.
وهناك صور أخرى للجزاء في القانون الدولي غير معروفة في النظام القانوني الوطني مثل قطع العلاقات الدبلوماسية وفرض العقوبات الاقتصادية والحرمان من العضوية في المنظمة الدولية………..الخ.
وقد تطور القانون الدولي فيما يتعلق بالجزاء ففي سنوات العشرية الأخيرة من القرن العشرين شهدت الجماعة الدولية معاقبة قادة بعض الدول عن الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية في إطار المحكمة الجزائية الدولية.
وصفة الالتزام هذه هي التي تميز قواعد القانون الدولي العام عن قواعد الأخلاق الدولية وقواعد المجاملات الدولية .
فمخالفة قواعد القانون الدولي تترتب عنها المسؤولية الدولية, بينما عدم الامتثال لقواعد المجاملات الدولية قد يعتبر عملا غير ودي من شأنه أن يعكر صفو العلاقات الدولية لا غير.
أساس القانون الدولي العام
على الرغم من إجماع فقهاء القانون الدولي على قانونية قواعد هذا القانون بمعنى تمتعها بالصفة الإلزامية إلا انهم اختلفوا في تحديد أساس إلزام قواعـد القانون الدولي العام .وانقسم فقهاء القانون الدولي بشأن قضية أساس إلزام القانون الدولي إلى مذهبين رئيسيين هما المذهب الإرادي و المذهب الموضوعي.
1 المذهب الإرادي ؛
يتمحور أساس القانون الدولي وفقا للمذهب الإرادي في الإرادة ,فالإدارة هي التي تخلق القانون و تضفي عليه صفة الإلزام.
ولذلك فان إرادة الدولة هي أساس القوة الملزمة للقانون الداخلي و إرادة الدولة هي أساس الإلزام بالنسبة للقانون الدولي العام.
وأنصار المذهب الإرادي بدورهم اختلفوا في تحديد المقصود بالإرادة التي تعتبر أساس إلزام القواعد القانونية الدولية وقد تجلى هذا الاختلاف في نظريتين,
1 نظرية التقييد الذاتي للإدارة المنفردة ؛
وفقا لهذه النظرية فان الدولة في علاقاتها الدولية لا تعلوها سلطة أخرى فوقها يمكن أن تفرض عليها الالتزام بقواعد القانون الدولي , فالدولة تتمتع بسيادة مطلقة ولذلك فان التزامها بقواعد القانون الدولي يكون باختيارها من دون إكراه أي أن الدولة هي التي تقيد إرادتها بنفسها وتلتزم بقواعد القانون الدولي ,فالقانون الدولي ما هو إلا قانون الدولة الذي يهتم بقضاياها الخارجية.
وقد تعرضت هذه النظرية إلى النقد الشديد فإذا كان الهدف من القانون هو تقييد الإرادة , فكيف يمكن القول بأن هذا القانون يجد أساسه في الإدارة.
ومنطق كهذا يؤدي إلى هدم القانون الدولي فإذا كانت الدولة تلتزم بقواعده بمحض إرادتها فلها أن تتحرر من هذا الالتزام متى وآن شاءت بذات الإدارة.
والقاعدة القانونية وفقا لمنطق هذه النظرية أسيرة مصالح وأهواء الدولة .
2 نظرية الإرادة المتحدة للدول :
وفقا لهذه النظرية فان الإرادة هي أساس الصفة الملزمة لقواعد القانون الدولي وهذه الإرادة تكمن في الإرادة المشتركة الجماعية الناتجة عن اتحاد إرادات مختلف الدول.
وان كانت هذه النظرية تصدق في تفسير الالتزام بقواعد القانون الدولي التي يكون مصدرها المعاهدات الدولية فإنها لا تستطيع تفسير الالتزام بقواعد القانون الدولي من مصادر أخرى كالمبادئ العامة للقانون وقرارات المنظمات الدولية .
وهذه النظرية تعرضت لنقد مشابه لما تعرضت له سابقتها حيث تؤدي بدورها إلى ضعف وعدم استقرار قواعد القانون الدولي وذلك بعدم وجود ضمانات تحول دون انسحاب الدول من الإرادة المتحدة التي سبق وأن اشتركت في تكوينها.
ومن ناحية أخرى فإن هذه النظرية تؤدي إلى وجود أنظمة قانونية دولية متعددة حيث كل معاهدة لها كيان مستقل عن المعاهدات الأخرى .
2 المذهب الموضوعي :
هذا المذهب يبحث في أساس القوة الملزمة لقواعد القانون الدولي خارج إرادة الدول سواء كانت إرادة منفردة مقيدة أو إرادة جماعيـة مشتركة وهذا المذهب الموضوعي يتمثل في مدرستين:
1ـ المدرسة القاعدية النمساوية.
ـــــــــــــ ـ تسمى هذه المدرسة بهذا الاسم نسبة لمؤسسيها الفقيهين النمساويين هانس كلسن و فيردروس.
ويطلق إليها وصف القاعدية لأنها اعتمدت على القاعدة القانونية دون الاعتبارات الأخرى.
وتنطلق هذه المدرسة في بحثها عن أساس القانون الدولي إلى اعتبار القانون هيكل هرمي من القواعد ،تستمد كل قاعدة إلزاميتها من القاعدة التي تعلوها.
أي أن القواعد القانونية تتدرج في قوتها هرميا من القاعدة إلى قمة الهرم الذي يتكون من قاعدة المتعاقد عبد تعاقده , وهذه القاعدة هي أساس القوة الملزمة لقواعد القانون الدولي.
وما يؤخذ على هذه النظرية أنها حاولت تأسيس الإلزام في قواعد القانون الدولي على محض الافتراض .
المدرسة الاجتماعية
ويطلق على هذه المدرسة وصف المدرسة الفرنسية نسبة إلى الفقيهين ليون ديجي و جورج سل.
وتنطلق هذه المدرسة في البحث عن أساس القانون الدولي من خلال نظرتها للقانون والذي هو مجرد حدث أو واقع اجتماعي يفرض الشعور بالتضامن الاجتماعي الذي لا تستطيع الجماعة الاستمرار من غيره .
ويؤخذ على هذه النظرية بدورها أنها تحاول تأسيس أساس إلزام قواعد القانونالدولي على فكرة غير محدودة وهي فكرة التضامن الاجتماعي .
لذلك حاول بعض القائلين بالنظرية الاجتماعية تأسيس إلزام القانون الدولي على فكرة الضرورة الاجتماعية .
العلاقة بين القانون الدولي العام والقانون الداخلي
يعالج الفقه الدولي هذه القضية في إطار نظريتين :
1ـ نظرية الثنائية :
تفيد هذه النظرية بأن كلاّ من القانون الدولي والقانون الوطني مستقل عن الأخر
ومنفصل عنه ولكل منهما مجاله الخاص به بمعنى أنه لا يطبق أحدهما في
مجال الأخر.
ويتزعم هذه النظرية “المدرسة” الفقيهان/ انزلوتي وتريبل/ وهما من أنصار المذهب الإرادي في تحديد طبيعة قواعد القانون الدولي .
ويستند أصحاب هذه النظرية “نظرية الثنائية” إلى عدة أسانيد لتبرير ما ذهبوا إليه من عدم وجود علاقة مباشرة بين القانون الدولي والقانون الداخلي حيث كل منهما مستقل عن الأخر،ومنها:
ـ اختلاف مصادر القانونين , فالقانون الوطني مصدره الإرادة المنفردة للدولة حيث هي التي تقوم بالتشريع من خلال سلطتها التشريعية , بينما مصدر القانون الدولي يتمثل في الإرادة المشتركة لمجموعة من الدول .
ـ اختلاف البناء القانوني في كل من المجتمع الدولي والمجتمعات الوطنية , ذلك أن الأجهزة المختصة بتشريع وتنفيذ وتطبيق القانون محددة في ظل النظام القانوني الوطني وليست كذلك في إطار النظام القانوني الدولي .
ـ اختلاف المخاطبين بأحكام القانون في كل من القانونين ,فالقانون الدولي لا يخاطب إلاّ الدول في حين القانون الوطني يخاطب الأفراد.
وهنالك عدة نتائج تترتب على الأخذ بنظرية الثنائية:
ـ بما أن الدولة تقوم بوضع القانون الداخلي وتشترك في وضع القانون الدولي وإن كانت تلتزم بأحكام القانون الدولي إلاّ أنه إذا حدث وان وضعت قانونا داخليا يتعارض مع القانون الدولي الذي سبق لها الالتزام به فان مثل هذا القانون سيبقى صحيحا وأقصى ما يمكن أن تتعرض له الدولة في هذه الحالة هو تحملها المسؤولية الدولية .
ـ تطبيق قواعد القانون الدولي في المجال الداخلي يكون من خلال عمليي الاستقبال والاندماج أي أن القاعدة القانونية الدولية لا تطبق في إقليم الدولة إلا إذا تم تحويلها عن طريق الأجهزة المختصة إلى قاعدة داخلية كأن تصدر في شكل قانون أو مرسوم….الخ.
وفي هذه الحالة تطبق القاعدة القانونية الدولية في المجال الوطني باعتبارها قاعدة قانونية وطنية , وبالتالي تخضع للأحكام التي تحكم القانون الوطني كأن تكون غير متعارضة مع قواعد الدستور مثلا .
ـ عدم قيام تنازع بين القانونين لأن كلا منهما مستقل عن الأخر ومنفصل عنه وإن كانت علاقة بينهما,فهي تلك التي تتم في ظل فكرة الإحالة ,كأن يحيل أحد القانونين مهمة الفصل في قضية معينة إلى القانون الأخر.
تقييم نظرية الثنائية :
ـ عدم صحة القول باختلاف مصادر القانونين ,فالقانون هو ثمرة الحياة الاجتماعية سواء للقانون الدولي أو القانون الداخلي.
كما أن القول بأن مصادر القانون الدولي تتمثل في الإرادة المشتركة بينما مصدر القانون الداخلي يتمثل في الإرادة المنفردة للدولة قول من شأنه حصر مصادر هذا القانون في التشريع فقط ـ الذي من خلاله تتجلى إرادة الدولةـ وإهمال مصادر القانون الأخرى, وحصر مصادر القانون الدولي في المعاهدات الدولية فقط .
وهذا الطرح يجانب الحقيقة ,ذلك أن مصادر القانون الدولي مثلها مثل مصادر القانون الداخلي متعددة كما سنرى في الفصول الآتية من هذه الدراسة.
ومن جهة أخرى فإنه حتى لو سلمنا جدلا باختلاف مصادر القانونين فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى اختلاف القانونين عن بعضهما .
ـ عدم وجاهة القول باختلاف المخاطبين بأحكام القانونين, حيث الدولة هي المخاطب بأحكام القانون الدولي في حين أن الأفراد هم المخاطبون بأحكام القانون الداخلي.
ذلك أن القانون الداخلي إضافة إلى الأفراد فإنه يخاطب كذلك الدولة , وذلك بالنسبة لفروع القانون العام كالقانون الدستوري والقانون الإداري والمالي,كما أن الدولة في حقيقة الأمر هي مجموعة أفراد.
ـ فيما يتعلق بالاستناد إلى اختلاف البناء القانوني في كل من المجتمع الدولي والمجتمعات الداخلية كمبرر للقول باختلاف القانونين وانفصالهما عن بعضهما فإنه قياس مع الفارق ذلك أن المجتمع الدولي حديث النشأة مقارنة بالمجتمعات الداخلية, كما أن هذا الاختلاف مجرد اختلاف شكلي لا غير وهو نتيجة لطبيعة المجتمعين .
2ـ نظرية الوحدة:
تنطلق هذه النظرية في تحديد العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي من إعطاء مفهوم موحد للقانون, فالقانون بالنسبة لأنصار هذه النظرية هو عبارة عن كتلة واحدة من المبادئ تحكم مجموع النشاطات الاجتماعية , والقانونان الدولي والداخلي فرعان يجمعهما أصل واحد ولذلك لا يمكن تصور أي انفصال بينهما واستقلالهما عن بعضهما ماداما ينتميان إلى أصل واحد .
ومادام الأمر كذلك فإن التنازع والتعارض بينهما أمر وارد وممكن, والقضية التي تثار في هذه الحالة هي كيفية حل هذا التنازع والذي لا يتم إلا بالأخذ بأحد القانونين وإهدار قواعد القانون الأخر .
وبمعنى أخر هل تسمو قواعد أحد القانونين على قواعد القانون الأخر؟لقد اختلف أنصار هذه النظرية حول هذه القضية وذهبوا في اتجاهين:
1 ـ الاتجاه الفقهي القائل بسمو القانون الداخلي على القانون الدولي:
يستند هذا الاتجاه الفقهي إلى عدة حجج لتبرير القول بسمو القانون الداخلي على القانـون الدولي ومنها:
ـإن الدولة سابقة في الوجود على الجماعة الدولية ، والقانون الداخلي تعبير عنهاـ الدستورـ وهذا القانون هو الذي يحدد اختصاصاتها الخارجية في إطار علاقاتها الدولية , وهذا يعني أن القانون الدولي ـ قانون العلاقات الخارجية مشتق من القانون الداخلي وتبعا لذلك فإن القانون الوطني يسمو على القانون الدولي فالدولة دائما تستند إلى دستورها وهو قانون داخلي لإبرام المعاهدات الدولية وهي قانون دولي.
ـ إن العلاقات الدولية تقوم على أساس مبدأ المساواة في السيادة بين الدول, وهذا يعني عدم وجود سلطة على الصعيد الدولي تعلو سلطات الدول ،ولذلك فالدول حرة في تحديد الالتزامات الدولية التي تلتزم بها , وهذا يعني أنه لا يوجد أي سمو للقانون الدولي على القانون الداخلي.
ويؤخذ على هذا الطرح القائل بسمو القانون الداخلي على القانون الدولي أنه لا يتماشى و الواقع ذلك أن التزامات الدولة الدولية لا تتأثر بتعديل أو إلغاء القانون الداخلي فنهاية الدساتير لا تؤدي إلى نهاية المعاهدات الدولية و من ناحية أخرى فإن الدولة عادة ما تتصرف في قانونها الداخلي لتحقيق المواءمة مع التزاماتها الدولية.
2 ـ الاتجاه القائل بسمو القانون الدولي على القانون الداخلي:
يتزعم هذا الاتجاه فقهاء المدرسة النمساوية وبعض الفقهاء الفرنسيين على نحو ما مر معنا في معرض دراستنا لأساس القانون الدولي العام .
وأنصار هذا الاتجاه اختلفوا في الحجج التي استندوا إليها للقول بسمو القانون الدولي على القانون الداخلي ,
بالنسبة لفقهاء المدرسة النمساوية يقررون بأن الاعتبارات العملية تفرض ضرورة الاعتراف بسمو القانون للدولي العام على القانون الداخلي ,ومن ناحية أخرى فإن قاعدة ـ المتعاقد عبد تعاقده ـ التي تعتبر قمة هرم البناء القانوني تنتمي إلى القانون الدولي العام.
أما بالنسبة لبقية أنصار هذا الاتجاه فيستندون إلى فكرة التفويض لتبرير القول بسمو القانون الدولي على القانون الداخلي ,بمعنى أن القانون الدولي هو الذي يحدد الحدود الإقليمية والشخصية لسيادة الدولة ,والدولة تشرع لرعاياها وفي حدود إقليمها , ولذا يبدو القانون الداخلي كقانون مشتق من القانون الدولي وأن هذا الأخير هو الذي فوض بإصداره.
وقد تعرضت نظرية الوحدة في تحديد العلاقة بين القانون الدولي العام والقانون الداخلي إلى عدة انتقادات ,فمن الناحية التاريخية فإن القانون الوطني ـ الداخلي ـأسبق في الوجود على
القانون الدولي وهذا يعني أنه لا يعقل أن يشتق الموجود من المولود , أو أن اللاحق يفوض السابق .
ومن الناحية الشكلية فإن قواعد القانون الداخلي لا تكون باطلة بصفة تلقائية لكونها تتعارض مع قواعد القانون الدولي , وإنما يكون إبطالها بذات الكيفية التي صدرت بها.
موقف القضاء الدولي:
إن القضاء الدولي يؤكد مبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي,ففي بداية العقد الثامن من القرن التاسع عشر ـ 1871 ـ أكدت هذا المبدأ محكمة التحكيم في قضية ـ الألاباما ـ بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
حيث أعلنت المحكمة أن نقص القوانين في بريطانيا لا يعفي السلطات البريطانية من الالتزام بقواعد القانون الدولي العرفية المتعلقة بنظام الحياد.
كما تأكد هذا المبدأ في قضاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي حيث ورد في رأيها الاستشاري المتعلق بقضية الجماعات اليونانية البلغارية سنة 1930 أن هناك مبدأ عام معترف به في القانون الدولي يفيد بأنه في علاقات الدول الأطراف في معاهدة لا تسمو نصوص القانون الداخلي على أحكام معاهدة .
وفي القضاء الدولي المعاصر قضت محكمة العدل الدولية بمبدأ سمو القانون الدولي العام على القانون الداخلي ,ففي رأيها الاستشاري الذي أصدرته في سنة 1988بشأن القضية المطروحة عليها بين منظمة الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية لما قرر الكونغرس وجوب غلق مقرات منظمة التحرير الفلسطينية بنيو يورك على اعتبار أنها منظمة إرهابية, خلافا لما التزمت به الولايات المتحدة الأمريكية بمقتضى اتفاقية المقر ورد ما يأتي:
إن المحكمة تذكر الولايات المتحدة الأمريكية بالمبدأ المستقر في القانون الدولي ألا وهو سمو القانون الدولي العام على القانون الداخلي ,هذا السمو الذي أكده القضاء الدولي وكانت الولايات المتحدة أول المستفيدين منه في قضية السفينة الألاباما .
مركز قواعد القانون الدولي في بعض دساتير الدول:
لقد أخذت بعض دساتير الدول بمبدأ تأهيل القاضي الوطني لتطبيق قواعد القانون الدولي العرفية من دون حاجة إلى إجراء خاص بشأنها فيما يتعلق بعمليتي الاستقبال والتحويل .
فدستور ألمانيا الاتحادية لسنة 1949 على سبيل المثال يعتبر قواعد القانون الدولي العام جزءا من القانون الداخلي الفدرالي ، والقاضي يملك رفض تطبيق القواعد القانونية المخالفة لقواعد القانون الدولي العام.
وذات الشيء تقريبا بالنسبة لدستور إيطاليا لسنة 1947 حيث ينص على وجوب مطابقة النظام القانوني الإيطالي لقواعد القانون الدولي العام .
وبالنسبة لدول مجموعة القانون العام ( الدول الأنجلوسكسونية) فإنها تعتبر العرف الدولي جزءا من القانون الداخلي تلتزم المحاكم بتطبيقه.
تطبيق المعاهدات في النظام القانوني الداخلي :
إن المتصفح لمعظم دساتير الدول يلاحظ أنها تتعاطى مع المعاهدات الدولية بطرق مختلفة ويمكن إبراز ذلك في اتجاهين:
1/ اتجاه يقر بأن المعاهدات الدولية التي تبرمها الدولة تأخذ حكم القانون الداخلي وتطبق مباشرة داخل إقليم الدولة.
ووفقا لهذا الاتجاه فإن المعاهدات الدولية لكي تصبح سارية في إطار النظام القانوني الداخلي قد تتطلب بعض الإجراءات البسيطة كنشرها في الجريدة الرسمية للدولة مثلا.
2/ اتجاه ثان يذهب إلى أن المعاهدات الدولية التي تبرمها الدولة يجب أن تدمج في النظام القانوني الداخلي بواسطة التشريع , وفي هذه الحالة فإن القاضي الوطني يطبق المعاهدة الدولية باعتبارها قواعد قانونية داخلية لا دولية.
ويبدو أن الدستور الجزائري الحالي قد أخذ بالاتجاه الأول وهذا ما يستفاد من نص المادة 132 والتي تنص على أن( المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور تسمو على القانون ).
مصادر القانون الدولي العام,
عادة ما يميز فقهاء القانون الدولي في معرض دراستهم لمصادر القانون الدولي بين المصادر المادية والمصادر الشكلية أو الرسمية ، والمقصود من دراستنا لهذه المصادر, المصادر الرسمية .
وفقهاء القانون الدولي في دراستهم لمصادر القانون الدولي يستندون إلى نص المادة38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية والتي تنص على ما يأتي:
1 ـ وظيفة المحكمة أن تفصل في المنازعات التي ترفع إليها وفقا لأحكام القانون الدولي وهي تطبق في هذا الشأن:
اـ الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترف بها صراحة من جانب الدول المتنازعة.
ب ـ العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
ج ـ مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة.
د ـ أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم , ويعتبر هذا أو ذاك مصدرا احتياطيا لقواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة
2ـ لا يترتب على النص المتقدم ذكره أي إخلال بما للمحكمة من سلطة الفصلفي القضية وفقا لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق أطراف الدعوى على ذلك .
وسندرس هذه المصادر تباعا فيما يأتي.
المعاهدات الدولية,
إن المعاهدات الدولية منظمة بعدة اتفاقيات دولية من أهمها:
ـ اتفاقية فيينا المتعلقة بقانون المعاهدات المبرمة بين الدول لسنة 1969 .
ـ اتفاقية فيينا المتعلقة بقانون المعاهدات المبرمة بين المنظمات الدولية أو بينها وبين الدول لسنة 1986.
ـ الاتفاقية المتعلقة بموضوع التوارث الدولي في مجال المعاهدات المبرمة سنة 1978.
ولأغراض هذه الدروس سنطلق مصطلح قانون المعاهدات على الأحكام الواردة في هذه الاتفاقيات.
ـ تعريف المعاهدات الدولية :
_ ورد في المادة الثانية من اتفاقية فيينا بشأن قانون المعاهدات لسنة 1969 أن ا لمعاهدة هي اتفاق دولي يتم بين دولتين أو أكثر كتابة و يخضع للقانون الدولي سواء تم في وثيقة واحدة أو أكثر و مهما كانت التسمية التي تطلق عليه.
ـ تعدد المصطلحات الدالّة على المعاهدة,
لقد حاولت المادة (02) من قانون المعاهدات تعريف المعاهدة من خلال تحديدها بغض اعن التسمية التي تطلق على المعاهدة فالمعاهدة لها عدّة مترادفات مثل ، الاتفاقية ، العهد ، الميثاق ، الاتفاق ، النظام ، البروتوكول، الموادعة ، المهادنة, التصريح ، تبادل الخطابات و المذكرات ، ……….و التعريف السابق للمعاهدات
الدولية يفيد بأنها تقوم على عناصر ثلاثة,
ـ المعاهدة اتفاق شكلي : يقصد بذلك أن المعاهدة تخضع في عملية إبرامها إلى إجراءات محددة بصفة عامة . كما أن المادة الثانية من قانون المعاهدات نصت على وجوب أن تكون المعاهدة مكتوبة في وثيقة أو عدّة وثائق وشرط الكتابة يطرح عدة تساؤلات حول ما إذا كان كشرط لصحة المعاهدة أم مجرد وسيلة لإثبات المعاهدة.
إن فقهاء القانون الدولي يذهبون إلى أنه ليس هناك ما يحول دون أن تتم المعاهدات بصفة شفوية , بمعنى أنها لا تستدعي الكتابة ويستدلون على ذلك برفع الراية البيضاء فيما بين المتحاربين كدليل على اتفاق وقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية بصفة مؤقتة .
ولكن إذا رجعنا إلى ميثاق منظمة الأمم المتحدة فإن المادة 102 منه تنص على الأتي:
(كل معاهدة وكل اتفاق دولي يعقده أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة بعد العمل بهذا الميثاق يجب أن يسجل في أمانة الهيئة وان تقوم بنشره بأسرع ما يمكن.
ليس لأي طرف في معاهدة أو اتفاق دولي لم يسجل وفقا للفقرة الأولى من هذه المادة أن يتمسك بتلك المعاهدة أو ذلك الاتفاق أمام أي فرع من فروع الأمم المتحدة).
فهذا النص يفيد أن اشتراط الكتابة للتسجيل لأن التسجيل يستدعي ذلك.
ـ المعاهدة الدولية اتفاق يبرم بين أشخاص القانون الدولي:
ومعنى هذا أن المعاهدة الدولية يجب أن تبرم بين شخصين أو أكثر , وهذا يعنياستبعاد التصرفات الدولية الصادرة عن الإرادة المنفردة من نطاق المعاهدات
الدولية .
وبالنسبة لأشخاص القانون الدولي فليس هناك خلاف من أن الدولة هي الشخص الرئيسي العتيق المخاطب بأحكام القانون الدولي العام.
كما أنه من التطورات التي طرأت على القانون الدولي العام في عصر التنظيم الدولي أن مدلول الشخصية القانونية الدولية اتسع ليشمل المنظمات الدولية.
وفيما يتعلق بمدى تمتع بابا الكنيسة الكاثوليكية بالشخصية القانونية الدولية والتي هي نتيجة للسيادة الروحية التي كان يباشرها بابا الفاتيكان على العالم المسيحي الكاثوليكي , وعلى الرغم من الاعتراف للفاتيكان بتبادل السفراء مع الدول الأخرى وإبرام المعاهدات الدولية إلا أن هذه المعاهدات تعتبر من الناحية المادية الموضوعية تنظم شؤونا داخلية للرعايا المسيحيين وإن كانت من الناحية الشكليةتعد بمثابة معاهدات دولية تامة.
أما فيما يتعلق بالشركات متعددة الجنسيات أو المشروعات العابرة للحدود القومية,فعلى الرغم من السعي الحثيث للدول التي تتبعها هذه الشركات لإضفاءالشخصية القانونية الدولية عليها .
إلا أن القضاء الدولي أستقر على عدم الاعتراف بالشخصية القانونية الدولية لمثل هذه الكيانات فقد أصدرت محكمة العدل الدولية سنة 1952 ، حكما يفيد ذلك في معرض نظرها في قضية النفط الانجلوايرانية التي رفعتها المملكة المتحدة ضدإيران إلى المحكمة.
وفي إطار تطبيق مبادئ القانون الدولي العام والقرارات الدولية المتعلقة بتقرير المصير , فإن حركات التحرير الوطنية لها أهلية إبرام المعاهدات الدولية سواء مع الدول التي تباشر الاستعمار أو مع دول أخرى.
ـ المعاهدة تبرم وفقا لقواعد القانون الدولي,ويفيد هذا العنصر من العناصر التي تقوم عليها المعاهدات الدولية أن هذه الخيرة يجب أن يكون موضوعها مشروعا، بمعنى عدم مخالفتها لقاعدة قانونية من قواعد القانون الدولي العامة.
تصنيف المعاهدات الدولية,
يعتمد الفقه الدولي في تصنيفه للمعاهدات الدولية على معيارين أحدهما موضوعيوالأخر شكلي ,
ووفقا للمعيار الموضوعي يجري التمييز بين المعاهدات الشارعة والمعاهدات العقدية , وذلك استنادا إلى الوظيفة القانونية للمعاهدة.
والمعاهدات الشارعة أو المعاهدات المنشئة لقانون يقصد بها تلك المعاهدات التي يكون الهدف من إبرامها تنظيم العلاقة بين أطرافها من خلال وضع قواعد قانونية جديدة تتصف بالعمومية والتجريد, على عكس المعاهدات العقدية التي يكون الهدف من إبرامها تنظيم العلاقة بين أطرافها بشكل شخصي وخاص.
وفي الوقت الحاضر فإن المعاهدات الدولية الشارعة غالبا ما تبرم في إطار منظمة دولية أو في إطار مؤتمر دولي خاص ومن أمثلتها
-اتفاقيات فيينا للعلاقات الدبلوماسية.
-اتفاقيات فيينا للعلاقات القنصلية
-اتفاقيات فيينا للمعاهدات بين الدول ,
-اتفاقيات فيينا للمعاهدات بين الدول والمنظمات وفيما بين هذه الأخيرة.
والمعاهدات العقدية تبرم بين عدد محدود من الدول ولا تسمح عادة بالانضمام
إليها من طرف دول أخرى لا تهمها المصلحة الخاصة التي أبرمت هذه المعاهدات من أجلها.
ومن أمثلتها معاهدات الحدود ومعاهدات التجارة .
ووفقا للمعيار الشكلي فإنه يجري التمييز بين المعاهدات التامة والمعاهدات ذات الشكل المبسط ،
ومناط التمييز بين هذين النوعيين يكمن في مدى ضرورة توفر بعض الشروط الشكلية لإبرام المعاهدات الدولية .
فالمعاهدات ذات الشكل المبسط تصبح نافذة بمجرد التوقيع عليها في حين أن المعاهدات التامة لا تصبح نافذة إلا بالتصديق عليها .
ومن حيث الأثر القانوني فإنه لا خلاف بين هذين النوعين من المعاهدات الدولية حيث كل منهما تنتج أثرها متى أبرمت بكيفية صحيحة .
كذلك يجري التمييز بين المعاهدات متعددة الأطراف والمعاهدات الثنائية وفقا للمعيار الشكلي وأساس التمييز هنا يتمثل في عدد الأطراف المتعاقدة.
اترك تعليقاً