بحث قانوني ودراسة هامة عن استقلال السلطة القضائية عن باقي السلطات
القانون الدستوري
تقوم الدولة الحديثة على سلطات ثلاث هي
التشريعية و التنفيذية و القضائية
و غالباً ما تنص الدساتير على اختصاصات السلطتين التشريعية و التنفيذية بالتفصيل وتختزل ذلك بالنسبة للسلطة القضائية ، كما تنص غالبية الدساتير على تبني مبدأ الفصل بين السلطات إلا أن مساحة الفصل تضيق تارة و تتسع تارةً أخرى ، فالأنظمة البرلمانية يكون فيها الفصل نسبياً ، ونعني به أن تكون السلطات الثلاث في الدولة مستقلة باختصاصاتها مع وجود علاقة تأثير و تأثر فيما بينها ، فمثلما يكون من حق السلطة التشريعية منح الثقة بالسلطة التنفيذية ( الحكومة ) يكون لها سحب الثقة عنها ، كما يكون للحكومة حل البرلمان.
[B]اما في الأنظمة الرئاسية فالفصل يكون أكثر اتساعاً من النظام البرلماني بحيث تنتفي علاقة التأثير و التأثر فلا يكون للسلطة التشريعية سحب الثقة من الحكومة كما لا يكون من حق الحكومة حل البرلمان إلا إن علاقة التعاون فيما بينها تبقى قائمة . وبعيداً عن علاقة السلطتين التشريعية و التنفيذية فيما بينهما فإن ما يهمنا هو علاقة السلطة القضائية بباقي السلطات ومدى استقلالها عنها.
اولاً:-
استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية
أن الأصل في تطبيق مبدأ استقلال القضاء يقضي عدم تدخل السلطة التشريعية بأعمال القضاء ، ويقصد بعدم التدخل هو عدم التدخل السلبي أي التدخل غير المستند الى أي تخويل ، بما إنَّ الدستور ينظم السلطة القضائية بصورة اجمالية تاركاً التفاصيل للمشرع العادي فإن تدخلت السلطة التشريعية استنادا الى هذا التخويل فان تدخلها يكون ايجابياً , والفرق واضح بين التدخل السلبي الذي يمسّ استقلال القضاء في حين أن التدخل الايجابي لا يمسّ – بحسب الأصل – لهذا المبدأ، و يشترط أن تتقيد السلطة التشريعية وتلتزم بالشروط الاتية :
أن يتقيد المشرع بالمبادى الدستورية المنصوص عليها صراحه أو تلك الثابتة بالأصول الدستورية والمستقرة بالضمير الإنساني، لذا يجب أن لا يتعدى دور المشرع حدود التنظيم بما يمسّ أو يتجاوز مبدأ استقلال القضاء ، و أوضح الأمثلة على مثل هذا التجاوز تكون بما يعرف باعادة التنظيم التي لا يقصد منها اصلاح الجهاز القضائي بقدر ما يكون الهدف منها إقصاء بعض القضاة من مناصبهم أو الغاء بعض جهات القضاء .
يجب ألاّ يقتطع المشرع جزءً من الوظيفة القضائية ويسندها الى جهات أخرى غير قضائية أو يمنع القضاء من النظر ببعض المنازعات
يجب أن يصدر القانون المنظم لعمل السلطة القضائية بناءً على اقتراح أو مشورة رجال القضاء وهو ما يستوجبه مبدأ استقلال القضاء، و قد أغفل مشرع دستور جمهورية العراق لسنة 2005 هذا الشرط عندما خول المشرع تنظيم السلطة القضائية بقانون إذ لم يوجب استشارة مجلس القضاء الأعلى في صياغة هذا القانون و اقتراحه و كما فعل الدستور السوداني حين خول مجلس القضاء العالي ابداء الرأي في مشروعات القوانين المتعلقة بالهيئة القضائية وذلك في م/ 102 الفقرة 2 من دستور جمهورية السودان لسنة 1998
و خلاصة القول أنّ السلطة التشريعية تمتنع من التدخل بشؤون واختصاصات السلطة القضائية فلا يجوز لها الفصل في المنازعات أو إصدار تشريع يحدد وجه الفصل في قضية معينة أو التدخل بشان القرارات القضائية في المسائل المحسومة كإصدار قرارات العفو الشامل ونبين أدناه بعض الأمثلة لتدخل السلطة التشريعية بعمل القضاء مما يشكل انتهاكاً
لمبدأ الفصل بين السلطات : _
حدث عام 1907 إن مجلس العموم البريطاني ( البرلمان ) كان يناقش مشروع قانون تطبيق عقوبة الإعدام وأثناء ذلك تحدث نائب عمالي عن قضية محل نظر أمام القضاء لشخص يدعى (آدمز )، وتم توجيه اللوم إلى النائب لتدخله بعمل القضاء .
في اليابان قررت اللجنة القضائية لمجلس النواب الياباني التحقيق في قضية منظورة أمام القضاء كونها تهم الرأي العام، إلا أن جمعية قضاة المحكمة العليا وجهت كتاباً لرئيس مجلس النواب احتجت فيه على التدخل في عمل القضاء .
ثانيا :- استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية
رغم أن مبدأ استقلال القضاء تنص عليه نصوص الدستور و القوانين ، ورغم أن الدساتير عادة ما تنص على الفصل بين السلطات ، إلا أن كل هذا لا يمنع أو يحول دون أن تمارس السلطة التنفيذية اشكالاً متعددة من التدخل و التأثير بالقضاء ، سواء بأعضاء السلطة القضائية تارة أو بعمل القضاة أو الوظيفة القضائية تارة أخرى
تدخل السلطة التنفيذية و تأثيرها على أعضاء السلطة القضائية ويكون التدخل بأعضاء السلطة القضائية و التأثير عليهم بأشكال مختلفة:
التدخل و التأثير في تعيين القضاة ، فقد يتم رفض تعيين شخص لمنصب قاضي بالرغم من توافر الشروط القانونية فيه و الحاجة إليه ، أو على العكس فقد يتم تعيين شخص آخر قاضياً رغم عدم توفر الشروط القانونية فيه أو عدم الحاجة إليه . وتعيين القضاة بوجه عام يكون بأحد الأساليب الآتية:
>
اختيار القضاة عن طريق الانتخاب من المواطنين ، وهو نظام سائد في معظم الولايات الأمريكية و فيه تحقيق لاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية ، إلا إن ما يعيبه أن الناخبين غير قادرين على تمييز كفاءة القاضي و علمه و خبرته القانونية و صلاحيته وأخلاقه ، وقد يكون الانتخاب أساسه الميول السياسية للقاضي ، كما قد يجبر القاضي على أرضاء ناخبيه لإعادة انتخابه مما يؤثر في استقلاله
الانتخاب عن طريق الجهاز القضائي أنفسهم، و أهم ما يعيب هذه الطريقة هو انحصار الانتخاب بالأصدقاء و الأقارب.
التعيين بواسطة السلطة التنفيذية ، وهي من الطرق الأكثر انتشاراً ، غير أن أهم ما يعيبها هو إهدارها لمبدأ الفصل بين السلطات ، لذلك تسعى الدول إلى التخفيف من هذا التأثير بطرائق شتى أهمها أن تحدد شروط معينة لتعيين القضاة بحيث لا يترك للسلطة التنفيذية أية سلطة تقديرية أو أن يعد الجهاز القضائية نفسه قوائم بالقضاة المراد تعيينهم ثم يصدر رئيس السلطة التنفيذية امراً بتعيينهم بموجب تلك القوائم .
التدخل و التأثير في نقل القضاة :
>قد تمارس السلطة التنفيذية اسلوب نقل القضاة للتأثير في استقلالهم و حيادهم ، فقد يكون نقل القاضي من مكان إلى آخر مبنياً على دوافع شخصية أو نكاية بالقاضي أو بعيداً عن مصلحة القضاء أو تنظيمه .
التدخل و التأثير في تأديب القضاة : قد تمارس السلطة التنفيذية بحجة تأديب القضاة تأثيرها في استقلاله ، فقد يخضع القضاة للتحقيق أو المسائلة التأديبية لا بسبب تقصير أو مخالفة لواجبات وظيفتهم بل بسبب إصرارهم على الاستقلال و الحيادية أمام الحكومة ومن يمثلها أو بسبب دعوتهم للإصلاح خاصة الإصلاح السياسي أو بسبب آراء معينة يتبنوها مرتبطة بالدعوة إلى مكافحة الفساد أو تشخيص حالات التزوير في الانتخابات إلى غير ذلك .
لتدخل و التأثير في التفتيش القضائي: قد يكون جهاز التفتيش القضائي وسيلة ضغط بيد السلطة التنفيذية أو بيد غيرها لكنها تستطيع التأثير فيها لكي تمارس تأثيرها في القضاة و استقلالهم.
التدخل و التأثير في خدمة القضاة: قد تؤثر السلطة التنفيذية في خدمة القضاء بوسائل متعددة أهمها عزلهم و إحالتهم على التقاعد قبل بلوغ السن القانوني المحدد قانوناً ، أو إجبارهم على تقديم استقالة ، أو نقل خدماتهم إلى وظائف غير قضائية .
تدخل السلطة التنفيذية و تأثيرها بالوظيفة القضائية : قد تمارس السلطة التنفيذية دوراً في التأثير بالعمل القضائي و توجيهه وجهة معينة ، فقد يكون من مصلحة الحكومة أو احد رجالها إصدار قرار قضائي معين أو بالعكس فقد يكون من غير مصلحتهم إصدار قرار قضائي معين ولكن التأثير قد لا يكون واضحاً أو علنياً بل مستتراً بأساليب مختلفة ، منها أن يتم إلزام المحاكم و القضاة بموافاة وزارة العدل أو إحدى مؤسسات الحكومة بصور من الدعاوى المدنية و الجنائية التي ترفع على شخصيات هامة مسؤلة فور تقديمها ، أو من خلال قدرة وزير العدل بنقل الدعاوى من محكمة إلى أخرى أو من مكان إلى آخر ، أو من خلال تسمية العديد من القضايا بقضايا الرأي العام التي أصبحت عملية نقضها من المحاكم العليا امراً مألوفاً في أكثر من مرة ، بل وتتعرض لانتقادات رؤساء الدول و الحكومات و الصحف الأجنبية ، وبما نجم عنه تجريد سائر المحاكم و القضاة من الشعور بالاستقلال ، ومن شل قدرتهم الكاملة على مقاومة الضغوط التي قد تمارس عليهم ، إذ خلقت تلك الأساليب مصلحة ظاهرة للقضاة في اتقاء غضب السلطة التنفيذية ممثلة بوزارة العدل و سواها ، الأمر الذي يجعل القاضي قادراً على إصدار الحكم في أية قضية من القضايا بغير ميل حتى عندما لا يوجد عليه ضغط من احد ، مما جعل القضاء كأنه مرفق إداري تابع للسلطة التنفيذية يفتقر إلى الاستقلال.
اترك تعليقاً