تعتبر الصيدلية[1] إحدى تخصصات العلوم الصحية الشديدة الصلة بالكيمياء وعلم الأحياء بفروعه وهي تهتم بكل نواحي اكتشاف، تصنيع، صرف واستخدام المواد الدوائية والمنتوجات الصيدلانية غير الاستشفائية، فهي علم يبحث في أصول الأدوية طبيعية كانت أم كيماوية،
كما يبحث في الخواص الفيزيائية والكيماوية والفيزيولوجية لكل مادة أو مركب يحضر سلفا من أجل تحقيق الشفاء للمريض أو الوقاية من الأمراض ومنعها سواء كانت خاصة بالإنسان أو الحيوان ودراسة الفعالية الدوائية والتأثيرات السلبية للدواء، وكيفية التخلص منها بأفضل الطرق.[2]
كما تعتبر مهنة الصيدلة فن يختص بطرق تحضير وتركيب الأدوية والمستحضرات العلاجية المختلفة من مواردها الأولية، ووضعها في قوالب وأشكال صيدلانية جاهزة وصالحة للاستعمال مع توفير الإرشادات والنصائح الضرورية للاستفادة من التأثيرات العلاجية الإيجابية للمنتوجات الدوائية وتفادي التأثيرات السمية والسلبية، سواء بهدف المعالجة أو تخفيف الآلام أو الوقاية من الأمراض.[3]
والصيدلي هو “المحترف بجميع الأدوية على أحمد صورها واختيار الأجود من أنواعها، مفردة أو مركبة على أفضل التراكيب التي حددها له مبرزوا أهل الطب”.[4]
أمام هذا التعريف، يمكن القول بأن الصيدلي هو الشخص الحاصل على الإجازة أو المؤهل العلمي الذي يعني أن صاحبه علم بالأصول العلمية والعملية اللازمة لممارسة الصيدلة.
ولابد من الإشارة إلى أن مهنة الصيدلة قديمة قد الإنسان، بحيث بدأت مع المداواة بالأعشاب المقتبسة من الحيوان، حيث لاحظ هذا الأخير أن الحيوانات المعتلة صحتها كانت تقتات على الأعشاب فتشفى مثل القطط التي كانت تأكل أعشاب النعناع، وهكذا بدأ فن التداوي عند الحضارات القديمة.
فقد كان الصينيون القدامى يجربون تأثير الأعشاب والنباتات الطبية على الحيوانات وعلى أنفسهم ومن أهمهم العالم الصيني “شن تونغ”،[5] ثم عرف قدماء المصريون الصيدلة حيث احتكرها الكهنة،[6] الذين دونوا ما كانوا يكتشفونه من أدوية على جدران المعابد والقبور، إذ استعملوا ما توصلوا إليه في هذا المجال في تحنيط جثثهم، وجاء من بعدهم الإغريق[7] ثم الرومان[8] الذين استفادوا مما توصلت إليه هذه الحضارات وطوروا هذا الفن، حيث أبدعوا في التداوي بالعقاقير النباتية والحيوانية والمعدنية.[9]
غير أن العرب المسلمين كانوا أول من أنشأوا الصيدلة التي بنيت على أساس علمي معتمدين في ذلك على الملاحظة الدقيقة والتجارب العلمية، كما مهدوا للصناعات الصيدلية نتيجة ما قاموا به من دراسات في فن التجهيز الدوائي.[10]
بل الأكثر من ذلك، فقد وضعت الشريعة الإسلامية البوادر الأولى للمسؤولية الطبية لقوله صلى الله عليه وسلم : “من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن”.[11] كما نظم المسلمين المهنة من الناحية الإدارية في إطار ما يسمى بنظام الحسبة.
والمغرب باعتباره امتدادا للحضارة الإسلامية، عرف بدوره مهنة الصيدلة التي كانت تمارس حسب أعراف متوارثة تحدد كيفية الولوج إليها وممارستها والعقوبات المحددة لمخالفة قواعد تحضير الأعشاب وذلك تحت إشراف أمين الحرفة.
إلا أنه بعد دخول الحماية، فقد تم إلغاء التنظيمات العرفية وتعويضها ببعض القرارات والظهائر والمراسيم،[12] المنظمة لمهنة الصيدلة بشكل عصري.
وأمام التطور الملحوظ في مجال الصيدلة، فإنه لم يعد عمل الصيدلي يقتصر على تركيب الدواء في صيدليته، وإنما أصبحت هناك صناعة صيدلية قائمة الذات.
ونظرا لخطورة الدواء على صحة الإنسان، على اعتبار أن أي خطأ في إنتاجه أو استعماله قد يكون له نتائج خطيرة تخلف العديد من الضحايا، فقد عملت جل التشريعات على تقنين العمل الصيدلي عن طريق وضع ضوابط وشروط لممارسته، وتحديد مسؤولية الصيدلي عن الأضرار الناتجة عن خطئه في تصور وصنع الدواء أو صرفه، إذ القاعدة هي إلزامه بتحقيق نتيجة وهي صرف أو تقديم أدوية صالحة للاستعمال السليم لا تشكل بطبيعتها خطرا على مستهلكيها.
ولاشك أن هناك إلتزام واقع على الصيدلي، إذ يسأل على أي خلل في التركيب أو فساد العناصر المكونة للدواء وما تؤدي إليه من أضرار وتسممات من أي نوع للمريض، ذلك أن إباحة عمل الصيدلي منوطة بأن يكون ما يجريه مطابقا للأصول العلمية المقررة، فإذا فرط في اتباعها أو خالفها حقت عليه المسؤولية بحسب تعمده الفعل ونتيجته أو تقصيره وعدم انتباهه في أداء عمله، كما تقوم مسؤوليته في الحالات التي يقتصر دوره فيها على صرف (بيع) الأدوية، إذ أنه قادر من الناحية العلمية على التحقق من سلامة وصحة هذه المنتوجات.
وإذا كانت المسؤولية الجنائية في الفقه القانوني لا تتحقق إلا بالقيام بعمل أو امتناع مخالف للقانون ومعاقب عليه بمقتضاه، فإن المسؤولية الجنائية للصيدلي هي “الإلتزام القانوني الذي يحتوي على تحمل الممارس لمهنة الصيدلة العقاب نتيجة إتيانه عمل، أو امتناعه عنه مما يشكل جريمة وخروجا عن القواعد المقررة جنائيا سواء على مستوى القانون الجنائي بمفهومه العام أو على مستوى التشريعات المنظمة لمهنة الصيدلة.
أهميـة الـموضـوع :
تتجلى أهمية موضوع المسؤولية الجنائية للصيدلي في ازدياد الحوادث الصيدلانية نتيجة التطور الهائل في الصناعة الصيدلية بسبب خطورة المنتوجات الدوائية ؛ فإذا كان خطأ الطبيب يقتصر على مريض بعينه، فإن خطأ الصيدلي يتعداه إلى عشرات بل مئات الضحايا، فأي خطأ في تصور أو صنع الدواء قد يخلف العديد من الضحايا، ولا أدل على ذلك من حوادث غبرة بومول Poudre Boumoul والتي خلفت 73 وفاة سنة 1952 وحوادث دواء الستالينون Satalinon والتي ترتب عنها وفاة 100 شخص والعديد من الجرحى.[13]
وما يزيد من أهمية دراسة هذا الموضوع هو الجهل بمسؤولية الصيدلي عن أخطائه، فنادرا ما نجد دعاوى في هذا الصدد، وهذا راجع في اعتقادنا إلى غياب الوعي القانوني في هذا المجال بسبب عدم إدراج التشريعات الطبية بصفة عامة والتشريع الصيدلي بصفة خاصة في المقررات الجامعية والمعاهد العليا.
هذا، وبالإضافة إلى ما يطرحه الواقع العملي من إشكالات على مستوى موازنة الصيدلي أثناء عمله بين ما هو إنساني وقانوني من حيث بيع الأدوية من دون وصفة طبية، إذ يعتبر طبيبا للفقراء، وإلزامه قانونيا بعدم صرف بعض الأدوية بدون هذه التذكرة وخاصة فيما يتعلق بالمواد المخدرة المدرجة في جدول “ب” المنصوص عليها في ظهير 1922 المنظم للمواد السامة.
إشكاليـة الموضوع :
بتفحصنا للنصوص القانونية العامة والخاصة المنظمة لمسؤولية مهنيي الصيدلة، نجد أن المشرع المغربي لم يتعرض للمسؤولية الجنائية لعمل هؤلاء بنصوص خاصة، بل ترك حكمها للقواعد العامة في المسؤولية الجنائية، على الرغم من تلك النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على تطبيق القواعد العامة بطريقة مجردة دون النظر إلى الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الأعمال الطبية بصفة عامة ومهنة الصيدلة بصفة خاصة.
وأمام هذا القصور التشريعي، ارتأينا البحث في هذا الموضوع مستنيرين في ذلك بعمل الفقه والقضاء المقارنين لما لهما من دور كبير في مجال رسم حدود وأبعاد المسؤولية الطبية في المجال الجنائي.
وعليه، فإننا نتساءل عن ماهية الجرائم المرتكبة من قبل الصيدلي التي تثير مسؤوليته الجنائية سواء في القانون الجنائي أو القوانين الخاصة المنظمة لمهنة الصيدلي ؟ وهل وفق المشرع في علاج هذه الجرائم وحقق الردع العام والخاص المقصودين من تلك النصوص، أم أن هذه الأخيرة فشلت في تحقيق الغاية منها وغدت نصوص معطلة لا يلتفت أحد إليها إلا نادرا ؟
صعوبـات الموضـوع :
تتحدد بشكل أساسي في قلة الكتابات وندرتها في تناول الموضوع وشح الاجتهادات القضائية على الصعيد الوطني وكذا شتات القوانين المنظمة لمهنة الصيدلة وحداثة الإطار المنظم لها والمتمثل في مدونة الأدوية والصيدلة الصادر في أواخر سنة 2006.
أضف إلى ذلك كثرة النصوص التنظيمية المحال عليها من قبل هذه المدونة والبالغ عددها 23 نص تنظيمي والتي لم يخرج جلها إلى حيز الوجود لحد الآن.
كما اعترضتنا أثناء البحث صعوبة الوصول إلى المعلومة نظرا لطبيعة الموضوع التقنية ودقة المصطلحات المستعملة.
المنهـج المتبــع :
بناء على ما سبق، اخترنا من أجل تقديم هذا البحث الذي يروم إلى القيام بمقاربة علمية تبني المنهج الوصفي وذلك بجمع النصوص المنظمة لمهنة الصيدلة واستقرائها مستعينين في ذلك بالمنهج التحليلي للنصوص والوثائق والأحكام والقرارات التي لها علاقة بمادة البحث لتمكن من الربط بين الإطار النظري والواقع العملي ولرفع كل لبس، استعنا بالمنهج المقارن وذلك بتحليل النصوص استنادا إلى ما ذهب إليه الفقه والقضاء المقارنين مع اعتماد أسلوب المقابلة لإثراء الموضوع وإجلاء اللبس الذي قد يطاله بسبب قلة المراجع.
المقاربـة المعتمـدة :
لقد حاولت مقاربة موضوع هذا البحث وفق خطة منهجية تتكون من فصلين :
– تناولت في الفصل الأول مسؤولية الصيدلي نحو الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي، حيث ناقشت جريمة إفشاء السر المهني مبينا أركانها ومبرراتها، ثم جريمة الإجهاض المرتكبة من قبل الصيدلي لخطورة هذه الجريمة وتستر المجتمع عليها، حيث بينا أركان هذه الجريمة وموقع صفة الصيدلي فيها.
وفي نهاية هذا الفصل، حللت جريمة الجرح والقتل غير العمدي من حيث أركانها وصور أخطاء الصيدلي الموجبة لمسؤوليته عن هذه الجريمة، سواء تعلق الأمر بصنع الدواء أو صرفه.
– أما في الفصل الثاني، فقد حاولت فيه وصف الجرائم المنصوص عليها في القوانين الخاصة المنظمة لمهنة الصيدلة، إذ بينت جريمة ممارسة الصيدلة بدون إذن قانوني وصورها المنصوص عليها في مدونة الأدوية والصيدلة، وجريمة التعامل غير القانوني في المواد السامة المنظمة في إطار ظهير 2/12/1922 في جعل ضابط لاستجلاب المواد السامة والاتجار فيها وإمساكها وظهير 21 ماي 1974 المتعلق بزجر الإدمان على المخدرات والمواد السامة والمدمنين عليها.
وفي ختام هذا البحث، تقدمنا بخاتمة تتضمن مجموعة من الاقتراحات التي من شأن الأخذ بها النهوض بمهنة الصيدلة إلى حد يقلص من الجرائم موضوع البحث.
وذلك وفق الخطوات التالية :
الفصل الأول : مسؤولية الصيدلي عن الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي
الفصل الثاني : مسؤولية الصيدلي عن الجرائم المنصوص عليها في القوانين الخاصة
————————————————–
[1] كلمة الصيدلية لفظ حديث مطور للفظ الصندلة، فالعلم الذي يهتم باستخراج الأدوية من المصادر الطبيعية ومزجها ووضعها في صيغتها الدوائية كان يسمى صندلة، لأن العرب الذين كانوا يعملون في هذا المجال كانوا يضيفون مادة الصندل ذات الرائحة الزكية على مستحضراتهم الصيدلانية حتى تكتسي تلك المستحضرات رائحة جذابة لاستخدام الدواء.
[2] غوتي محمد الأغظف : “الإطار القانوني والتنظيمي لمهنة الصيدلة بالمغرب، دراسة تحليلية نقدية معززة بأحدث الاجتهادات”، الطبعة الأولى، 2002، ص : 15.
[3] مرجع سابق، ص : 15.
[4] أبو ريمان البيروني في مخطوطه “كتاب الصيدنة في الطب”، مذكور عند محمد الأغظف، م.س، ص:13.
[5] القرن 22 قبل الميلاد وهو مؤلف كتاب الصيدلة الذي يعتبر أول دستور للأدوية والذي يحتوي على 365 دواء نباتي بعدد أيام السنة.
[6] من أشهرهم أمحوتن (ق. 30 ق.م).
[7] ومن أشهر علماء الأدوية عند الإغريق “أبوقراط” الملقب “بأبو الطب” (337-460 ق.م)، و”تيوفراستوس” “أبو النباتات” (317-387 ق.م)، والطبيب “ديوسكوريد” الذي ألف كتابا تحت عنوان “المادة الطبية” بين فيه الفاعلية العلاجية للعقاقير النباتية والحيوانية والمعدنية.
[8] من أشهر أطباء الرومان المعالجين بالعقاقير نجد “ديسفوريدس” (50-6 ق.م) الذي وضع كتاب في الأعشاب الطبية سماه “الحشائش” ذكر فيه 500 عقار نباتي، وجالينوس (130-201 ق.م) والملقب بأبو الصيدلة الذي له 98 كتاب في الطب والصيدلة.
[9] رسمية ماري شكور : “مقدمة في علم الصيدلة وتاريخها”، الطبعة الأولى، مطبعة مؤسسة الوراق، عمان، طبعة 1999، ص : 19.
[10] لقد وصف أبو مروان بن زهر قالبا توضع فيه المساحيق لتخرج أقراصا سهلة التناول، كما قام هذا الأخير بدراسات لحفظ العقاقير، فكان من أوائل الباحثين في هذا المجال.
للتعمق في هذا الموضوع، أنظر :
Lucien LECLERC : « Histoire de la médecine arabe », Tome premier, réédité par le Ministre des Habous et des affaires islamiques, Royaume du Maroc, Rabat, 1980, Imprimerie de Fédala, 1980, p : 30.
[11] رواه أبو داود وابن ماجة والنسائي من حديث عمر بن شعيب، أنظر ذلك لدى الإمام شمس الدين أبي عبد الله المعروف بابن القيم الجوزية : “الطب النبوي”، مطبعة إديسوفت، الدار البيضاء، طبعة 2006، ص : 109.
وتجب الإشارة إلى أن كلمة من “تطبب” تضم الطبيب والصيدلي على أساس أن الشخص الواحد كان يقوم بفحص المرض وتشخيص أمراضهم ثم يقوم بنفسه بتحضير الأدوية الخاصة لعلاجهم.
[12] مثل القرار البلدي الصادر بتاريخ 19/3/1913 وظهير 16/11/1957 المنظم لمهنة الصيدلة، ثم ظهير 19/02/1960 المنظم كذلك لمهنة الصيدلة.
[13] بناصر الحاجي : “الدور الاجتماعي للصيدلي الممارس”، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، كلية الحقوق عين الشق، الدار البيضاء، الموسم الدراسي لسنة 1999، ص : 1.
اترك تعليقاً