الهبة الباطلة شكلاً – إجازتها ضمنيً
الالتزام الطبيعي – استبداله بالتزام مدني
قد يلتزم الإنسان في علاقته مع آخر – سواء كان أساس هذه العلاقة عقد أو فعل أو خطأ – بالتزام لا يرتب القانون جزاءً للإخلال به – فلا يصل من هذه الوجهة إلى حد الالتزامات المدنية اللازمة – إلا أنه مع ذلك التزام يستند في أساسه إلى أكثر من واجب أدبي فحسب وهو ما يسميه القانون الفرنسي L’obligation naturelle (مادة (1235)) فالالتزام بدفع قيمة سند مضت عليه المدة المسقطة للحقوق، والالتزام بتنفيذ عقد لم يوضع في الصيغة التي يتطلبها القانون صحته هو التزام طبيعي.
وهو التزام: لا من حيث لزومه ونفاذه بمقتضى القانون – فقد قدمنا أن القانون لا يرتب جزاءً على الإخلال به – ولكن من حيث الآثار التي تترتب عليه وهي ما تتفق فيه مع الالتزام المدني فإن تنفيذه إذا تم يعتبر ملزمًا لا يجوز رده أو الرجوع فيه باعتباره هبة أو دفع ما لا يجب أداؤه Paiement de l’indu.
وقد اعترف كل من القانونين الفرنسي (مادة (1235)) والمصري (مادة (147)) بهذا الأثر للالتزام الطبيعي.
وهذا في الواقع هو الأثر الوحيد الذي رتبه نص القانونين عليه، وهذا الأثر هو ما يسمو به عن مجرد الواجب الأدبي إلى درجة الالتزام راجع (Aubry et Rau 5th Edition 4 P.3 Baudry 2 Nos 546 seq).
ويستتبع ذلك حتمًا أن يكون الالتزام الوارد في عقد باطل لعدم توفر شكل خاص يتطلبه القانون لصحته وليس ممنوعًا لمخالفته للآداب – التزامًا طبيعيًا – وهذا ما أقره إجماع المحاكم والشراح في فرنسا، كالهبة مثلاً: فإن لزوم تحريرها في شكل خاص لا يستند إلى اعتبارات ترجع إلى الآداب العامة بل إلى تقرير قاعدة للإثبات، فإذا لم تعمل في عقد رسمي فهي باطلة لعدم الرسمية فحسب، إلا أنها لا تزال تشتمل التزامًا طبيعيًا على الواهب بتنفيذ الهبة – فإذا نفذها فعلاً فليس له حق الرجوع فيها كما قدمنا، وإذا توفى التزم الورثة التزامًا طبيعيًا باحترام إرادة مورثهم باحترام الهبة وتنفيذها، بحيث إذا أجازوها فعلاً فلا يعتبر هذا منهم قيام بعمل غير واجب الأداء يجوز لهم الرجوع فيه – وبمعنى آخر فإنهم يكونون قد أدوا دينًا أو نفذوا التزامًا ملزمًا، وقد أقر القانون الفرنسي هذه النتيجة صراحة في المادة (1340) إذ ورد بها ما يلي:
La Confirmation ou ratification, ou executiou volontaire d’une donnation par les héritiers ou ayants cause du donateur, après son décès, emporte leur rénonciation à opposer soit les vices de forme, soit toute autre exception.
والنص ليس وارد على سبيل الحصر كما رأيت فهو تفرع على القاعدة العامة التي قدمناها وهي أن المورث ملتزم شخصيًا بتنفيذ العقد الباطل شكلاً، فإذا توفى فإن التزام ورثته الطبيعي هو احترام إرادة مورثهم الأخيرة بتنفيذ العقد الذي دخل طرفًا فيه، وسواء كان العقد هبة أو وصية أو اعتراف بدين (في القانون الفرنسي الذي يتطلب فيه شكلاً خاصًا) فإن القاعدة واحدة لأنها تستند فيها جميعها إلى فكرة وحكمة واحدة
راجع Demelombe, tome 27 no 42 ; Aubry et Rau 4e Edition; Tome 4) & 267; l’laniol; 2e Edition No 345
وراجع أيضًا تعليقات دالوز على المادة (1235) إذ ورد به ما يلي؛ نَبذة 63:
(On Considère Comme donnant ouverture à une obligation naturelle le devoir qu’a l’hèritier de respecter et d’executer les dernières volonés de son auteur, bien qu’elles se trouvent consignées dans un aete nul en la forme comme testament ou même qu’elles n’aient été exprimés que verbalement.
ونَبذة (64):
(Ainsi constitue une obligation naturelle l’obligation naturelle l’obligation de remettre la chose à qui elle était destinee, lorsqu’elle a était imposée par un testament irregulier, ou par un fideis commis tacite non revêtu de forme légale.
ونَبذة (66):
(Jugé, en consequence, que les aetes juridiques destinés à l’execution de ces dernières volontés etant, du chef de l’héritier, des actes à tite onereux échappent, en ce qui concerne, aux rêgles de forme et de fond des donations.
ونبذة (67):
(A plus forte raisou, constitue une obligation naturelle la donation entre vifs nulle pour vice de forme, puisque la loi permet aux héritiers du donateur de la confirmer même tacitement par une exécution volontaire.
وهكذا ترى أن المحاكم الفرنسية فرعت المادة (1340) عن قاعدة عامة تنطبق على جميع العقود الباطلة لعدم توفر الشكلية فيها، وتستند إلى التزام المورث التزامًا طبيعيًا بتنفيذ العقد أو التصرف الذي عمله – هبة أو وصية أو اعتراف بدين – والتزام ورثاه من بعده باحترام إرادة مورثهم بتنفيذ هذا العقد.
(راجع حكم محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1860 في مجموعة Sirez سنة 61 جزء (1) ص (370).
وحكم محكمة Besancon بتاريخ 6 ديسمبر سنة 1906 داللوز سنة 1908 جزء (2) ص (330) وحكم محكمة النقض بتاريخ 10 يناير سنة 1905 مجموعة Sirez سنة 1905 جزء (1) ص (128)).
فخلو نص القانون المصري من مقابل للمادة (1340فرنسي ليس معناه خلوه من القاعدة العامة التي تفرع عنها هذا النص فهي قاعدة من عمل الشراح والأحكام الفرنسية بالإجماع استندوا في تقريرها إلى اعتراف القانون بالالتزامات الطبيعية وإقراره الأثر الذي يترتب عليها من حيث عدم جواز الرد بعد تنفيذها في المادة 1235، وهو اعتراف اشترك في تقريره القانون المصري أيضًا في المادة (147) كما قدمنا، فإذا لم يكن في القانون الفرنسي غير المادة (1235) ما ترتب أحكمًا وقواعد أخرى للالتزامات الطبيعية غير واردة في القانون المصري وإذا لم يكن في القانون المصري خلاف المادة (147) ما يغاير القاعدة العامة التي أقرتها المحاكم الفرنسية، فهذه القاعدة واجبة التطبيق في القانون المصري لا نزاع في ذلك لا لشيء إلا لأنه مفهوم أن القانون المصري مأخوذ عن القانون الفرنسي، ولأنه ليس ثمة ما يدل على أن المشرع المصري أراد أن يختلف عن القانون الفرنسي في شيء ما، في هذا الموضوع.
(راجع كتاب The Egyptian law of obligations لمستر والتون جزء أول صفحة (26)) والنتيجة إذن – أن التنفيذ الفعلي من الورثة للهبة الباطلة شكلاً الصادرة من مورثهم والتي سبقهم هذا في تنفيذها، أو مجرد إجازتهم الحكمية لها مانعة لهم قطعًا من التمسك بعد ذلك بالعيب في شكلها أو بأي دفع آخر.
أما أن التنفيذ الفعلي مانع من الرجوع في الهبة فهو تطبيق صريح للمادة (1235) فرنسي و (147) مصري، وأما أن مجرد الإجازة أو الموافقة – في عقد أو ما شاكله – مانعة أيضًا فذلك لأن الالتزام الطبيعي يستحيل بالاعتراف به أو المصادقة عليه إلى التزام مدني obligation civile له كل حجيته من حيث نفاذه ولزومه، والطريق القانوني لهذه الاستحالة هو (الاستبدال novation ).
ومقرر بإجماع المحاكم والشراح الفرنسيين أن التزام الطبيعي يجوز أن يستبدل بالتزام مدني محض بمجرد الاعتراف به وإجازته (راجع Baudry. E 2. N. 1678 , Anbny et Ran 15th rd 4. P 11)
وراجع حكم محكمة الاستئناف المختلطة بتاريخ 17 يناير سنة 1918 مجموع التشريع والأحكام المختلطة عدد (30) ص (62).
وراجع أيضًا كتاب المستر والتون في المرجع المتقدم وصفحة (37)).
وبذلك يتبين لك أن المادة (1340) فرنسي لم تأتِ بأكثر من تقرير القاعدة العامة الواردة في المادة (1235) وقواعد الاستبدال عمومًا، وهذا ما يؤكد لك أن عدم إيراد المادة المذكورة في القانون المصري ليس سببه إلا أنها تكرار للقواعد العامة فحسب.
محمد علي رشدي
اترك تعليقاً