أين تخصص الاقتصاد في كليات القانون؟
د. رضا عبد السلام
أستاذ و رئيس قسم الاقتصاد والمالية العامة
كلية الحقوق – جامعة المنصورة
تساءل عدد من قرائي الأعزاء في تعجب عن كوني أستاذاً في كلية الحقوق، وفي الوقت نفسه مستشاراً اقتصادياً ولست مستشاراً قانونياً؟! وهنا وعدتهم بكتابة مقال توضيحي، أحسبه على درجة عالية من الأهمية في هذه المرحلة من مراحل تطوير المنظومة التشريعية والقضائية في المملكة. فما أعرض له في هذا المقال يشكل مقترحاً أضعه أمام القائمين على تطوير المؤسسة التشريعية والقضائية في المملكة.
فكثيراً ما طُرِحت عليَّ التساؤلات التالية: ”لماذا أدرس الاقتصاد؟ ما جدوى أو أهمية وجود قسم للاقتصاد والمالية العامة في كليات القانون؟ فأنا دخلت كلية الحقوق لدراسة القانون فما علاقتي بالاقتصاد؟ ما أهمية دراسة الاقتصاد بالنسبة لي كدارس للقانون؟ وهل هناك علاقة بين القانون والاقتصاد؟” وهل يمكن أن تكون كلية الحقوق خالية من قسم للاقتصاد؟ فكل تلك التساؤلات يطرحها طالب السنة الأولى في كليات القانون، بل ثارت في ذهني أنا شخصياً عندما التحقت بتلك الكلية العظيمة، وما أن درست وتعمقت، أدركت الحقيقة، بل تمنيت، وفي عامي الأول في الكلية، أن أكون أستاذاً للاقتصاد، وهو ما حدث، كيف؟ لا أدري! فهذه إرادة الله. وللإجابة عن التساؤلات المطروحة أعلاه أؤكد أنه ”إذا كانت هناك مقولة بأن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، فإن التغيرات المذهلة عالمياً ومحلياً في الفترة الأخيرة، أثبتت، أنه لا يمكن الحديث عن القانون بمعزل عن الاقتصاد أو العكس”.
فإذا كانت العلوم تنقسم إلى علوم أساسية مثل الاقتصاد، وعلوم مساعدة مثل الإحصاء والقانون… إلخ، فإن على دارس القانون أن يكون ملماً بالواقع الاقتصادي والمتغيرات الاقتصادية حتى يبدع في مجاله، فكيف يمكن للقاضي أن يفصل في نزاع اقتصادي أو مالي دون أن تكون لديه خلفية اقتصادية كافية؟ كيف يمكن للمشرع أو واضع الأنظمة والقوانين أن يصدر قوانين تنظم أو تؤثر في الحياة الاقتصادية دون أن يكون لديه وعي اقتصادي كافٍ؟ الأكثر من هذا، أن التقسيم التقليدي للعلوم، مثل السياسة والاقتصاد والقانون والجغرافيا، تآكلت جدرانه مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أظهرت هشاشة ذلك التقسيم الجامد.
ولهذا بدأت في الظهور الكثير من العلوم البينية: مثل الاقتصاد السياسي والاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد الرياضي والجغرافيا الاقتصادية.. ودراسات التحليل الاقتصادي للقانون… إلخ، ويكفي أن أشير إلى أن جاري بيكر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1992م حصل عليها عن أبحاثه حول التحليل الاقتصادي للاختيار أو السلوك وخاصة السلوك الإجرامي. بل إن الاثنين الحائزين على جائزة نوبل 2009م حصلا عليها عن أبحاثيهما في تخصص بيني، يربط بين القانون والاقتصاد وهو ”الحوكمة”.
فقد ثبت أن الارتكان إلى نظريات وخلفيات اقتصادية بحتة دون مراعاة الأبعاد السياسية والاجتماعية يقود إلى نتائج مضللة، ولنا في الأزمة العالمية الأخيرة المثل والعبرة. ولهذا فإن طالب القانون الذي درس السياسة والاقتصاد والتجارة والإدارة والشريعة والعلاقات الدولية بكل أبعادها… إلخ، يكون أكثر تأهلاً من غيره في فهم وتحليل الظواهر الاقتصادية، بل والتوصل إلى توقعات أقرب إلى التطبيق، ومن ثم وضع السياسات الملائمة.
فقد ثبت أن الجهود التي بذلت خلال القرن الماضي لانتزاع الاقتصاد من عالمه ”كعلم اجتماعي” وتحويله إلى علم رياضي (ومجموعة من المعادلات الصماء) لا يمكن أن تفضي إلى شيء، خاصة على المستوى الاقتصادي الكلي. ففهم الظواهر الاقتصادية وتحليلها يقتضي فهماً عميقاً لجميع الجوانب المؤثرة في سلوك الإنسان، الذي هو محور علم الاقتصاد.
ومن ثم، فإن كليات القانون، وبما تحويه من فروع وتخصصات اجتماعية، هي الأجدر باحتواء هذا التخصص المهم. إلا أن هذا لا ينفي أو يقلل من أهمية وجود تخصص للاقتصاد في كليات التجارة أو إدارة الأعمال، ولن يكون هناك تكرارا أو تداخلا. ولكن رسم السياسة العامة والتصورات الشاملة الجامعة يقتضي وجود الاقتصاد كقسم رئيس ومهم في كليات القانون.
فلا يمكن لدارس القانون أن يدرس القاعدة القانونية بمعزل عن البعد أو الإطار الاقتصادي الذي يحيط بها. فإذا كان القانون في تعريفه يتضمن ”مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الأفراد (القانون الخاص Private law) أو بين الدولة أو الشخص المعنوي العام والأفراد (القانون العامPublic law )”، فإن من بين تلك العلاقات وأغلبها، بل من أهمها العلاقات الاقتصادية (مباشرة وغير مباشرة)، فكيف ينظم علاقات اقتصادية وهو لا يعلم بماهيتها؟! كما أن القواعد القانونية البحتة لها أبعادها الاقتصادية: فعلى سبيل المثال، قبل إصدار قانون ينظم عملية انتخاب أعضاء المجالس النيابية، وما إذا كان من الأفضل تبني نظام الانتخاب الفردي أم الانتخاب بالقائمة، لابد أن يثار التساؤل عن البعد الاقتصادي Economic Dimension لعملية الاختيار بين النظامين! فأيهما أفضل من الناحية الاقتصادية؟ أي دراسة التكلفة والعائد الاقتصادي للنظامين.
كما أنه قبل تطبيق عقوبة معينة عن جريمة مثل السرقة، قد يثار التساؤل عن العلاقة بين ظاهرة معينة مثل البطالة (اقتصادية) وتلك الجريمة، وهل من الأفضل زيادة تكلفة الجريمة بزيادة العقوبة أم بتوفير فرص العمل؟ وإلى غير ذلك من الأمثلة التي لا تحصي عن أهمية المعرفة الاقتصادية لدارس القانون. يقود هذا الفهم إلى رسم سياسة اقتصادية أو جنائية أو قانونية سليمة، أليس كذلك؟ وقد تطرقت لهذه الأمور في دراستين موسعتين حول اقتصاديات الجريمة والتحليل الاقتصادي للقضاء، ويسعدني إهداؤهما لمن يريد.
وبناءً عليه، فإذا كان العالم والجميع يتحدث الآن بلغة الاقتصاد، فإن دارس القانون أولي بهذا الحديث، كي يكون علي قدر وافٍ من المعرفة الاقتصادية، سواءً بصفته مشرعاً أو قاضياً أو محامياً. ومن ثم، فإن القانون يعتبر منظما لواقع مادته الأولية هي الاقتصاد! فيفترض أن المشرع حينما يضع قاعدة قانونية، أنه قد راعى واقع الحياة الاقتصادية، وإلا ما كانت القاعدة القانونية معبرة عن هذا الواقع. ومن ناحية أخرى يستطيع المشرع وهو يأخذ في حسبانه وقائع الحياة الاقتصادية عندما يضع القاعدة القانونية أن يؤثر في تلك الوقائع. فمثلا يؤدي فرض ضريبة جمركية معينة إلي قيام صناعات جديدة ما كانت لتقوم في غياب تلك الحماية.
كما أن صدور قانون بتحويل الملكية من القطاع العام Public Sector إلى القطاع الخاص Private Sector أو التوجه نحو الاقتصاد الحر (أو العكس) إنما بني على تحليل اقتصادي، خلص إلى عدم صواب الاعتماد الكلي على القطاع العام، فكان لابد من تحرك من قبل المشرع نحو إعمال نظام اقتصادي آخر، من خلال إصداره لقانون جديد. ومن ثم، يمكن تفسير العلاقة بين كل من القانون والاقتصاد في تلك الحالة بأنها علاقة سببية، كل منهما سببا للآخر، مؤثر فيه ومتأثر به. الأكثر من هذا، أن هناك قوانين هي في حقيقتها تشريعات اقتصادية بحتة، مثل أنظمة الشركات، القطاع العام، قطاع الأعمال العام أو الخاص، قوانين الاستثمار، قوانين المصارف والجمارك والموازنة العامة والتجارة الخارجية ومنظمة التجارة العالمية… إلخ.
وعلى هذا فإن فهم القانون فهماً صحيحاً يستلزم توافر المعرفة الاقتصادية السليمة، وهذه لن تتحقق إلا بوجود قسم كامل ومتكامل لدراسة الاقتصاد شأن ما هو معمول به في باقي دول العالم. وعليه، فمما لا شك فيه، أن فهم حركة التطور الاقتصادي وشفافية الأهداف المرجوة تقود إلي وضع التشريعات المنظمة للنشاط والتي تقوده وتحميه على نحو سليم، يكفل استقرار المناخ التشريعي للأنشطة المختلفة.
ففي حالة غياب الرؤية الاقتصادية لدى المشرع، قد يُصدر تشريعاً يناهض متطلبات الواقع الاقتصادي، وربما يَضطر إلى تعديله خلال فترة وجيزة، ومن ثم معايشة حالة من عدم الاستقرار التشريعي، وسببها في الأصل عدم الفهم الكامل لمتطلبات الواقع الاقتصادي. وعليه، أضع هذا المقترح أمام جميع المعنيين بتطوير الدراسات القانونية في المملكة، وخاصة أن المرحلة المقبلة تتطلب مواكبة المنظومة التشريعية والقضائية والقانونية للمتطلبات والطموحات الاقتصادية، فإما أن يكون القانون أداة لدعم مسيرة التنمية أو أن يكون على عكس ذلك. ووجود قسم للاقتصاد في كليات القانون، في مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا، يمكن أن يدعم تلك الطموحات للاعتبارات التي أشرنا إليها. فالمملكة في حاجة إلى جيل من الخبراء، الذين يجمعون بين المعرفة القانونية والمعرفة الاقتصادية، حتى يمكن التعامل مع المتغيرات الجديدة، كمنظمة التجارة العالمية والمحاكم الاقتصادية والمالية… إلخ. والله ولي التوفيق.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً