مقال قانوني مميز حول المسؤولية المدنية في التأمين الإجباري على السيارات ضد الغير
محاضرة ألقيت في عمّان بتاريخ 6/6/1996 بدعوة من نقابة المحامين
وبتاريخ 18/2/1998 في مجمع النقابات في اربد
أبدأ حديثي هذا بالتوجه بالشكر للمحامي الأستاذ حسين مجلّي نقيب المحامين والأخوة أعضاء مجلس النقابة الذين أتاحوا لنا فرصة اللقاء للتحدث معاً بموضوع هام وحيوي, وهو التأمين الإجباري ضد الغير الخاص بحوادث السيارات, والذي تزداد أهميته يوماً بعد يوم نظراً لكثرة هذه الحوادث وما ينجم عنها من مشاكل قانونية مختلفة.
وفي هذا اللقاء سأعالج باختصار أهم النقاط الخاصة بمثل هذا النوع من التأمين على النحو التالي:
أولاً: الرضائية والشكلية في عقد التأمين
الأصل في كل عقد, كما هو معروف, أنه عقد رضائي إلا إذا وجد نص قانوني أو اتفاق يقضي بغير ذلك. ولا يوجد في القانون الأردني أي نص خاص يقضي بأن عقد التأمين شكلي. وبناء عليه, فإن عقد التأمين عموماً, بما في ذلك التأمين الإجباري موضوع البحث, هو عقد رضائي حسب أحكام القانون الأردني. أما بالنسبة لإثبات العقد, فإنه لا يجوز إثباته إلا كتابة كما جرى على ذلك التطبيق العملي, أو بمعنى أدق أعراف التأمين, وهو ما أكده القضاء الأردني بقوله, أن عقد التأمين هو عقد رضائي ولكن لا يجوز إثباته إلا كتابة, ولا تغني الشهادة ولا القرائن عن ضرورة إثباته كتابة(تمييز حقوق 3/90).
ثانيا: طبيعة التأمين ضد الغير(تأمين من المسؤولية)
من خصائص التأمين ضد الغير أنه تأمين من المسؤولية المدنية بخلاف الفكرة التي كانت سائدة في وقت من الأوقات من أنه اشتراط لمصلحة الغير. ولتوضيح ذلك نفترض أن (أ) يملك سيارة,أمن عليها ضد الغير لدى شركة التأمين (ب). وأثناء قياداته للسيارة اصطدم بسيارة (ج) فأضر بها. في هذه الحالة يكون (أ) مسؤولا مدنيا في مواجهة (ج). ولتغطية هذه المسؤولية, أمّن على السيارة لدى شركة (ب). وبناء عليه, فإن (أ) بإجرائه عقد التأمين, يكون قد أمّن لصالح نفسه وليس لصالح الغير(ج). ويترتب على هذا المبدأ العديد من اﻵثار منها ما يلي:
أ-لو ثبت بأن (أ) لم يكن مسؤولاً عن الحادث, وبالتالي عن الضرر الذي لحق ب(ج), فإن شركة التأمين (ب) لا تكون مسؤولة في مواجهة (ج). وبمعنى آخر, فإن مسؤولية (ب) مرتبطة وجوداً بمسؤولية (أ), بل وبمقدار هذه المسؤولية. فلو قررت المحكمة عدم مسؤولية (أ), فإنه يتعين عليها أن تقضي حكماً بعدم مسؤولية (ج). ولو قررت, استنادا للمادة (265 / مدني) ان مسؤولية (أ) هي (50%), فلا يجوز ان تزيد مسؤولية (ب) عن هذه النسبة.
ب-خلافاً لأحكام الاشتراط لمصلحة الغير (المادة 210/ مدني), فإنه لا يجوز لشركة التأمين أن تثير في مواجهة الغير المتضرر, الدفوع التي لها في مواجهة المؤمن له (أ) والناشئة عن عقد التأمين. وقد تأكد هذا المبدأ في نظام التأمين الإلزامي على المركبات لتغطية أضرار الغير رقم 29/85 (النظام), حيث نصت المادة (9/ ب) منه على ما يلي:
” للغير المتضرر الحق في الرجوع على شركة التأمين المؤمن لديها المركبة المتسببة للضرر, ولا تسري بحقه الدفوع التي يجوز لشركة التأمين أن تتمسك بها تجاه المؤمن له”.
ج-لا ينتج التزام شركة التأمين أثره إلا إذا قام الغير المتضرر بمطالبة مالك السيارة (المؤمن له) بالتعويض على الغير عن الأضرار التي لحقت به بسبب السيارة, وهو ما نصت عليه صراحة المادة (930/مدني). ومن تطبيقات القضاء الوثيقة الصلة بالموضوع ما يلي :
(1) أنه يشترط لإقامة الدعوى ضد شركة التأمين إقامتها ضد المؤمن له (المالك) أو سائق السيارة الذي أحدث الضرر (تمييز حقوق رقم 1437/91؛ ورقم 988/89؛ ورقم 278/88).
(2) بناء عليه, إذا أقيمت الدعوى ضد شركة التأمين فقط, فإنها ترد (تمييز حقوق 779/90).
(3) إن المطالبة الودية من جانب المتضرر للمؤمن له (أو السائق) تكفي لقيام مسؤولية شركة التأمين (تمييز حقوق 21/86). ومن الملاحظ أن هذا الحكم لا يستقيم مع المبادئ السابقة, التي تشترط لمسؤولية شركة التأمين إقامة الدعوى ضد مالك السيارة أو سائقها.
د-إن هذا النوع من التأمين هو تأمين تعويضي يقدر بمقدار الضرر الحاصل لذمة المؤمن له (المالك) في مواجهة الغير بسبب السيارة المؤمن عليها. ويشترط في ذلك أن لا يتجاوز التعويض مبلغ التأمين, وهو ما استقرت عليه اجتهادات القضاء بالنسبة للشق الأخير من هذا المبدأ (تمييز حقوق رقم 745/95؛ ورقم 231/95؛ ورقم 1031/94؛ ورقم 1785/94؛ ورقم 1140/91). ومن اﻵثار التي تترتب على ذلك, أنه إذا تم تعويض الغير المتضرر عن الأضرار (المادية) التي لحقت به من أي جهة كانت (المالك أو السائق مثلاً), فإنه ليس له الرجوع على شركة التأمين بالتعويض. ولو دفع المؤمن له للمتضرر مبلغ التعويض, فإن رجوعه على الشركة استناداً لعقد التأمين إذا توفرت شروط ذلك, يكون بأقل قيمة من ثلاث قيم: مقدار الضرر الحاصل للشخص الثالث(المتضرر), ومقدار ما دفعه المؤمن له لذلك الشخص, ومقدار مبلغ التأمين.
ثالثاً: من هو الغير
حددت المادة (3) من نظام التأمين الإلزامي الغير كما يلي :
1- كل شخص يلحق به ضرر من جراء حادث تسببت السيارة المؤمن عليها بوقوعه, ويشمل ذلك ركاب السيارة العمومية. واعتبر القضاء الأردني السيارة السياحية من قبيل السيارات العمومية لغايات تطبيق هذا الحكم (تمييز حقوق 1031/94).
2- ويستثنى من ذلك الأشخاص التالية
– ركاب المركبة الخصوصية بمن فيهم السائق حيث لا يعتبرون من الغير, وهو ما أكده القضاء (تمييز حقوق 1265/92)(1).
– سائق المركبة العمومية ووالده ووالدته وزوجه وأولاده.
ولكن يشترط النظام لعدم اعتبار المذكورين من الأغيار أن تكون السيارة المؤمن عليها هي المتسببة بوقوع الحادث المؤمن ضده. وهذا يعني أنها إن لم تكن كذلك, فإن أولئك الأشخاص يعتبرون من الأغيار. والنص معيب لأنه لو كانت السيارة المؤمن عليها لم تكن المتسببة بوقوع الحادث, فإن هذا يخرج عن نطاق التأمين الإلزامي ونظامه من جهة, وبالتالي لا تكون شركة التأمين مسؤولة عن التعويض في مثل هذا النوع من التأمين كما ذكرنا سابقاً.
رابعاً: المسؤولون عن التعويض
هنالك أكثر من جهة تكون مسؤولة عن تعويض الشخص الثالث عن الضرر اللاحق به, وذلك على النحو التالي:
1- المالك, وأساس مسئوليته أمام العقد بينه وبين الشخص الثالث (مثل عقد نقل الركاب في السيارة العمومية), أو الفعل الضار وهو الغالب في الحياة العملية, حيث لا يكون هناك عقد بينه وبين الشخص الثالث.
ولو كانت المسؤولية تقصيرية, فإن السند القانوني لمسؤولية المالك هو المباشرة بالضرر كأن يكون هو سائق السيارة بالإضافة لملكيته لها (المادة 257/مدني). وقد تستند المسؤولية الى المادة 288/مدني وهي خاصة بالمسؤولية عن فعل الغير إذا كان السائق غير المالك, أو الى المادة 296/مدني وهي خاصة بالمسؤولية على أساس الحراسة.إلا أن القضاء الأردني اتجه الى عدم الأخذ بالمسؤولية على أساس الحراسة, وإنما بمسؤولية مالك السيارة في كل الأحوال عن الأضرار التي تلحقها سيارته بالغير. وسند القضاء في هذا الشأن المادة (5/أ) من قانون السير رقم 14/84 التي أوجبت على مالك السيارة أن يؤمن على سيارته. فلو لم يكن المالك مسؤولاً كما ذهب القضاء, لما أوجب عليه المشرع التأمين على سيارته (تمييز حقوق رقم 1070/87؛ ورقم 368/95).
ونحن لا نؤيد هذا الاجتهاد, ونرى ربط المسؤولية بالحراسة وليس بالملكية, وإن كانت الملكية قرينة على الحراسة, وعلى من يدعي العكس, وهو المالك عموماً, أن يثبت ذلك, وهو ما اتجه إليه الفقه والقضاء المقارن.
2- سائق السيارة مالكاً كان أو غير مالك, وأساس مسئوليته المباشرة للضرر سنداً للمادة (257/مدني), أو, كما ذهب الى ذلك القضاء, المادة(256/مدني) وتنص على أنه كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز بضمان الضرر (تمييز حقوق 1070/87).
3- شركة التأمين, وأساس مسئوليتها المادة (931/مدني) وتنص على ما يلي: “لا يجوز للمؤمن أن يدفع لغير المتضرر مبلغ التأمين المتفق عليه كله أو بعضه ما دام المتضرر لم يعوض عن الضرر الذي أصابه”. وهذا يعني, كما ذهب الى ذلك القضاء. أن حق المتضرر مستمد من القانون مباشرة وليس من عقد التأمين (تمييز حقوق 1240/92). ولكن من شروط مسؤولية شركة التأمين, وجود عقد تأمين صحيح وساري المفعول يوم وقوع الحادث من قبل السيارة المؤمن عليها. وهذا لا يتنافى مع القول بأن مصدر التزام الشركة هو القانون مباشرة.
خامساً: تضامن المسؤولين
يغلب في العمل أن يرفع المتضرر الدعوى ضد كل من المالك والسائق, إذا كان الأخير غير المالك, وشركة التأمين معاً لمطالبتهم جميعاًً بتعويضه عن الضرر اللاحق به. وقد اتجهت أحكام القضاء الى القول بأن مسؤولية هؤلاء تجاه المتضرر هي مسؤولية تضامنية (تمييز حقوق رقم 1023/92؛ ورقم 677/95).
ولكننا لا نؤيد هذا الرأي لسببين على الأقل:
الأول: أنه لا تضامن إلا بنص في القانون أو بالاتفاق. ولا يوجد في القانون نص يقضي بالتضامن سوى ما نصّت عليه المادة (9/1) من نظام التأمين بقولها ” شركة التأمين ومالك السيارة وسائقها مسؤولون بالتضامن عن التعويض عن الأضرار التي تلحق بالغير بمقتضى هذا النظام”. وبرأيي أن هذا النص غير قانوني ما دام أن المسؤولية التضامنية يجب أن تتقرر بقانون وليس بنظام.
الثاني: أن القول بالتضامن لا يستقيم مع ما ذهب إليه القضاء من أنه لا يجوز إقامة الدعوى على شركة التأمين فقط دون إقامتها, في الوقت ذاته, ضد مالك السيارة أو مالكها أو الاثنين معاً. وهو ما ذكرته قبل قليل. فلو كانت مسؤولية شركة التأمين تضامنية مع المالك والسائق لجاز إقامتها ضد المالك أو السائق, وهذا من مقتضيات التضامن حسب المادة (428/1 مدني) وتنص على أنه ” للدائن أن يطالب بدينة كل المدينين المتضامنين أو بعضهم…”.
وبرأيي أن المسؤولية هي تكافلية (وليس تضامنية) كما ذكرت في بحث سابق لي حول هذا الموضوع(2). واختصاراً للوقت, فإنني أحيل هنا الى ما ذكرته في ذلك البحث.
سادساً: الدعاوي المدنية
بالإضافة لدعوى المتضرر ضد كل من المالك والسائق وشركة التأمين على النحو الذي ذكرناه فيما مضى, هناك دعاوى أخرى مرتبطة بالتأمين, نود الإشارة إليها فيما يلي:
1- دعوى المالك (المؤمن له) بالرجوع على شركة التأمين بما دفعه للمتضرر من تعويض. فالمالك, لسبب أوﻵخر, قد يدفع التعويض للمتضرر. وعندئذٍ يحق له أن يرجع بدعوى مستقلة, أساسها عقد التأمين, على شركة التأمين. ولكن يجب هنا مراعاة المادة 925/مدني وتنص على ما يلي:
1- يجوز الاتفاق على إعفاء المؤمن من الضمان إذا أقر المستفيد بمسؤوليته أو دفع ضماناً للمتضرر دون رضاء المؤمن.
2- ولا يجوز التمسك بهذا الاتفاق إذا كان إقرار المستفيد قاصراً على واقعة مادية أو إذا ثبت أن دفع الضمان كان في صالح المؤمن.
2- دعوى شركة التأمين بالرجوع على المؤمن له. وسبب هذه الدعوى وأساسها أن شركة التأمين ملزمة, كما ذكرنا, بأن تدفع للمتضرر مبلغ التأمين ما دام لم يعوض عن الضرر الذي أصابه. وكما ذكرنا أيضاً, فإنه لا يجوز للشركة أن تثير في مواجهة المتضرر بالدفوع التي لها في مواجهة المؤمن له, والناشئة عن عقد التأمين. فإذا دفعت الشركة للمتضرر على هذا الأساس, وكان لها دفع حرمت من إثارته قانوناً, فإنه يجوز لها عندئذٍ أن ترجع بما دفعته على المؤمن له (المسؤول عن الحادث).هذا وقد حددت المادة (11) من نظام التأمين حالات الرجوع بدعوى كهذه وفق ما يلي:
أ-إذا كان السائق غير مرخص لسوق المركبة وقت وقوع الحادث.
ب- إذا كان السائق في حالة سكر شديد أو تحت تأثير المخدرات وقت وقوع الحادث.
ج-إذا وقع الحادث أثناء استعمال المركبة في غير الأغراض المرخصة من أجلها أو استخدمت لغايات مخالفة للقانون أو النظام العام
د- إذا ثبت أن الحادث كان متعمداً من قبل سائق المركبة.
هـ – أية مبالغ تدفعها شركة التأمين للغير والتي تزيد على حدود مسؤوليتها بموجب هذا النظام.
سابعاً: مقدار التعويض
يشمل تعويض المتضرر (الشخص الثالث), في حدود مبلغ التأمين, ما يلي:
1- الأضرار المادية التي لحقت بأمواله مباشرة, وهذه كما ذكرنا لا يجوز تقاضي تعويض عنها إلا بمقدار الضرر الحاصل فعلاً, بما في ذلك الربح الفائت (فوات منفعة السيارة), ويشمل ذلك, كما ذهبت الى ذلك بعض أحكام القضاء, نقصان قيمة السيارة المتضررة. بمعنى الفرق بين قيمة السيارة قبل وقوع الحادث وبعد تصليحها( تمييز حقوق 1390/94). ومثال ذلك أن تصدم سيارة (أ) سيارة (ب). وكانت قيمة الأخيرة قبل وقوع الحادث (10,000) دينار, ويتم إصلاحها ب (3000) دينار ولكن يقدر الخبراء قيمتها بعد الإصلاح, بسبب الحادث طبعاً, ب (9500) دينار. في هذه الحالة تعوض شركة التأمين المتضرر (ب) بمبلغ التصليح (3000), بالإضافة الى نقصان القيمة (500) دينار(3) .
2- الأضرار الجسدية, وهذه تعوض عنها شركة التأمين وفق التقديرات المحددة فيه بحيث لا تتجاوز مسئوليتها عن الحادث الواحد مائة ألف (100,00) دينار. وقد تحدد النظام مقدار التعويض عن كل نوع من الضرر (مثل الوفاة وفقدان البصر والعجز….الخ). ولكن استقر اجتهاد القضاء على أن توزيع التعويض وتقسيمه لا يسري على الشخص الثالث (الغير متضرر) ما دام التعويض في حدود مبلغ التأمين (تمييز حقوق رقم 294/93؛ ورقم 1140/91؛ ورقم 957/88).
3- الأضرار المعنوية أو الأدبية, ويقصد بها اﻵلام النفسية والإضرار بالإحساس والشعور والعاطفة. وبعض أحكام القضاء ترى التعويض عن هذا النوع من الأضرار (مثلاً تمييز حقوق رقم 294/93؛ ورقم 882/92؛ ورقم 241/91) في حين تذهب أحكام أخرى الى غير ذلك (مثلاً تمييز حقوق رقم 745/95؛ ورقم 1088/94), مع القول أحياناً بأن اﻵلام النفسية تخرج عن مفهوم الضرر الأدبي (تمييز حقوق 1260/93)
اترك تعليقاً