نظرة تاريخية و فلسفية حول مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي
(من حمورابي إلى ماركس)
تعدّ العدالة محور المعتقدات الأخلاقية في أي دين، فهي الحل التشريعي والنفسي الذي يقترحه ذلك الدين لمعضلة البشر الأزلية: صراع الخير مع الشر. وبالتالي، فأن جوهر أي دين يمكن اختزاله إلى أسلوب تناوله لموضوعة العدالة.
فقد عبرت البوذية Buddhism بأفكارها عن احتجاج عامة الشعب على الديانة البراهماتية بسبب فوارقها القبلية المقدسة، إذ يخاطب (بوذا) (562-483) ق.م الظالمين قائلاً: (فيا من تقترفون المظالم، انتبهوا إلى أنفسكم، وانظروا الأشياء بأعيانها لا بظواهرها، ولا تستسلموا إلى عبودية الذات، فتقعوا في شر أعمالكم، واعلموا أنكم لا تجنون من العلقم عنباً).
أما الكونفوشيوسية Confucianism، التي تنسب إلى(كونفوشيوس) (551-479)ق.م، فترى ان القاعدة الأخلاقية موجودة فينا ولا يمكن ان تنفصل عن أنفسنا. فالإنسان لا يفعل الشر عن علم بل عن جهل، ولكنه لو عرف الخير لاتجه اليه بشكل طبيعي. فالشر جهل والخير علم. اما سبب المصائب التي حلت بالإنسانية فهي المِلكية الخاصة، التي تؤدي إلى التطاحن والصراع.
وآمنت الديانة اليهودية، في الربع الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، بأن الله يحب العدالة، وقد شيّد عرشه عليها، وأن الإنسان لكي يحيا حياة الحق، عليه ان يتعامل بعدالة على الدوام مع الآخرين، إذ جاء في التوراة (العهد القديم): (كلامُ الربِّ مستقيمٌ /وكلُّ أفعاله حقٌ /يحبُّ العدلَ والأنصافَ،/ ومن رحمته تمتليء الأرضُ) (مزمور 33:4-5). أما كتاب (التلمود) الذي بدأ حاخامات اليهود بتأليفه للمرة الأولى بين العامين (190-200)م، مغيّرين من خلاله أحكام التوراة، فقد أباح الربا، وتقديم الأطفال قرباناً للإله (مولوخ) Moloch، وكراهية الأجانب غير اليهود، وقدّم معياراً مزدوجاً للعدالة، إذ ما يباح من حقوق لليهود لا يباح لغيرهم من الأقوام والأديان.
وشددت المسيحية على أن كل الأحكام ينبغي أن تتخذ بعدالة. وعلى الإنسان أن يكون متيقظاً لكي لا يسقط في أحكام الشر. فالله عادل، وسيقاضي كل الناس بالعدل طبقاً لأفعاله. فجاء في الإنجيل (العهد الجديد): (أيها السادةُ عاملوا عبيدكم بالعدْلِ والمساواةِ عالمينَ أن لكم أنتم أيضاً سيداً في السماءِ) (كولوسي 4:1).
أما الإسلام، فعدّ العدالة مبدأً أساساً يجب تحقيقه في جميع مظاهر النشاط الانساني، إذ يؤكد القرآن الكريم كثيراً على إقامة العدل بوصفه هدفاً في كل مجتمع إسلامي، وقد وصف العدل بثلاث كلمات هي (العدل) و (القسط) و(الميزان)، كما تكررت مادة العدل بمشتقاتها ما يقرب من ثلاثين مرة فيه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة النحل: آية90).
وجاءت فريضة الزكاة إحقاقاً للعدالة الاجتماعية في الاسلام، بوصفها جوهر النظام الاقتصادي الإسلامي. وحكمتها هي رفض ان يتحكم فرد في مصائر الناس بحجب المال عنهم، لأن حجز المال فيه ظلم للمال والمجتمع، فيقول النبي محمد (ص): (من احتكرَ طعاماً أربعين يوماً فقد بريءَ من الله وبريءَ الله ُمنهُ). فالمال في الإسلام له وظيفة اجتماعية غير فردية، وهو لا يقصد لذاته وإنما لأداء خدمات اجتماعية تحقق المصلحة العامة. ويضمن الشرع الإسلامي والقضاء الإسلامي لكل فقير الحق في أن يرفع دعوى النفقة على الأغنياء من أقاربه. ويعني ضمان حد الكفاية هذا، أن الإسلام يكفل الحاجات الأولية للحياة الآدمية، إذ يخاطب الله (آدم) بعد أن طرد إبليس من الجنة: (إنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) (سورة طه: آية 118-119).
وبنشوء الدولة العربية الإسلامية وتوسعها، أصبح القرآن المصدرَ الأساس لأبحاث الفلاسفة المسلمين في قضايا الأخلاق، فضلاً عن تأثرهم في الوقت ذاته بالتراث الفلسفي اليوناني، وخاصة بافلاطون وارسطو. فقد أصبح (العدل) أحد الأصول الخمسة لـ (المعتزلة) بوصفه الأصل الخاص بمبحث (الحرية والاختيار) بالنسبة للإنسان، و(التعديل والتجوير) بالنسبة للذات الإلهية.
وتأثر (الفارابي) (873-953)م بمفاهيم الأخلاق لدى الفلاسفة اليونان، فالعدالة لديه ليست عدالة مساواة، بل عدالة توزيعية، إذ يقول: (العدل أولاً يكون في قسمة الخيرات المشتركة التي لأهل المدينة على جميعهم… فأن لكل واحدٍ من أهل المدينة قسطا ًمن هذه الخيرات مساوياً لأستئهاله، فنقصه عن ذلك وزيادته جور). والأفراد والجماعات في مدينته الفاضلة هم طبقات تتغالب فيما بينها، فمن غلب وقهر كان هو الفائز السعيد. ولما كان الغلب جزءاً من الطبع الإنساني فهو عدل. فالعدل اذن هو التغالب عند الفارابي.
وحدد (ابن خلدون) (1332-1406)م ان الإنسان كائن مجبول على الخير والشر معاً، وعلى التعاون والعدوان. فالإنسان لديه مدني بالطبع ولا تستقيم أحواله الا بالعيش مع غيره من بني جنسه، غير ان فيه من جهة أخرى طبعاً عدوانياً هو آثار القوى الحيوانية فيه، يجعله يعتدي ويظلم أخاه الإنسان. ويستبعد ابن خلدون أن تصل المجتمعات إلى مرحلة المدينة الفاضلة، إذ يرى ان الأمل الذي يراود الناس من حين لآخر في ظهور منقذٍ يصحح الأوضاع ويقيم العدل ويعيد الأمور كما كانت عليه أيام الخلفاء الراشدين، ما هو إلا سراب خادع.
يتضح من هذا العرض، ان الأديان عامة، تتفق على عدّ الفعل الإلهي عادلاً بشكل مطلق، ومنزهاً عن الجور والتعسف. أما المظالم على الأرض فهي سيئات من صنع البشر، لابد من محاسبتها والتكفير عنها، فأن لم يحدث ذلك عاجلاً في الحياة الدنيا، فسيحدث بالتأكيد في الحياة الآخرة. فالأديان بهذا الوصف، تشجع على الاعتقاد بالعدالة النهائية للعالم، بوصفها (أي العدالة) الغاية الأخيرة من هذا الوجود، أما المظالم الآنية فما هي إلا خطايا وذنوب مؤقتة تنتظر العقاب أو التصحيح.
العدالة في الفكر الفلسفي
تبحث موضوعة العدالة في الفلسفة ضمن فرع (الأخلاق) Ethics، الذي يعنى بتحديد ما هو الصالح والطالح، وما هو الصائب والخاطيء من الناحية الأخلاقية.
وقد حاولت الفلسفة بمختلف مذاهبها، ومنذ بداياتها، أن تبحث في (ماهية) Essenceالعدالة، بطرحها لعدد من الأسئلة الجوهرية: (هل ينطوي هذا العالم على العدالة ام الظلم؟)، (ما الموقف العادل؟ وما السلوك العادل؟ وما القانون العادل؟)، (هل العدالة قيمة مطلقة تعلو على الحركة الاجتماعية؟ أم إنها قيمة نسبية تلتحق بالوعي الاجتماعي وتتغير بتغيره؟)، (ما المعيار الذي تتحد بموجبه العدالة؟ أهو حاجات الناس؟ أم قدراتهم؟ أم جهودهم؟ أم الشرائع الدينية؟ أم قوانين السلطة؟).
وقد نبع الخلاف الرئيس بين المذاهب الفلسفية التي حاولت الإجابة عن الأسئلة أعلاه، من مشكلة تحديد أي الفكرتين لها الأسبقية على الأخرى في تحديد ماهية العدالة: فكرة (الحق) Right أم فكرة (الخير) Good؟ وعلى أساس هذا الجدال حول فكرتي الحق والخير، يمكن تصنيف آراء الفلاسفة في ماهية العدالة ضمن ثلاثة منظورات رئيسة، بغض النظر عن التناقضات الجوهرية بين فلاسفة كل منظور حول مشكلات أصل الوجود وعلاقة المادة بالوعي:
(1)المنظور الوضعي
يرى هذا المنظور أن (القوي على حق)، فلا يعترف بشيء اسمه العدل أو عدم العدل، بل يؤمن بأن القانون الوضعي هو قانون عادل طالما أقرته الدولة، ويصبح غير عادل إذا لم يتفق مع آراء الدولة وأهدافها.
ويعد (السفسطائيون) Sophists في الألف الأول قبل الميلاد، من أقدم مناصري هذا المنظور، بقولهم إن كل ما يؤدي إلى نفع الطبقة الحاكمة هو في مصلحة المحكومين. وبالتالي فأن منفعة الأقوى هي العدالة عينها.
أما (هوبز) Hobbes (1588-1679)م فوضع مفهوماً محدداً للعدالة بقوله: (الظلم هو خرق القواعد العامة). فالعدالة هي الطاعة للقوي القادر على ان يجعل نفسه مطاعاً.
(2) المنظور الطبيعي
القانون الطبيعي هو ذلك القانون الأزلي الشامل الذي يضم مجموعة من القواعد السامية العامة الخالدة التي توحي بمقاييس مطلقة للحق والعدل. وهو ليس من خلق الإنسان، وإنما وليد قوة مهيمنة غير منظورة، يستطيع العقل الكشف عنه للاهتداء بمبادئه.
ويعد (افلاطون) Plato (427-347)ق.م من أوائل المدافعين عن القانون الطبيعي للعدالة. فالكون في منظوره كلٌ منسجم تهيمن عليه (سماءٌ) من المثل الخالصة غير المخلوقة وغير القابلة للتغير. والفضيلة ما هي الا صورة المقاييس العلوية المتمركزة حول مثال (الخير)، التي ينظمها مثال (العدالة).
أما (روسو) Rousseau (1712-1778)م فوجه نقداً قوياً للعلاقات الطبقية الإقطاعية والنظام الاستبدادي، وأيد الديمقراطية البرجوازية والحريات المدنية والمساواة بين الناس بصرف النظر عن أصلهم. واعتقد أنه في (الدولة الطبيعية) لا تنتفي فحسب الحرب التي يشنها كل إنسان ضد كل إنسان، بل تسود أيضاً الصداقة والانسجام بين الناس.
(3) المنظور النفعي
يؤمن هذا المنظور أن عدل الفكرة لا ينبع الا من النتائج التي تحققها الأفكار. وعلى هذا فأن عدالة الدولة تنبع من نتائج تطبيقها للقوانين. فاذا كانت القوانين تؤدي إلى أهدافها المطلوبة منها فهي عادلة، وإذا لم تحقق أهدافها فهي غير ذلك.
فقد دعا (بنثام) Bentham (1748-1832) م زعيم القائلين بـ (مذهب المنفعة) Utilitrianism إلى الأخذ بقواعد القانون وإخضاعها لاختبار حساب المنفعة hedonic calculus بهدف زيادة سعادة الناس وإنقاص ما يعانونه.
وانتقد (ديوي) Dewey (1859-1952) م، وهو من مطوري (الفلسفة الذرائعية) Pragmatism، الفكرة المثالية القائلة أن هذا العالم يعمل على معاونة الخير وتحقير الشر. وعدّ مفاهيم (العدل المطلق) أو (المساواة المطلقة) أو (الحرية المطلقة) تعبيراً عن عوالم وهمية مثالية. فالأخلاق في نظره لا تكمن في إدراك الحقيقة، ولكن في الاستعمال الذي ينتج عن إدراكها.
يستدل مما تقدم أن كلاً من المنظورات الفلسفية الثلاثة السابقة الذكر قد تبنى مفهوماً أخلاقياً مطلقاً للعدالة. فالمنظور الوضعي ينظر إلى العدالة بوصفها طاعة الأفراد لقوانين السلطة، بينما يعدّها المنظور الطبيعي جزءاً متأصلاً في طبيعة الإنسان ولا يحتاج لاكتشافها إلا لاستخدام العقل، ومن ثم تطبيقها بواسطة القوانين الوضعية المعززة لقواعد القانون الطبيعي. أما المنظور النفعي فيرى ان العدالة تتحقق عندما تؤدي القوانين أهدافها في تحقيق منفعة الناس وخيرهم. إن أياً من هذه المنظورات الثلاثة لم يقدم حلاً متكاملاً لمشكلة ماهية العدالة. فلتنظيم عملية تلبية الحقوق الطبيعية للأفراد، لابد من اللجوء إلى القوانين الوضعية، إذ أن هذه القوانين تسهم بدورها في صياغة محددات نوعية وكمية للحقوق الطبيعية، ومن غير ذلك تنتفي خاصية الاجتماع البشري. كما ان القوانين الوضعية ذاتها تتغير عبر التأريخ لتتلاءم مع تنامي حاجات البشر وتطور وعيهم الاجتماعي. وبالمقابل فأن المنظور النفعي هو محاولة لتحقيق الانسجام بين تلبية حاجات الفرد وتحقيق الصالح العام، لكنه (أي المنظور النفعي) لم يحدد المعنى الإجرائي لمفهوم الصالح العام، كما بالغ في عدّ (الحق) نتاجاً آنياً للمتطلبات المادية للمجتمع الصناعي، مجرداً اياه من بعض أبعاده الأخلاقية التي اكتسبها الناس في منظوماتهم القيمية بتأثير الموروث الثقافي لحضاراتهم.
منقول
اترك تعليقاً